العظيم العاقل
العظمة الحقة، وكمال العقل هبة يهبها الله عز وجل لأفراد من الناس؛ فيكونون مهيئين للقيام بجلائل الأعمال. كما أن تلك الصفات قد تكتسب، أو يكتسب شيء من مقوماتها، خصوصاً إذا كان لدى الإنسان استعداد فطري، ثم نمَّاه بالعلم، والعمل، ومطالعة سير الكُمَّل.
العظمة الحقة، وكمال العقل هبة يهبها الله عز وجل لأفراد من الناس؛ فيكونون مهيئين للقيام بجلائل الأعمال.
كما أن تلك الصفات قد تكتسب، أو يكتسب شيء من مقوماتها، خصوصاً إذا كان لدى الإنسان استعداد فطري، ثم نمَّاه بالعلم، والعمل، ومطالعة سير الكُمَّل.
ومما يعين على ذلك أيضاً النظر في العلامات التي تشير إلى ذلك، وتجعل من يتمثلها يوصف بأنه عظيم عاقل.
وفيما يلي ذكر لشيء من ذلك؛ فعلامات العظيم العاقل كثيرة جداً، وكُتُب السير والتراجم حافلة بذكر تلك العلامات.
ومما يحضر في هذا الشأن من تلك العلامات: تقوى الله عز وجل وصدق الحديث، وترك ما لا يعني.
ومنها: حسن السمت، وطول الصمت، وتدبُّر العواقب.
ومنها: حبُّ العلم، وحسن الحلم، وصحة الجواب، وكثرة الصواب.
ومنها: التغاضي، والتغافل، والصفح، والعفو، ومخالفة الهوى.
والعظيم العاقل إذا أبغض أنصف، وإذا أحبَّ ألطف.
وهو هادئٌ ثابتٌ بصيرٌ لا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، ولا يكسره الإخفاق، ولا يتطوَّس به النَّصْر، ولا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة.
وهو نزيهٌ، متواضعٌ لا يغُرُّه المجد العاجل، ولا يَفْتِنُه التنافس في سبيل الظهور.
والعظيم العاقل يستطيع أن يذيب شهوته في مصلحة أمته، ويحتفظ بتماسكه وقواه لساعات الشدائد، وهو يعرف متى يُقْدِم، ومتى يُحْجِم؛ فيحسن الوقوف في مواقف الشجاعة والإقدام، كما يحسن الوقوف في مواقف الحيطة والحذر.
والعظيم العاقل يؤْثِر الصراحة المقرونة باللطف واللباقة، وينأى بنفسه عن الملق والرياء، والمواربة، والصفاقة، وتراه يَزِنُ عقولَ مَنْ يلاقونه، فيتحامى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق، وتراه يعرف إمكاناته، وطاقاته، وموقعه؛ فلا يتخطى حدوده، ولا يُقَصِّر فيما يجب عليه.
والعظيم العاقل ذو نفسٍ كبيرة؛ فإذا تَوجَّه نحو المطمح مَرَّ بالصغائر؛ فلا تعوقه عن مواصلة السير حتى يبلغ الغاية.
وقد تقضي على العظيم العاقل ضرورةٌ من ضرورات الحياة آلاماً، وأحزاناً؛ فيودعها في قرارة نفسه، ثم يغلق دونها باباً من الصمت والكتمان، ثم يصعد إلى الناس باشَّ الوجه، باسم الثغر، متطلقاً متهللاً كأنه لا يحمل بين جنبيه هماً ولا كمداً.
والعظيم العاقل لا يستسلم لعوارضه النفسية؛ فيجعلها تَحْكُم علاقاته، وتصرفاته، بل يحافظ على روابطه الاجتماعية، فلا يُفَرِّط في معارفه، وأصدقائه، ولا يقطع ما أبرمه من ذلك إلا في أضيق الحدود، ولأسباب ظاهرة بيِّنة معقولة لا خفية موهومة محتملة.
والعظيم العاقل لا يشمت بأحد، ولا يفرح بمصائب الآخرين، بل يفرح بالنجاح والخير سواء تمَّ على يده أو على يد أحد من إخوانه، وتراه يأسى للإخفاق سواء صدر منه أو من أحد إخوانه.
والعظيم العاقل به يُستكثر القليل من معروف الناس، ويستقل الكثير من معروفه.
وهو هيِّن ليِّن، متواضع في سيرته، بعيد عن وسائل الخلابة والاسترهاب، يستمد بساطته من عظمته، وعَظَمَته من بساطته.
متبذلٌ في الحي وهو مُبَجَّل *** متواضع في القوم وهو معظم
ومقياس اتسام العظيم بسمات العظمة يكون بمقياس غُنْيَتِه عن مخايل التعاظم الزائفة.
كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحَقَّة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل -كما يقول ابن عاشور- ويقول ابن الرومي في أحد ممدوحيه مشيراً إلى هذا المعنى:
وما الحلْيُ إلا حيلةٌ من نقيصة *** تُتَمِّمُ من حسنٍ إذا الحسن قصَّرا
وأما إذا كان الجمال موفَّراً *** كحسنك لم يَحْتجْ إلى أن يزوَّرا
والعظيم العاقل يمتلك روح الأبوة؛ فتراه يَحْدِبُ على إخوانه، وأصدقائه، ومعارفه، وزملائه، ويسعى في مصالحهم دون أن يُحَمِّلهم شيئاً من همومه.
والعظيم العاقل لا ينتظر جزاءًا ولا شكوراً من أحد، وإن شكره أحد أو كافئه كان شعوره بمعنى الجزاء أو الشكور أكثر من فرحه بما يُقَدَّم له من جزاء أو شكور.
والعظيم العاقل يتعامل مع الحقائق، ويتباعد عن الأوهام الكاذبة، والظنون السيئة، والتحليلات الخاطئة؛ فعلاقاته، وأحكامه مبنية على أساس متين لا على كثيب مهيل.
والعظيم العاقل لا يتكلف في معاملته، ولا تخشى بوائقه، أو سوء ظنونه.
والعظيم العاقل يحفظ الغيبة والحضور، ويحسن الحديث والإصغاء، ولا يخوض في كلِّ مجال، ولا يبدي رأيه في كل مسألة.
والعظيم العاقل حريص على جمع الكلمة، بعيد عن كل ما يكدر الصَّفْو، ويُفَرِّق الشَّمْل.
والعظيم العاقل يمتلك روح المبادرة؛ فتراه يبادر إلى الإصلاح، ويسعى إلى تقديم النافع من الاقتراحات والحلول؛ فيكون سبباً لإسعاد نفسه وقومه.
وهو الذي يفوق قومه في الخير، ويُفْزَع إليه عند الشدائد والنوائب.
والعظيم العاقل واسع الصدر بالنقد، متقبلٌ ما يَرِدُ إليه من ملحوظات، أو تعقيبات.
والعظيم العاقل لا يغمط الناس حقوقهم، ولا تحدثُه نفسه أن يسرق شيئاً من جهودهم أو أعمالهم، ولا يستنكف من بذل الثناء لمستحقه، ولا ينأى عن الاعتراف للمحسن.
والعظيم العاقل كهفٌ للمظلومين، أمان للخائفين، ربيع للمنتجعين؛ كما قال المغيرة بن حبناء في مدح المهلب بن أبي صفرة:
أمنٌ لخائفهم فيض لسائلهم *** ينتاب نائله البادون والحضرُ
والعظيم العاقل لا يقلِّل من قيمته جهلُ الناس، أو جحودهم شيئاً من فضله؛ فهو عظيم بأعماله، وبقدره، وبخلقه، وجوهره؛ فهو مثل الدُّرِّ الذي قيمته ونفاسته فيه لا فيما يقال عنه؛ ففضل الشيء كامنٌ فيه ولو عُزِي إلى غيره:
كالعطر يعبق في المجالس نشرُه *** والفضل منسوبٌ إلى المتعطِّر
هذا وإن للشعراء لَفَتاتٍ ووقفاتٍ في وصف العظماء العقلاء.
