لا. للتعلق بالأشخاص
تعليق الناس بذوات الأشخاص ليس منهجًا ربانيًا، ولا سنة نبوية، ولا هديًا إيمانيًا.
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، وناصر أوليائه الطائعين، والصلاة والسلام على خير من تعلق قلبه برب العالمين، وأوكل أمره إلى خالقه إلى يوم الدين، وعلى آله الذين ساروا على منهجه إلى يوم الدين وبعد:
فإن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه، وشَرَّفَ من شاء من عباده لخدمته، واصطفى من أحب من خلقه لولاياته الدينية، وجعلهم أئمة هدى يستنيرون بنور الوحي، وكان الثبات والعاقبة لهم ما داموا يتعلقون بأسباب التأييد الإلهي، ويبذلون الأسباب لنصرة المنهج الرباني، فإذا تخلوا عنه وتعلقوا بالأسباب الأرضية، وارتبطوا بالأشخاص كان زوالهم سريعًا، وبوادر هلكتهم واضحة جلية.
إنه لما خلق الله هذه الأرض وخلق بني الإنسان وكلفه بتكاليف شرعية، وعبادات ربانية، وطالبه بالإتيان بها، وحذره من الإخلال بها، فما أن أخل الناس بها أرسل الله إليهم رسله، وبعث إليهم أنبياءه، داعين لدينه، ومذكرين بأمره ونهيه، فكانوا عليهم الصلاة والسلام دعاة ناصحين، وربانيين مخلصين، وكان شعرهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:31]. فلم يدعوا لأنفسهم، ولا علقوا الناس بذواتهم، بل كل نبي يعلق أتباعه بدين ربه عز وجل، فالتوكل والاعتماد عليه، وإن كانوا هم قدوات للناس ليحصل بهم الإتباع، وقيام الأعمال على الكيفية التي يريدها الله عز وجل من الأتباع.
ومع أنهم عليهم الصلاة والسلام كانوا في هذه المنازل العلية التي أنزلهم الله إياها، فلم يتجرأ أحد منهم وحاشاهم على أن يدعو الناس لذاته، أو يتعلقوا بشخصه، أو يخصوه بشي دون أمر من ربه، وهذه غاية التجرد، وسلامة الطريقة، وحسن التربية، وعلوها؛ وهذا ظاهر لمن تأمل في سيرهم عليهم السلام.
إذن تعليق الناس بذوات الأشخاص ليس منهجًا ربانيًا، ولا سنة نبوية، ولا هديًا إيمانيًا، فالأشخاص يمرضون ويموتون، ويهرمون ويتغيرون، ويُفْتَنُونَ وَيُبَدِّلُون، ويَثْبُتون ويُحْسِنُون، فالغيب مجهول، والخاتمة لا تُعلم، يقول الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
وهذا مصداق لما قاله الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستنًا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"[1]، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يُقَعِّدُ لهذه القاعدة المهمة في التعامل مع الأشخاص.
وقال أيضًا: "ألا لا يقلدن رجل رجلًا دينه فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كان مُقَلِّدًا لا محالة فَلْيُقَلِّد الميت، ويترك الحي فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"[2]. فإذا كان الأمر كذلك فتعليق الناس بالذوات الشخصية، أو بالمناهج الأرضية الوضعية طريقة غير سوية، وسنة غير مرضية، والحق الذي لا مرية فيه هو تعليق الناس بربهم العليم بحالهم، والخبير بمآلهم، ويكون ذلك عن طريق تعليقهم بالمنهج القرآني، وبالمنهج النبوي، لأنهما منهجان لا يتبدلان ولا يتغيران، فهما باقيان إلى قيام الساعة، وفيهما ما يصلح حال العباد والبلاد، قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58].
