الحسابات الخطأ في الحرب على تركيا
حسن الخليفة عثمان
لا توجد حرب عبر تاريخ الحروب أو مواجهة لا يبحث مشعلوها عن غطاء أخلاقي لها، وسبب مقنع للشعوب والمقاتلين الذين تزهق أرواحهم فيها، بل جرت العادة أن يبحث عباقرتها الأغبياء عن غطاء ديني وعقدي ليكون أدعى وأكثر تأثيرًا في إثارة الحمية في نفوس المقاتلين والداعمين لها..
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
ذهب بعيدًا من يظن أن المخطط الدولي الغربي لتركيع تركيا وهزيمتها بالاستعانة بذيول الاستعمار الغربي القديمة سيؤتي ثماره، وينتهي الأمر إلى ما تهواه نفوس الحالمين بإغراق تركيا في المستنقع الذي يرتع فيه غيرها من الذين لم يدركوا عواقب الأمور جيدًا؛ وإليك الأمر بشيء من التوضيح.
الحوادث الإجرامية والأعمال الإرهابية الآثمة التي حدثت في مختلف أنحاء تركيا لم تفاجئ الإدارة التركية، ولا الشعب التركي الذي يعرف مصدرها جيدًا، ومن يقف وراءها ومن يدعمها ومن ينفذها، والتوقيت الذي جرى فيه تحريك الخلايا التي كانت تنتظر فقط إشارة البدء في أعمالها الإجرامية، وأنها تأتي في سياق (الحرب القذرة على تركيا) والتي أفردنا لها مقالًا سابقًا بذاك العنوان.
إذًا ما الجديد في الأمر؟ وما مصير ومآلات هذه الحرب؟
ولماذا نقول إن هذا الصراع وتلك الحرب محسومة النصر سلفًا للشعب التركي وإدارته؛ حكومةً -أيا كانت- ورئاسةً؟
لا توجد حرب عبر تاريخ الحروب أو مواجهة لا يبحث مشعلوها عن غطاء أخلاقي لها، وسبب مقنع للشعوب والمقاتلين الذين تزهق أرواحهم فيها، بل جرت العادة أن يبحث عباقرتها الأغبياء عن غطاء ديني وعقدي ليكون أدعى وأكثر تأثيرًا في إثارة الحمية في نفوس المقاتلين والداعمين لها..
وجدنا ذلك واضحًا جليًا في غزوة بدر الكبرى عند أبي جهل؛ حين خرج ليقاتل النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو يرى نفسه على حق ويرى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه على باطل! حتى إنه قال: "اللهم أيّنا كان أقطع للرحم، وأتانا بما لم نعرف فافتح لنا الغداة"، فكان ذلك استفتاحه فأنزل الله تعالى قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال من الآية:19].
وكما كان الشأن في أحط وأقذر الحروب بشاعة وظلمًا وإجرامًا وهي الحروب الصليبية، التي لا زال عارها يلاحق أحفاد أبطالها، والتي استمرت مائتي عام، تخللها سبع حملات صليبية وقد شارك في مقدمة الحرب البابا والكنيسة وفرسان المعبد، أما شعارها وغطاءها فكان بذريعة أن المسلمين يضطهدون المسيحيين في الشرق ويمنعونهم من أداء شعائرهم!
أما أعجوبة العجائب في شعارات الحرب وغطاءها ودوافعها، فقد كانت في حرب الاحتلال الأمريكي للعراق على يد (جورج بوش) الابن، والذي كان مثار سخرية العالم من غربه إلى شرقه عبر عناوين كبريات الصحف العالمية، وأبرزها صحيفة "الغارديان" التي أوردت في عددها الصادر الجمعة (7/10/2005 م)، ما قاله جورج بوش من أنه مكلف برسالة سماوية وأن الله تكلم معه وقال له: "يا جورج اذهب إلى أفغانستان وقاتل هؤلاء الإرهابيين"! ثم تابع الرب قائلًا: "يا جورج اذهب إلى العراق لتنهي الطغيان"!
إذًا فأهم ما في الحروب والصراعات والمواجهات في بدئها هو دافعها وغطاءها الأخلاقي، وهذا ما ربحه وتم حسمه لصالح حزب العدالة والتنمية والشعب التركي، الذي أدخل حزب الشعوب الديمقراطي الكردي إلى السلطة التشريعية والبرلمان التركي بثمانين مقعدًا، أزاحت حزب العدالة والتنمية عن الأغلبية السابقة..
وحزب العدالة والتنمية الذي تحمل دون غيره مشقة وعناء وتبعات مشروع السلام الداخلي، كما أنه تعامل مع قضايا الأكراد والمشكلة الكردية بأسلوب ومنهج إيجابي فريد، لم يدع لأي مواطن كردي مبررًا لحمل السلاح على الدولة أو النقمة عليها، بعد أن صار في وطنه على قدم المساواة مع غيره من الأتراك.
فهل يكون جزاء هذا التعامل ومكافأة ذلك الشعب الذي اختار مسار السلام والوئام مع جميع مكوناته وفصائله وشرائحه أن يتحول بعض أفراده تحت الإغراء والدعم المعلوم بأدق تفاصيله لدى الشعب إلى أداة قتل وترويع وإرهاب، تقتل وتخرّب ممتلكات الشعب والدولة التي أصبح ممثلًا في أهم مؤسساتها، بل أصبح مسئولًا عن سن القوانين فيها والمشاركة في تعديل دستورها، والمشاركة في تشكيل الحكومة إن رغب في ذلك؟
التاريخ يعلمنا ويخبرنا أن الأتراك حازمون وحاسمون في مثل هذه المواجهات التي يُراد فيها كسر إرادتهم وإرغام أنوفهم.
وقد بسطت القول في ذلك في مقالتي السابقة بعنوان:
"مبروك تركيا مبروك لحزب العدالة والتنمية" في المقارنة بين الأتراك الذين سادوا الدنيا قرونًا، وبين الشعوب التي رزحت تحت الاحتلال عقودًا، هذا على الصعيد الداخلي.
أما على الصعيد الدولي والإقليمي: فقد شاء ربك بجميل أقداره ولطفه أن تكون التطورات الدراماتيكية كلها، والتي قد يقرأها بعض المحللين أو المتشائمين والذين ينظرون إلى ظاهر الأمور وتجلياتها أنها ليست في صالح تركيا، ولكننا نرى غير ذلك، وعلى رأس تلك التطورات الاتفاق النووي الإيراني من ناحية، واجتماع الفرقاء الدوليين على رأي يهدد الأمن القومي التركي في القضية السورية ونظيراتها من ناحية أخرى.
ذلك أننا نرى أنه لم تمر على أهل السنة في تاريخهم الحديث حقبة تمايزت فيها الأمة وصفوفها، ووقفت على الأخطار فيها عقولها، وتداعت عليها من أقطارها خصومها، كما هو الآن في هذه الحقبة من الزمان.
ولقد جرت السنن أن انتصارات هذه الأمة لا تولد إلا من رحم هذه الزلازل والمحن، وما كانت حطين ولا عين جالوت، ولا قبلها بدر الكبرى التي ناجى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ربه:
« » (صحيح البخاري:4877)، إلا في مثل هذه الأجواء والزلزلة.
تقف اليوم تركيا ومن خلفها كل الأحرار والشرفاء ودعاة السلام في العالم في وجه آلة الظلم والإجرام، وصناّع الإرهاب وجنرالاته، الذين يصنعون الإرهاب والإرهابيين في الغرف المغلقة ثم يخرجون علينا ليحاربوه في العلن، ويحتلوا باسمه الشعوب والدول، دامت الحروب الصليبية مائتي عام ارتُكبت فيها أبشع الجرائم، والآن هي لعنة تلاحق أصحابها، دمرت أمريكا اليابان بالقنبلة النووية لكنها أصبحت وصمة عار في ماضيها وحاضرها، ولعنة عليها تطاردها أبد الدهر.
السياسة التركية لا تعرف العنتريات الكذّابة، ولا تخوض الصراعات بالشعارات والربابة، متوازنة مع إيران في أسوأ الظروف، متواصلة مؤازرة للسعودية في أحلك الظروف، متحالفة متوافقة مع قطر في أغلب القضايا وصنائع المعروف، لا ترتمي في حضن شرقي لتغيظ وتبتز منافسه الغربي؛ بل لها شرفها ووجودها في شرقها وغربها، يخطئ من يصنف الأكراد كلهم أنهم حزب العمال الكردستاني.
كما إن أحزاب المعارضة التركية ليسوا من النوع الرديء الذي يطعن أخاه في ظهره، ومن يتأمل حالة الزعيم الكبير (دولت بهجلي) وما أثبته من أصالة العرق التركي وانتماءه لأمته، فسيعلم أن هذه أمة لا زال شعبها ينظر إلى حاضره ومستقبله مراعيًا تاريخه الذي سطره بأحرف من نور يوم علّم الكبار والجبابرة أن من المسلمين أمةً قادرة على البقاء، والنهوض بأعباء الإنسانية جمعاء.