أمــة لا تاريــخ لهـا أمــة تحتضــر
محمد بوقنطار
لا شك أن من استمرأ الظلم واستساغ المنكر لا يعجزه ولن يعجزه التدليس ولا استحسان التنكيس الذي يخاصم الحس والفطرة والعقل قبل أن يخاصم الدين
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
عندما ضرب الله مثلاً للكلمة الطيبة أحال على الشجرة الثابتة الضاربة جذورها في عمق الأرض والتاريخ والحضارة، وهو مثل يحمل من التناسب الحمل الكبير ذلك أن الحضارة في بعدها الإنساني مبناها على معطى الأخلاق وسقف التميز في دائرته، والذي جاء التعبير عنه هنا في دلالته الرمزية بالكلمة الطيبة ذات الأصل الثابت والفرع في السماء، فأن يركب المرء سيارة فارهة تمثل آخر صيحات الاختراع فهذا من المدنية، بينما أن يفرمل الراكب عجلة هذه السيارة الفارهة عند حاجز مائي حتى لا يتأذى المارة من رشه فهذا من الحضارة.
ولا شك أن للسياق علاقة بتاريخ الأمم وسيرورتها بين الدولة والضعف والهلاك، بضابط أن الأمة التي لا تاريخ لها هي أمة تحتضر حالا وتستشرف الهلاك مآلا، فهي بمنطوق القرآن وضرب المثال كالشجرة الخبيثة التي لا ثمرة لها ولا قرار، فهي إذًا أمة لا تملك حاضرها ولا تراهن على تأبيد مشروع تمكينها.
ولذلك فالأمم التي وقّع لها التاريخ تصدرها بطابع البغثة والراهنية التي لا سند اتصال لها بالماضي هي أمم تعيش عقدة النقص، وتنتظر موت الفجأة بعد حبل حياة قصير، ولأنها تعيش عقدة هذا الذنب التاريخي فهي لا تتوانى عن تورية هذا الذنب وراء أستار البدائل ذات الطابع المعاصر والحداثي.
فأمريكا مثلاً كقوة مادية متعاظمة وهي تملك من الترف المادي النصاب الأوفر تعتقد فيه بل تجعله بمثابة الشجرة التي أريد لها أن تخفي الغابة، أو المنخل الذي وظيفته حجب الرؤيا، رؤيا إمكانية الغوص معها تذكيرًا وتنكيرًا بحقيقة أنها أمة لا تاريخ لها وأن عربدتها أصغر من أن تعمر برهة من الزمن يحسب لها الحساب في سياق التاريخ ومحطاته ذات الركام الضارب في الطول والعرض، فتذهب تماهيًا مع هذا الحجب واستجابة للتصدي لتلك الرؤيا بالاستعاضة عن التأريخ لماضي الرجال وركز الأبطال بالتأريخ لجيل أو أجيال رجلها الآلي، وما راكمته يد مصانعها من تطور وإبداع لن تلامس دعواه ولا زعمه تحدي خلق ذبابة أو بعوضة أو ما فوقها فسبحان الله خير الخالقين.
وفي إطار تماهيها هذا لا يفوتها ولن تنسى أن تسوي بين الصدفين وتفرغ قطر حقدها لتغلق بوابة التاريخ الحقيقي لجغرافيا الاستيطان وزحفها الحائف الذي دشن له الفاتح الأول والصياد المبجل (كريستوف كلومبوس) الذي كان قد بعث لأسياده، بل رسم صورة لسكان أمريكا الأصليين لا تتجاوز اعتبارهم قطيعًا من البقر الوحشي أكبر من أن تعود له السيادة على جنة الأوربيين الموعودة بالنار والحديد..
ولعل الذين ترادفوا من بعده على حكم الأرض واغتصاب العرض قد حافظوا أو نجحوا في المحافظة على تلك الصورة التي رسمها الفاتح الأول، حتى إنه ليخيّل للمرء أن شعب الهنود الحمر ربما كانوا كائنات أسطورية لم تلامس أقدامهم ولا أردافهم أديم تلك الأرض، أو ما يعبر عنه بالقارة الجديدة المكتشفة في استعارة تحيل على خرافية وأسطورية حقيقة الوجود والسبق للسكان الأصليين.
