مكشوفون مهما تقنعتم!

منذ 2015-06-30

السلوك الشخصيّ في الإسلام قد بلغ من العظمة والرقيّ أن يصير إنجاز الآخر إنجازًا للأول، وأن تكون سعادة الجار سعادةً لجاره، وأن يتألم مسلمٌ بالعراق يشعر بأنينه مسلمٌ بالمغرب.. لكن هؤلاء يشوهون تلك الصفحة الناصعة البيضاء بأقنعتهم المزيفة، ووجوههم المكشوفة لكل أصحاب القلوب.

يعتمد البعض في سلوكه على كونه يستطيع إيجاد تأويلٍ لأفعاله، تأويلٍ لا يسهل تخطيئه، بل يسوق المبررات والأدلة على كونه سلوكًا مباحًا، وسواءٌ أكان ذلك في تكسّبه أو في ترقّيه المراكز والدرجات أو في حصوله على الميزات والمنافع.

سلوك صاحبنا ذلك يكاد ينضح بالوصولية، والنفعية، والمصلحية، والرغبة في التكسب، وغيرها، غير أنه دائمًا يستطيع الإفلات من كل تلك التهم، بشكلٍ أو بآخر، لكونه خبيرًا، ذكيًا، متحدثًا، وجيهًا، يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من القدرة على الحيَل!

الرجل كاتبٌ، لابأس، ذلك شىءٌ حسن ، لكنك لو بحثت في بعض كتبه -أو كثيرٍ منها- لوجدتها جهدًا لآخرين، فقراءٍ محتاجين، أو شبابٍ مبتدئين، استكتبهم صاحبنا وأعطاهم المال، ثم وضع اسمه على تلك الكتب!

الرجل لو ناقشته لقال لك إنه شيءٌ مباحٌ؛ كونه قد اتفق مع الكُتّاب على شراء جهدهم ووقتهم بمالٍ وقد رضوا بذلك، وبالفعل يستطيع أن يسوق لك جدلًا طويلًا على إباحة فعله، لكنه مهما يفعل، ستظل غصة الكتاب الحقيقيين لتلك الكتب باقيةً في قلوبهم كلما قرؤوا كتبًا كتبوها بأنفسهم وبمداد عقولهم، لكنّ آخر وضع عليها اسمه، وربما يكون قد ترقى بسببها، أو تمّ تكريمه بسببها، أو غيره.. ولست أنسى دموع ذلك الباحث الشاب الذي اشتكى مثل تلك الشكوى أمام عينيّ!

الرجل تاجر، ذلك شيءٌ حسن، فنعم المال الصالح في يد الرجل الصالح، لكنك لو بحثت في طريقة تعامله مع العاملين عنده، لوجدته يغلظ القول لهم، ويخصم من رواتبهم مع أقل ما يظهر من أخطائهم، ويسيء في معاملتهم، ويؤخر حقوقهم، ولا يقبل معاذيرهم، ولو ناقشته لساق لك حديثًا منمقًا في ضوابط الالتزام بالعقود، وحق صاحب العمل، ولزوم جدية العامل، وأنه لا يطلب سوى حقوقه، ولو عاتبته على تأخير حقوق عامليه لتحجج بألف حجة.. ومهما يكن من قوة حجته، ومهما سكتت ألسنة المظلومين خوفًا من العقوبة، لكن آلام العاملين عنده لن تهدأ بكلماته، والأكفّ المظلومة المرفوعة تشكوه إلى الله لا تنام ولا تمل!

الرجل زوج، ذلك شيءٌ حسن، لكن ماذا لو رأيته في معاملته زوجته، يأمرها أمرًا، ويهمل حقوقها، ويبخل عليها في الإنفاق، ويسيء الظن بها، ويحجر على تفكيرها، ويعاملها وكأنها بلا عقلٍ أو قلب.

إنك لو ناقشته في ذلك لساق لك الأدلة على حق الزوج، وساق لك الحجج على صحة فعله، وأنه رجل جاد، وأنه مشغولٌ للغاية، وأنه ملتزمٌ بالقواعد والضوابط فيما يخص النساء.. حججٌ وكلماتٌ قد يصعب مناقشتها معه، لكن تبقى آلام زوجته في بيتها لا تهدأ، وتبقى نفسها كئيبة تجاهه، وتبقى لحظات بعده عنها أحسن لحظاتها، وتبقى صورته السيئة في قلبها فتذهب المودة ويغترب السكن!

الرجل أبٌ، ذلك شيءٌ حسنٌ، لكن شكاوى أبنائه لا تهدأ، فهو يقسو عليهم، ويجفو معهم، ويبخل في عطيتهم، ولئن حادثته حول ذلك رد عليك القول بأنه يربيهم على الخشونة، ليكبروا رجالًا يعتمدون على أنفسهم، وأنه إنما يتعب نفسه لأجل مستقبلهم.. وغير ذلك من الحجج التي قد يصعب الرد عليها أمامه ومعه، لكن آلام أبنائه وشكواهم وصورته السلبية في قلوبهم تظل تكبر كل يوم، ليحصدها غدًا إذا كبر به العمر، فيبحث عنهم فلا يجدهم حوله!

لايعجبني هذا المنهج البراجماتيّ النفعيّ، الذي يقوم على المصلحة الذاتية، مع غفلةٍ وتهاونٍ في حق الآخرين، وتهوينٍ في قدر آلامهم وشكواهم بحجة أن المرء يملك حجة على فعله القاسي الجاف!

لكأن هذا الأسلوب قناعٌ يخفي خلفه وجهًا قاسيًا، جافًا، متجمدًا، صلدًا، لايبالي بغير ذاته وراحته ومنفعته.

لقد علمنا ديننا أن المؤمن يحوي بين جنبيه قلبًا رحيمًا عطوفًا كريمًا رقيقًا، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يهتم لأمر المسلمين جميعًا، يدخل السرور عليهم، ويسعى في خدمتهم ولو على حساب نفسه وتعبه وجهده وماله.

قد علمنا ديننا أن ننطلق من منطلق الشفافية البيضاء النقية التقية، وأنكر الحيل والمكر والخداع، كما أنكر غضّ الطرف عن آلام الغير وأحزانه ومعاناته..

السلوك الشخصيّ في الإسلام قد بلغ من العظمة والرقيّ أن يصير إنجاز الآخر إنجازًا للأول، وأن تكون سعادة الجار سعادةً لجاره، وأن يتألم مسلمٌ بالعراق يشعر بأنينه مسلمٌ بالمغرب.. لكن هؤلاء يشوهون تلك الصفحة الناصعة البيضاء بأقنعتهم المزيفة، ووجوههم المكشوفة لكل أصحاب القلوب.

 

خالد روشة

  • 1
  • 0
  • 598

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً