هنيئًا لمن أدرك رمضان
خالد سعد النجار
قال محمد رشيد رضا: "إن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمن ببعثة محمد خاتم النبيين عليه السلام، بالرسالة العامة للأنام، الدائمة إلى آخر الزمان".
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
بسم الله الرحمن الرحيم..
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: "أن رجلين من بلي قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعًا، فكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فَأَذِن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك..
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث فقال: «
» فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « » قالوا: بلى، قال: « »، قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (1).شهر رمضان يزهو بفضائله على سائر الشهور، فهو شهر الصبر والمصابرة، والجهاد والمجاهدة، وهو يرمض الذنوب ويحرقها فلا يُبقي لها أثرًا، وفيه تكتحل أعين العابدين بالسهر لنيل خيره، والظفر بجزيل ثواب أيامه وقيامه، يضرعون إلى الله فيه؛ لأن أبواب الرحمة مفتوحة، والشياطين ومردة الجن مصفدة، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وكل خير فيه يفضل مثله في غيره، فالمحروم من حرم خيره، وتركه وودَّعه ولم يُغْفر له، والسعيد من صامه إيمانًا واحتسابًا؛ فكانت المغفرة ختامًا له، جزاء حبس النفس عن الهوى والشهوة، وصبرها على ألم الجوع وحرقة العطش.
يأتي رمضان كل عام حاملًا لنا فيضًا من هدايا ومنح ربانية سخية حري بالمؤمن أن يغتنمها، فمن فضائل هذا الشهر الكريم أنه أنزل فيه القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة من الآية:185]، قال ابن كثير: "يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم" (2).
وقال محمد رشيد رضا: "إن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمن ببعثة محمد خاتم النبيين عليه السلام، بالرسالة العامة للأنام، الدائمة إلى آخر الزمان" (3) وقال ابن سعدي: "...هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية" (4).
وشهر رمضان تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (5)، قال أبو الوليد الباجي: "يحتمل أن يكون هذا اللفظ على ظاهره، فيكون ذلك علامة على بركة الشهر وما يرجى للعامل فيه من الخير" (6).
وقال ابن العربي: "وإنما تفتح أبواب الجنة ليعظم الرجاء، ويكثر العمل، وتتعلق به الهمم، ويتشوق إليها الصابر، وتغلق أبواب النار لتخزى الشياطين، وتقل المعاصي، ويصد بالحسنات في وجوه السيئات فتذهب سبيل النار" (7)، وقال القاضي عياض: "قيل: يحتمل على الحقيقة، وأنّ تفتّح أبواب الجنة وتغليق أبواب النار، علامة لدخول الشهر، وعظم قدره، وكذلك تصفيد الشياطين؛ ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه" (8).
وشهر رمضان اختصه بفريضة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال المقربة إليه سبحانه وتعالى وأجلها، فهو سبب لمغفرة الذنوب والآثام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (9)، قال ابن بطال: "قوله: « » يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى على صيامه وقيامه، وقوله: « » يريد بذلك ليحتسب الثواب على الله، وينوي بصيامه وجه الله" (10).وقال الطيبي: "يعني بالإيمان الاعتقاد بحقية فرضية صوم هذا الشهر، لا الخوف والاستحياء من الناس من غير اعتقاد بتعظيم هذا الشهر، والاحتساب طلب الثواب من الله الكريم" (11)، وقال المناوي: "وفيه فضل رمضان وصيامه، وأن تنال به المغفرة، وأن الإيمان وهو التصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صوم رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطوية صافية امتثالًا لأمره تعالى واتكالًا على وعده" (12).
وشهر رمضان فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر: قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (13).
وشهر رمضان فيه استجابة الدعاء، والعتق من النار: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « » (14)، وفي رواية: « » (15).
وشهر رمضان العمرة فيه تعدل أجر حجة: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: « » قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه لزوجها وابنها وترك ناضحًا ننضح عليه، قال: « » (16)، قال النووي: "أي: تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء، بأنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة" (17)، وقال الطيبي: "أي: تقابل وتماثل في الثواب؛ لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت" (18).
وكأن رمضان يقول لنا: مهنتي هي الزراعة والصناعة والتجارة والطب والتعليم.