فإذا تربى المكلف على أن يتلقى أوامره ونواهيه من ربه عز وجل عن طريق من جعله الله سببًا لتعليمه كان الفلاح حليفه، والنجاة بين يدي رب العالمين بعد رحمته سبيله. ومتى غيّر المعلم وبدل طريقته، أو أخطأ في منهج تلقينه، أو ابتدع في الدين ما ليس منه، كان ذلك سبيل للبراءة منه، ومن تعليق الدين بخطئه، وعلم الأتباع بعد ذلك أنه لا عصمة لمخلوق إلا من عصمه الله من أنبيائه ورسله عليهم السلام، وأن الحق في اتباع المنهج الرباني، لا طريقة العبد الغوي.
فالتعلق بالأشخاص والتعصب لهم من الأمراض الفتاكة بالأفراد والمجتمعات، والتعلق بالأشخاص مدخل عظيم من مداخل الشرك، وتبديل الدين. وقد كانت تربية الأنبياء عليهم السلام لأتباعهم على أساس تعليقهم بربهم عز وجل لأنهم عليهم السلام يعلمون أنهم سيموتون، وسيبقى أتباعهم بعدهم، فجعلوا لهم منهجًا يسيرون عليه، وسننًا ينهجونها في حياتهم، مقتدين بهم في أعمالهم، متبعين لسننهم.
فهذا نبي الله عيسى عليه السلام عندما قال للحواريين: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ} كان الجواب من الحواريين: {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، ولم يقولوا: "نحن أنصارك" بل قالوا: {أَنصَارُ اللّهِ} فقد فهم الحواريون أن نصرتهم لعيسى عليه السلام ليست نصرة لذاته بل لما يحمله من منهج أرسله به ربه عز وجل إليهم، فنصرتهم له هي نصرة لمنهج ربه الذي بعثه به، وليس في ذلك انتقاصًا لنبي الله عيسى عليه السلام بل هذا ما يُرضيه، وترضى به نفسه، وتقر عينه حيث أنه عَبَّدَ النَّاس لربهم عز وجل.
والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة، وتربيته النبوية الزاهرة يلحظ يقينًا هذا المنهج في تربيته لأصحابه، وقد برز ذلك في أوضح صوره وأجلها عندما توفي صلى الله عليه وسلم وحصل ما حصل من الصحابة رضي الله عنهم لما أصابتهم المصيبة بهولها، وعظيم خطبها، وادلهم أمرها، حتى أنهم لم يستوعبوا الرزية، ولم يتقبلوا البلية، فكان منهم منكر، وثاني مندهش، وثالث حائر. وفي تلك الأثناء برزت تربيته صلى الله عليه وسلم في صاحبه وحبيبه الذي تربى على عينه، وسقته يده من معين نبوته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فما إن سمع بالخبر حتى هبَّ يَحُث الخُطى حتى دخل المسجد ورأى ما فيه من الحيرة والاندهاش، فأحب أن يتثبت من الأمر فدخل إلى حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإذا حبيبه وقرة عينه صلى الله عليه وسلم مُسَجًّا قد أسلم الروح إلى باريها عز وجل.
فاقترب أبو بكر رضي الله عنه من الجسد الطاهر، ثم كشف عن وجهه الشريف، فإذا الخبر يقينًا، والقول صدقًا، فكب عليه يقبله بين عينيه وهو يبكي، ثم قال: "فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا مَاتَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"، ثم غطى وجهه الشريف، وكفكف دموعه ثم خرج من عنده، وقلبه يتقطع حزنًا، ونفسه تتفطر كمدًا، لكنه يعلم أن الموطن موطن جد وصبر، لا موطن كمد وحزن، فأظهر الجد والصبر تجلدًا.
وعند خروجه ظهرت التربية التي كان تربى عليها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر فقهه رضي الله عنه في أن الأمر لله من قبل ومن بعد، وأنه لا بقاء لأحد إلا لله ولدينه. وتقرر عنده رضي الله عنه موطن نصرة للدين وتبين التعلق الحق الذي تربى عليه، وموطن ثبات قد تعود عليه، فيمسح دموعه من على وجهه وهو من عرف عنه الرقة وسرعة الدمعة ثم يخرج إلى الناس فاستنصت الناس لكن في المسجد من أصابته المصيبة العظيمة حتى أنه لم يستطع أن يقاومها ألا وهو عمر رضي الله عنه فكان يقول: "إنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وسيعود"، فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه "اجلس يا عمر فلم يجلس"، فكرر عليه فلم يفعل، فَتَشَهَّدَ أبو بكر رضي الله عنه فمالَ إليْه النَّاس، وتركُوا عمر، فقال: "أمَّا بَعْدُ، فمنْ كان مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمرآن:144]".