والعجب غير المستغرب أن يصدر هذا وإلى يومنا بسند لا يكاد ينقطع، وصله الظالم عن الدولة القاضي والدركي الذي يحرس القيم ويرعاها، قيم حقوق الإنسان والحيوان والمنادية بالحق التاريخي المصيري للشعوب الأصلية والأقليات التي حوّلوها بيننا إلى خلايا سرطانية تنخر العظم وتفت عضد الوحدة والتراص وحصن الجسد الواحد، وهي التي كانت تنصر الدين واللغة وتحمي ثغور الإسلام بالغالي والنفيس حتى الأمس القريب، وليس بطولة صلاح الدين الأيوبي الكردي ببعيدة في سياق الاستشهاد ولا مدافعة شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني عن الدين والأرض والعرض، وحبل العطف في المقام لا تنفصم عرواه.
ولربما احتجنا بعد هذا الاستدراك بالتعريج في لحاق ما تطرقنا إليه إلى ذكر حقيقة بعض الأسماء التي تحكي عن مدى وحشية وتوحش العقل الغربي، وقذارة سلوكه المتزمل بدثار الحرية والعدل والمساواة، فكلمة ككلمة "أباتشي" مثلاً والتي أطلقها عقل المنتج العسكري الأمريكي على طائرة القتل "الهليكوبتر الحربية" ما هي في الحقيقة إلا اسم لقبيلة من القبائل الهندية التي تمت إبادتها عن بكرة أبيها، وكذلك الأمر بالنسبة لطائرة "البلاك هوك الأمريكية" التي هي في الحقيقة اسم لأحد زعماء القبائل الهندية التي تمت إبادتها بالكامل.
ناهيك عما وقع في نقيصة الميز العنصري للرجل الأسود من إهانة وتعذيب نفسي وبدني، جعلت منه مجرد بضاعة تباع وتشترى وتتوارث من جيل الأبناء فالأولاد فالأحفاد، يولد متجردًا عن أي حق يستحق الصون أو حتى نيل اعتبار ولو لبرهة متلوة بكنس واجتثاث غادر من عواصف التجبر الغربي المتحفظ على تسفير وجهه البشع إلى حين معلق غير محقق.
ولعل من وقف على هذه الحقائق آلت أموره ولا بد إلى أن يلتفت إلى قيمة انتسابه إلى هذه الأمة الموصولة بالله والتي كانت ولا تزال تملك ما لا تملكه سائر الأمم، ولا شك أنه التفات قادر أن يعيد للمنتسب توازنه النفسي والسلوكي بله كرامته المهدورة اليوم بين الناس، شريطة ألا يطبع هذا الالتفات الارتجالية أو أن يحكمه التوجيه المدخول المقاصد غير المنخول الحقائق والمعطيات، وهو توجيه وتحكم وتزييف تتولى اليوم كبره قوى الاستكبار العالمي مدعومة ومسنودة ومحتضنة من طرف خلايا العلمانية المحلية، التي أصبحت تمارس وظيفتها بالعلن لا السر والجرأة لا المداهنة غرضها الأول خلق مقاطعة ومخاصمة وعزوف مؤدى عنه بين تاريخ الأمة الضارب في عمق الحضارة وهذه الأجيال الخالفة.
فبينما تترادف الدراسات وتنكب سخائم الاستشراق القديم الحديث المتجدد وتعكف الأطر المتخصصة المنضوية تحت إمرة مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية على تفيئ الأدوار بينها في مهمة قراءة التراث الإسلامي وما راكمته الدولة الإسلامية عبر مراحل تمكينها وسيادتها، وأسباب قوتها واستثمار بعض نقط الضعف الداخلي التي شكلت منعطفًا حائفًا من تاريخها منذ البعثة إلى يومنا هذا، تُصرف وجوه وأذهان أبناء الأمة لتمتحن وتختبر حفظًا ودراية ورواية في ربط وثيق بين هذا الصرف ومصير هؤلاء الأبناء وأرزاقهم في دائرة المعلومة التاريخية للحروب العالمية والثورة البلشفية والثورة الفرنسية، ومعرفة دقائق الأمور عن الشخصيات المختلة نفسيًا والتي طبع ركزها ظُلمة التاريخ المعاصر من أمثال النازي (رودلف هتلر) والفاشي (موسوليني) والديكتاتور (فرنكو)، وحبل المعطوفات طويل الذيل عريض المنكبين، لا يزال تسكعه الفكري المفروض يخرّج أجيال القنطرة المَسِخ المستهجن التركيبة المعرفية والسلوكية المهيء للانسلاخ عن انتساب الهوية والدين والوطنية الحقة.