أما الزراعة: فإنني أغرس الإيمان في القلوب، وأزرع المحبة في النفوس، وأبذر الأخلاق في الطباع، وأسقيها بماء الطهر والإخلاص، وأغذيها بشهد الفضيلة والإحسان، فتنبت كل معاني الخير والاطمئنان، وتجنى كل ثمار الفلاح والنجاح، كما أنني أنزع شوك الحقد والغل والبغض من الصدور، وأقلع جذور الفساد والغش والحسد من النفوس فتنتج المحبة والمودة والإخاء.
وأما الصناعة: فإنني أصنع الأجسام القوية، والنفوس الأبية، والأرواح الزكية، وأصل ما تقطع بين الناس من أوصال، وأجمع ما تفرق من أشتات، وأصهر الجميع في بوتقة العدل والمساواة، فأنتج الأبطال الأقوياء، والرجال الأشداء على الأعداء الرحماء فيما بينهم.
وأما التجارة: فأنا أعطي الحسنات وأمحو السيئات، فمن تعامل معي ربح الجنة وفاز بالحياة، ومن تنكر لي وغش خسر البركة والخيرات وحبطت أعماله، وكان من أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.
وأما الطب: فإنني أداوي الأجسام السقيمة، والنفوس المريضة، والعقول التائهة.. فأبعد عنها كل ضعف وشح وشرك، وأطهرها من أدران المادة ومن جراثيم الفساد والضلال، وأدويتي هي الصيام والقيام وذكر الديان والعمل على طاعة الرحمن.
وأما التعليم: فإنني أعلم الناس أن يسلكوا طريق الرشاد، وأعودهم الجود والإحسان والرحمة والتسامح والأمانة والوفاء والصدق والصبر والتعاون والإخلاص.
نعم! أنا شهر رمضان الذي أنزل في القرآن، أنا شهر التوبة والغفران، أنا فيَّ ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم، أنا الذي رافقت آباءكم المسلمين في معارك بدر واليرموك وحطين، فأعطيتهم القوة والعزيمة وعلمتهم الصبر والثبات فكان النصر حليفهم والخذلان حليف عدوهم.
إن رمضان مدرسة عظيمة، وجامعة عريقة، تخرج الأجيال، وتربي الأمم والمجتمعات، وفيه من الدروس ما تُصقل بها النفوس، وتسمو بها البشرية، فهي دروس واضحة ساطعة ناصعة لمن له بصر أو بصيرة..
1- رمضان: لم يكن في يوم من الأيام مرتعًا للكسالى، وسكنًا للنومى، وتكأة يتعذر بها كل بليد كسول، بل هو شهر للجد والعمل، وتكثيف الجهد والبذل، وموسمًا للتراحم والتكافل، ولعل إطلالة سريعة على تاريخ المسلمين نتدارك من خلالها كيف حال رمضان فيها، وكيف أن (بدرًا) و(ويرموكًا) و(حطينًا) و(عين جالوت) كلها وغيرها كانت في رمضان..!
2- رمضان: فرصة مناسبة للصادقين في التغيير، ووقتًا لن نجد أفضل منه للإصلاح، وأول إصلاح وتغيير لمن يرومه هو إصلاح الذات والنفس، فرمضان يعلمنا أن في نفوسنا قدرة، وقوة، لا تقف في وجهها صعاب، ولا يعوقها سدود، ولكنها فقط إذا أرادت وعزمت..! انظر لأحوال الناس بين آخر شعبان، وأول رمضان، كيف يتغير المجتمع برمته، فتكتظ المساجد، وتعظم الصدقات، ويتنافس القراء والصوام والقوام في الخير، وذلك كله في أقل من ليلة واحدة! فهل هذه النفوس عاجزة عن الإصلاح والتغيير لو صدقت..؟!
3- رمضان.. يذكر المسلمين بحقوق إخوانهم وجيرانهم، فالمجتمع الذي لا يرحم الفقير لا خير فيه، وكيف يرحم فقيرًا، أو يطعم جائعًا من لا يعرف الجوع ولا الحاجة!! فكم من بطون سدت جوعتها، وحاجات كفيت مئونتها، وبلايا كشفت، في هذا الشهر الكريم.