فهذا أبو الطيب يصف العظيم العاقل بأنه شجاع يقرن شجاعته بالحكمة، فيقول:
وكلُّ شجاعة في المرء تُغني *** ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وهذا شوقي يقول في نحو ذلك:
إن الشجاعة في الرجال كثيرة *** ورأيت شجعان العقول قليلا
ويصفون العظيم العاقل بأنه يقوم بمعضلات الأمور، ويتصدَّى لحلِّ المشكلات بارتياحٍ، ويَقَظَة، وثبات على نحو قول أبي تمام:
لا تَدْعُوَنْ نوحَ بنَ عمروٍ دعوةً *** للخطب إلا أن يكون جليلا
يقظٌ إذا ما المشكلاتُ عَرَوْنَه *** ألفيتَه المُتَبَسِّمَ البهلولا
ثَبْتُ المقامِ يرى القبيلةَ واحداً *** ويُرى فيحسبُه القبيلُ قبيلا
والعظيم العاقل عندهم سريع النجدة، منجحٌ للطِّلْبة، كما قال بشار:
إذا أيقظتك حروب العدى *** فَنَبِّهْ لها عمراً ثم نَمْ
ويصفون مجالس العظماء بأنها مجالس فضل وعقل على نحو قول زهير:
وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوهها *** وأنديةٌ ينتابها القول والفعل
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم *** مجالس قد يَشْفى بأحلامها الجهلُ
وقول الآخر:
لا يُقَال الفُحش في ناديهمُ *** لا ولا يَبخَلُ منهم من يُسَلْ
وكما يقول أحدهم في مجالسة عاقل عظيم:
وكنت جليسَ قعقاعِ بنِ شَور *** ولا يشقى بقعقاع جليسُ
ضحوك السن إن نطقوا بخير *** وعند الشر مطراقٌ عبوسُ
ويصفون العظماء بأنهم يُعْدُون جلساءهم بالمكارم على نحو قول أبي تمام:
ولو لم يزِعْني عنك غيرك وازع *** لأعديتني بالحلم إن العلا تعدي
أو قول بشار:
لمست بكفي كَفَّه أبتغي الغنى *** ولم أدْرِ أن الجود من كفِّه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى *** أفدتُ وأعداني فأتلفت ما عندي
ويصفون العاقل بأصالة الرأي، وتدَبُّر العواقب على نحو قول أحدهم:
عليم بما خلف العواقب إن سرت *** بديهته فضلاً بما في العواقب
وصيقلُ آراءٍ يبيت يَكُدُّها *** ويشحذها شَحْذَ المُدَى للنوائب
وإذا رثوا عظيماً عاقلاً له وزنه في ضبط الأمور ذكروا عظم الفادحة في فقده على نحو قول المهلهل في أخيه كليب:
أودى الخيار من المعاشر كلهم *** واسْتَبَّ بعدك يا كليبُ المجلسُ
وتنازعوا في كلِّ أمرِ عظيمة *** لو كنت حاضرهم بها لم ينبسوا
وكما قال الآخر:
هذا أبو القاسم في نعشه *** قوموا انظروا كيف تزول الحبالْ
وكما قال أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي:
كأن بني نبهان يوم وفاته *** نجومُ سماءٍ خرَّ من بينها البدرُ
ويقولون في ذمِّ التزهيد بالأكابر والعظماء:
فكبيرٌ ألا يصان كبيرٌ *** وعظيمٌ أن يُنبذَ العظماءُ
أو يقولون:
لا تَضَعْ مِنْ عظيمِ قدرٍ وإن كُنْـ *** ـتَ مشاراً إليه بالتعظيم
فالكبير العظيم يصغر قدراً *** بالتَّجَرِّي على الكبير العظيم
وإذا أثنى قائلهم على كبير بأنه لا يغفل صغار الأمور ولا كبارها أنشد:
لولا ملاحظةُ الكبيرِ صغيرَه *** ما كان يُعرف في الأنام كبيرُ
وإذا أثنوا على عظيمٍ جامعٍ لمكارم الأخلاق أنشدوا:
فتىً جمع العلياءَ علماً وعِفَّةً *** وبأساً وجوداً لا يُفيق فُواقا
كما جمع التفاحُ حسناً ونضرة *** ورائحةً محبوبةً ومذاقا
وقال أبو الطيب فيمن وصف عظيمٍ عاقلٍ جوادٍ:
كالبدر من حيث التفتَّ رأيتَه *** يُهْدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
كالبحر يقذف للقريب جواهراً *** جوداً ويبعث للبعيد سحائبا
كالشمس في كَبِد السماء وضوؤها *** يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
وقال الفرزدق في العظيم الذي ينخدع تكرماً وإغضاءًا:
استمطروا من قريش كل منخدع *** إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وهذا أحدهم يثني على عظيمٍ متواضعٍ ذي سلطان فيقول:
فتىً زاده السلطان في الخِلِّ رغبةً *** إذا غيَّر السلطانُ كلَّ خليل
وهذا أحدهم يثني على عظيم عُزل من منصبه فيقول:
لِيهْنَك إن أصبحت مجتمع الشملِ *** وراعي المعالي والمحامي عن المجد
وإنك صنت الأمر فيما وَليْتَه *** وفرقت ما بين الغواية والرُّشْدِ
فلا يحسبِ الأعداءُ عزلَك مغنماً *** فإنَّ إلى الإصدار ما غايةُ الورد
وما كنت إلا السيف جُرِّد للوغى *** وأحمد فيه ثم رُدَّ إلى الغِمْدِ
فهذه شذرات عن علامات العظيم العاقل، وهي -في الوقت نفسه- ترشد من يريد الاتصاف بتلك الصفات إلى أن يأخذ بها، أو يأطر نفسه على ما يستطيع منها.
- التصنيف: