القلب والجوارح (علاقة متبادلة)
مدحت القصراوي
جعل الله تعالى هناك تلازمًا بين الباطن من أعمال القلوب، وبين الظاهر من أعمال الجوارح، كما جعل تعالى للأعمال الظاهرة تأثيرًا في القلوب قد يدوم إلى يوم القيامة..
- التصنيفات: أعمال القلوب -
استلزام أعمال القلوب لأعمال الجواح الظاهرة، وتأثير أعمال الجوارح في القلوب.
جعل الله تعالى هناك تلازمًا بين الباطن من أعمال القلوب، وبين الظاهر من أعمال الجوارح، كما جعل تعالى للأعمال الظاهرة تأثيرًا في القلوب قد يدوم إلى يوم القيامة، ولنوضح الحالتين، ثم نبين أثر ذلك..
(أولاً): استلزام الباطن من أعمال القلوب للظاهر من الأعمال والأقوال.
1- أوضح تعالى أن الإسلام والتوحيد يوجب ويستلزم قبول حكم الله تعالى في كل وقت، بما أمر به تعالى في ذلك الوقت، وأن رد حكم الله تعالى في أي وقت وفي أي رسالة هو عمل لازم لانتفاء الإيمان من قلب العبد وباطنه، قال تعالى عن بني إسرائيل: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43].
فالتولي عن حكم الله تعالى لا يصدر عن قلب فيه إيمان، فالنفاق أو الكفر الباطن في القلب، يستلزم في الظاهر التولي عن حكم الله تعالى، وهذا طبيعة النفاق والزيغ في كل ملة، حيث أن الإسلام العام وهو التوحيد يوجب على أهل كل ملة التحاكم للشريعة الناسخة في زمنها، فلما تولى بنو إسرائيل عن حكم التوراة عُلم انتفاء الإيمان من قلوبهم بهذا العمل.
2- وفي بيان بعض ما يستلزمه النفاق الباطن من الأعمال الظاهرة التي يتحول معها النفاق الباطن إلى نفاق ظاهر، يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47]، وهذا في شأن المنافقين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتولي هنا هو التولي عن حكم الله تعالى بدليل سياق الآيات التالية، وأنها كلها في شأن التحاكم وقبول حكم الله تعالى من المؤمنين، أو رفضه من المنافقين.
3- وفي الجانب الإيجابي في بيان استلزم الإيمان الباطن للانقياد لحكم الله وقبوله إذا دُعي إليه العبد، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]، فطبيعة الإيمان في القلوب تستلزم عملاً ظاهرًا، وهو قبول حكم الله تعالى وقانونه.
4- وفي بيان أن انتفاء الإيمان من القلب وهدم التوحيد، وهو الإسلام العام، من قلب المنتسب اليه، يستلزم أعمالاً لا تصدر عن قلب فيه إيمان، فيعمل حينها من الأعمال التي أوجبها هذا النفاق، يقول تعالى عن بني إسرائيل وعلاقتهم بالوثنيين: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80-81].
5- وفي الجانب الإيجابي بيّن تعالى أن وجود الإيمان في القلب يمنع موادة المحاد المحارب لله ورسوله، وأن هذا مما تفرضه وتستلزمه طبيعة الإيمان في القلب، يقول تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة من الآية:22].
6- وقال صلى الله عليه وسلم: «
(ثانيا): وأما في شأن تأثير أعمال الجوارح في القلوب.
1- قال تعالى عمن أخلف عهده مع الله تعالى وأنه سبّب له أعظم عقوبة تنزل بالعبد وهي أن يترك هذا الخُلف للعهد القلب مريضا بالنفاق.. يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ . فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75-77]
2- وقال تعالى عمن أقدم على جريمة بناء مبنى -تحت مسمى مسجد- لحرب المسلمين وتلقّي عيون العدو، وتجمع للراغبين في هدم الإسلام، فقال تعالى عن أن هذا البناء على الأرض قد ترك أثرًا في قلوب من بنوه لا يفارقهم حتى الموت، فقال تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:110].
3- وقال تعالى محذرًا من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة، وأنها قد توجب عقوبة في الجسد وعقوبة في القلب، عقوبة القلب هي الفتنة، وفسّرها الإمام أحمد بالشرك والعذاب الأليم في الجسد، وهو ناتج عن الشرك، وقد يكون في الدنيا والآخرة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
4- ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أن تأثير الظاهر في الباطن، والباطن في الظاهر كالشجرة التي تروى من جذورها، فإذا رويت أينعت وأزهرت، وإذا جاءها الطل والندى أورقت أوراقها أيضًا" (راجع الإيمان لابن تيمية).
5- ولهذا قال بعض متصوفة السُنة عندما رأى جزع ابنه ومخالفته للسُنة، أثناء مرض أبيه، فقال: "مخالفة السنة في الظاهر علامة خلل في الباطن".
(ثالثًا): ولهذا العلم فوائد ضخمة.
- أما لزوم الظاهر للباطن واستلزام الباطن للأعمال والأقوال الظاهرة فهو عمدة وأساس في اعتبار ما يصدر من العبد كافيًا لبيان ما هو عليه، دون احتياج إلى شق الصدور ومعرفة ما في الباطن، أو القول بأنك لا تعرف ما في قلبه فلا تحكم عليه..، فهذا كلام مخالف لهذه الأدلة، إذ أن هذا التلازم يجعل الأعمال والأقوال دليلاً على استقامة الباطن أو انحرافه، ولهذا رد الأئمة تصور أن يكون الشخص معظمًا للرسول صلى الله عليه وسلم بقلبه، لكنه يسبه ويشتمه! أو أن هذا الشخص كامل الإيمان لكن لا يسجد لله سجدة واحدة طول عمره، ولو وضع السيف على رقبته!
أو أن هناك مؤمنًا يسب الدين أو يسب أحكام الله ويتهمها بالتخلف أو الوحشية أو القصور! أو القول أن هذا رجل تقي قارئ للقرآن صوته حسن ويبكي ويُبكي الناس لكنه –فقط-! يوالي الكافرين لإبادة بلاد المسلمين، ويظاهرهم على المسلمين لاجتياح بلادهم! أو أن هذا رجل عابد ومسلم ولكنه يحرق المساجد ويقتل المسلمين ويحرق جثثهم! فهذا قول ساقط بلا ريب، وإن قالته رموز حولها أضواء عما قليل ستنطفىء، فكل هذه الأقوال تناقض ما قررته الأدلة من أن الباطن يستلزم أعمالاً ظاهرة بحسب ما فيه من استقامة أو انحراف.
- وأما أن الظاهر من الأعمال والأقوال يؤثر في القلب، فهو يوجب شدة الخوف من المعاصي والذنوب، ومعرفة أنه ربما ذنب أسقط العبد من عين الله تعالى فيعاقبه ربه بزيغ في قلبه لا يفارقه، أو ينبت في قلبه نفاق ملازم لا يفارقه إلا بتقطع القلوب بتوبة أو موت، أو يقلّب الله تعالى قلبه وفؤاده عن قبول الحق ويحول بينه وبين قلبه فلا يتوب، فهذا أمر يوجب الإشفاق والخوف وعدم الإقدام على خبائث الذنوب وقذاراتها، وإن تلوث العبد بشيء أن يسرع إلى ربه تعالى لا يقيم على ذنب.
فاللهم النجاة النجاة.