4- رمضان: يربي النفوس على الإخلاص لله تعالى فيما تأتي وتذر، وأن يكون المقصد هو الله وطلب رضاه.
أترى ذاك الصائم الجائع العطشان، في شدة الحر، وفي جهد العمل، أتراه في خلوة نفسه وهو يقدر على جرعة ماء لا يعلمها إنس ولا جان ولكن يمنعه خوفه من الديان! فيا لها من مراقبة، وما أجلها لو استشعرناها، وداومنا عليها..!
5- رمضان: يعلمنا العبادة، وصدق اللجوء إلى الله، وتنقية النفوس، وحفظ الجوارح، والإحسان إلى الناس، ورحمة الخلق، ومراقبة الخالق ودروسًا لا يعلمها إلا من خلق هذه النفوس فسواها، فهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة من الآية:185].
وهو: الشهر الذي بعث الله فيه نبيه وخليله وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو: الشهر الذي جعل الله منه إلى رمضان الذي بعده كفارة: وقد بوب مسلم في كتاب الطهارة من صحيحه: باب (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « » (19).
وهو: الشهر الذي إذا دخلت أول ليلة من لياليه كان ما كان من الخير: فعند البخاري في كتاب الصوم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (20) وفي رواية عنه أيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (21).
وهو: الشهر الذي جعل الله فيه لأصحاب الذنوب والخطايا المخرج، وكذلك لطالبي الجنة والعلو في الدين، فعند البخاري في كتاب التوحيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »، قالوا يا رسول الله أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: « » (22).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) الحديث رواه ابن ماجه في سننه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2346) برقم (3171) وفي صحيح الترغيب رقم (373) ورواه الإمام أحمد في مسنده (16170) رقم (8380) عن أبي هريرة وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (24222) عن طلحة بن عبيد الله وقال: محفوظ وفي رواية أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رجلان من بلي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤخر منهما أُدخل الجنة قبل الشهيد! فتعجبت لذلك! فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » رواه أحمد رقم (8380) أنظر صحيح الترغيب والترهيب للألباني رقم (372)، والحديث رواه أيضًا ابن حبان في صحيحه رقم (2982)، ورواه المقدسي في الأحاديث المختارة رقم (826)، ورواه البيهقي في الزهد الكبير رقم 632.
(2) تفسير القرآن العظيم (221/1).
(3) تفسير المنار (158/2).
(4) تيسير الكريم الرحمن (222/1223).
(5) أخرجه البخاري في الصوم، باب: هل يقال رمضان (1989)، ومسلم في الصيام، باب: فضل شهر رمضان (1079).
(6) المنتقى شرح الموطأ (75/2).
(7) عارضة الأحوذي (198/3).
(8) إكمال المعلم(5/4).
(9) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في صيام رمضان(760).
(10) شرح البخاري فتح الباري (21/4).
(11) الكاشف عن حقائق السنن شرح مشكاة المصابيح (137/4).
(12) فيض القدير للمناوي (160/6).
(13) أخرجه النسائي في الصيام، باب: فضل شهر رمضان(2105)، وأحمد (230/2)، وعبد الرزاق (7383)، وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان (1644)، وحسّنه المنذري في الترغيب (99/2)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (999): "صحيح لغيره".
(14) أخرجه أحمد (254/2)، وأبو نعيم في الحلية (257/8)، وقال الهيثمي في المجمع (216/10) "ورجاله رجال الصحيح"، وله شاهد عند ابن ماجه في الصيام، باب: فضل شهر رمضان(1643)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (604): "رجال إسناده ثقات".
(15) رواه ابن ماجه عن جابر رقم 1643 وأحمد والطبراني عن أبي أمامة (حسن) انظر حديث رقم: (2170) في صحيح الجامع.
(16) أخرجه البخاري في الحج، باب: عمرة في رمضان(1782)، ومسلم في الحج، باب: فضل العمرة في رمضان (1256) واللفظ له.
(17) شرح مسلم (2/9).
(18) الكاشف عن حقائق السنن المعروف بـ "شرح المشكاة" (219/5).
(19) مسلم كتاب الطهارة رقم (442).
(20) البخاري كتاب الصوم رقم (1494).
(21) البخاري كتاب الصوم رقم (1495).
(22) البخاري كتاب التوحيد رقم (6110).