ويا ليت هذه الأجيال انصرف جهدها وأفرغت طاقتها في دائرة ما هو معاصر حداثي من الفعل التاريخي، لتقرأ عما قارفته الحضارة الغربية في حق شعوب مستعمراتها يوم أن كانت فرنسا وبريطانيا العظمى وإيطاليا وإسبانيا تعيث في الأرض فسادًا وإفسادًا، وتمارس فعلها وكأنها الوحش الذي لا ضمير له ولا وجدان، بل كأنها قطعان وحوش ضارية استعملت تفوق آلتها العسكرية لتملأ أركان الحياة بالضحايا والمظلومين، ولتبقي على بقايانا إبقاء فرعون على نساء إسرائيل بعد قتل الذكران والولدان، إبقاء يخدم السيد الأبيض ويجري مجرى تلبية كوامن اللذة في غريزته المتوحشة وهو ولا شك استبقاء لا يخدم العبيد في ظل وجود من اعتاد أكلك؛ ومن كان ولا يزال إذا رآك علا أنين معدته على دعوى صوت ضميره المجلجل في المحافل الدولية، محافل الأمم المتحدة وهيئات مؤسسيها التي ما فتئت ترفع شعارات العدل والحرية والمساواة، بينما تطالعنا أخبارها في الواقع عن أثرتها الشرهة المشوبة بالفظاظة، الذاهلة اللاهية عن حقوق المستضعفين بله وجودهم وجود شرف وكرامة.
ولا شك أنه تمني كان من شأنه أن يسكت هذه الأصوات المتعالية من بيننا؛ والتي صارت من محاريبها تتعبد بسجود إنابة وإخبات لغرنيق أمريكا ومن ركب صهوة علجها القاتل، قِبْلتها عواصم الغرب وحضارته المارقة ومدنيته القاتلة، بل كان من شأنه أن يكف صفاقتهم وهم يدافعون عن المنكر في ثوب الواعظين الأشراف الحريصين كل الحرص على وحدة الدين والوطن واللغة، متهمين غيرهم من المنتسبين إلى الدين والوطن واللغة انتساب صدق وأمانة بالخيانة والجهالة والظلامية ومعاداة قيم الحرية والعدل والمساواة.
وليس بمستغرب أن يصدر هذا الاتهام من هذا الصنف المتسفل في نقيصة دخول جحر الضب الغربي، وقد تناول كتاب ربي العظيم كيف اتهم قديمًا فرعون عدو الله كليم الله موسى عليه الصلاة والسلام بإظهار الفساد في الأرض وتبديل دين الناس على غير وفق فطرة فرعون وجنوده مصداقًا لقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
وربما كنا في غير حاجة مدفوعين إلى أن نذكر أن دين المخاطبين هو الزيغ الذي كان عليه قوم فرعون، وأن إظهار الفساد في الأرض لم يكن عنده سوى أن يعمل بطاعة الله، وهي ولا شك حقيقة تصب في أخرى مفادها أن التاريخ يعيد نفسه، وإنما تتبدل الأسماء وتترادف الأدوار وتتناوب فئام من الناس على تحيين مشاريع قارون وفرعون وهامان؛ لتمرر الحيف والظلم القديم في قوالب مغرية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب الأليم.
ولا شك عندي أن من استمرأ الظلم واستساغ المنكر لا يعجزه ولن يعجزه التدليس ولا استحسان التنكيس الذي يخاصم الحس والفطرة والعقل قبل أن يخاصم الدين وإنما عطفنا بالدين في ذيل المعطوفات لأنه صار معرّة حتى عند الذين رفعوا شعار أن: "الإسلام هو الحل"، ولكن وما أصعب الاستدراك عندما التقى الصفان رأينا من جرأة أهل الباطل أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الحق أو المحسوبين على فسطاطه بالاسم والرسم لا غير؛ نعوذ بالله منه تولي يوم الزحف.