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى معلقًا على هذه الآية: وكأنما أراد الله سبحانه بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي بينهم، وأن يصلهم مباشرة بالنبع، النبع الذي لم يفجره محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جاء فقط ليومئ إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق كما أومأ إليه من قبله من الرسل ودعوا القافلة إلى الارتواء منه! وكأنما أراد الله سبحانه أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى، العروة التي لم يعقدها محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون! وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتل فهم إنما بايعوا الله، وهم أمام الله مسؤولون!". (في ظلال القرآن [1/460]).
أما إذا خالف الناس هذا المنهج وبنوا دينهم على التعلق بالأشخاص والتعصب لهم كان ذلك سببًا للضلال، والبعد عن الحق قال إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد :"الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع". نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض(4/133).
فبعد هذه الأدلة والمواقف يظهر لكل مربي وداعية، وكل موجه وعامل للدين أن الأصل هو تعبيد الناس، وتعليقهم بربهم وبدينهم، لا بالتعلق والتعصب للذوات والأشخاص. والتعلق بالأشخاص له مفاسد عدة منها على سبيل البيان لا الحصر:
أولًا: أن أخطاءهم وأفكارهم تحسب على الدين ولو كانت خاطئة، مما يجعل المكلف يبتدع ولا يتبع.
ثانيًا: التعصب للمتعلق به وترك التعلق بالحق.
ثالثًا: تعظيم المتعلق به ورفعه فوق منزلته، والإطراء في مدحه.
رابعًا: الطاعة العمياء للمربي في خطئه.
خامسًا: أنه يحمل الأشخاص في التساهل في كثير من الأخطاء بحجة أن هذا الشخص يعملها.
سادسًا: أن التعلق بالأشخاص قد يكون سببا في الانتكاسات.
سابعًا: أنه يجعل التابع يعمل ما دام أنه مع هذه الشخص فمتى غاب أو مات ترك التابع العمل.
ثامنًا: أن التعلق بالأشخاص يفسد الحب في الله تعالى حيث أن المحبة مبنية على التواد والتناصح، والألفة والتعاون، أما التعلق بالأشخاص فعكس ذلك كله،فهو مبني على الهيئات والأشكال، وتجانس الطباع والأقوال.
تاسعًا: التقليد المقيت للمتعلق به، بدون أي قيد.
عاشرًا: أن هذا سبب لترك الله عز وجل للعبد حيث أنه تعلق قلبه بغيره، وترك التعلق به سبحانه، فمن تعلق بشيء دون الله وكله الله إليه.
وفي الختام أقول: "من كان يعبد الله ويؤمن به فإن الله حي لا يموت، ومن كان يؤمن بغيره ويتعلق به فإنهم يموتون ويذهبون، ويكون الخذلان طريقه، والخسران حليفة".
أسأل الله أن يعلق قلوبنا به، وأن لا يَكِلَنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك إن ربي سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
بقلم
الفقير إلى عفو سيده ومولاه
د. ظَافِرُ بْنُ حَسَنْ آل جَبْعَان
______________________
[1]- رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/97)، والبغوي في شرح السنة (1/214)، والهروي في ذم الكلام (ص:188) عن قتادة عن ابن مسعود رضي الله عنه ولم يسمع منه فهو منقطع، وأخرجه بنحوه أبو نعيم في حلية الأولياء(1/305) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2]- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى(10/116)، وأبو نعيم في الحلية(1/136).
بتصرف يسير
- التصنيف: