الجوال نعمة أم نقمة؟
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى خلقنا وما نعمل، وما يخترعه البشر، ويكتشفونه، ويصنعونه هو من خلق الله، قال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات: (96)]، وقال سبحانه: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق: (5)]، وكل اختراع واكتشاف وكل صناعة وتطور فالفضل فيها لله؛ لأنه علم الإنسان كيف يصنع، وعلمه كيف يكتشف، وعلمه كيف يطور هذه المصنوعات، وهذه نعمة من الله {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [سورة النحل: (18)].
عناصر الخطبة :
1. كل علم الإنسان واختراعه واكتشافه ومصنوعاته نعمة من الله عليه.
2. شمولية أحكام الشريعة، وتطبيق ذلك على الجوال كحكم السلام والاستئذان...
3. قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، كلها في الجوال.
4. القرب من الزنا بواسطة الجوال.
5. أكل الأموال بالباطل.
6. دعم قنوات الفساد برسائل الجوال.
7. نشر الخير عبر الجوال لا نشر الضلال والبدع.
8. عفة الأزرار كعفة اللسان.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
- كل علم الإنسان واختراعه واكتشافه ومصنوعاته نعمة من الله عليه
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى خلقنا وما نعمل، وما يخترعه البشر، ويكتشفونه، ويصنعونه هو من خلق الله، قال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات: (96)]، وقال سبحانه: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق: (5)]، وكل اختراع واكتشاف وكل صناعة وتطور فالفضل فيها لله؛ لأنه علم الإنسان كيف يصنع، وعلمه كيف يكتشف، وعلمه كيف يطور هذه المصنوعات، وهذه نعمة من الله {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [سورة النحل: (18)].
وكم في هذه الآلات والأجهزة من فضل لله في تيسير الحياة وتقريب البعيد، ومن ذلك هذا الجوال الذي قرب المسافات، واختصر الأوقات، ونحن عبادٌ لله يجب أن نشكره على نعمه، والله قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فما وجه ختم الآية بقوله: {إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} بعد ذكر النعم؟.
الجواب: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}، فيجب عليكم أن تشكروها، وستقصروا في الشكر، ولكن الله غفور رحيم، فسبحانه أنعم علينا، وأمرنا بالشكر، ويغفر التقصير إذا تاب العباد وأنابوا.
وقد علَّم الله البشرية في هذا الزمن المتأخر من أنواع العلوم والفوائد التي تُحَسِّن من حياتهم المعيشية ما لم يكن في أسلافهم، وهذا فضل منه عز وجل، وهذا يحتاج منا إلى شكر عظيم، وإلى استعمال هذه الوسائل والآلات في طاعة الله، وفي هذا العمل من أنواع الاستعمال في الطاعات والمباحات الكثير، فيمكن للإنسان أن يتعلم به أمور دينه، وأن يستفتي عما يعرض له، وأن يصل رحمَه، ويطمئن على أهله، وأن يذكر إخوانه ويذكروه بالله، وأن يُنبه على أوقات الصلوات، وأن يوقظ أهله للصلاة، وأن يعرف أوقات الصلوات في الأماكن التي يذهب إليها في أنحاء العالم، فأنت ترى هذا الجهاز اليوم قد صار حاسباً وحاسوباً ومنظماً للوقت، ويستمع به الناس إلى القرآن، بل ويقرؤون منه في هذا الإمكان الكبير للتخزين، والبحث، وكذلك فيه من المقاطع التي يمكن أن تستعمل في الدعوة إلى الله، وأيضاً فيه من برامج العرض وفيه من إمكان التدوين للفوائد والملاحظات وتخزين الأرقام والمهام وإرسال الملفات والتسجيل ونحو ذلك من الفوائد الكثيرة، ما بين طاعة ومباح، والله سبحانه وتعالى إذا أنعم علينا بنعمة لا يجوز أن نستعملها في معصيته؛ لأن استعمال النعمة في المعصية ضد الشكر.
- شمولية أحكام الشريعة، وتطبيق ذلك على الجوال كحكم السلام والاستئذان
وينبغي علينا أن نعلم بأن هذه الشريعة العظيمة تستوعب كل جديد، وترى لله فيها أحكاماً، وللشريعة التي أنزلها ربنا آداباً في مثل هذه الأشياء، ولو استجدت، من عظمة الشريعة أنها تأتي بحكم كالاستئذان والسلام –مثلاً- ثم نكتشف نحن من الأحوال والأجهزة والآلات ما إذا رجعنا به إلى الشريعة وجدنا أن الحكم والأدب هو هو، الذي يستعمل عند الباب يستعمل في الجوال، فإذا اتصلت فأنت تلقي تحية الإسلام، وتحية الإسلام السلام، بخلاف ما يفعله بعض الناس من هجومه على المتصل بسؤال ونحوه، أو إلقاء تحية غير تحية الإسلام، والذي ينبغي على المسلم أن يبدأ بالسلام قبل السؤال، ويعلم أن الاستئذان هو أيضاً في هذا الجهاز كما هو في الباب، فإن الله لما قال لنا عن أبواب البيوت: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [سورة النور: (28)]، فكذلك إذا اتصلت على شخص فلم يستقبل المكالمة أو ردها فلا ينبغي أن تغضب، ولا تقل: أقفل في وجهي؛ لأن الله قال: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}، فإذا كان هذا في حال من يتكلف ويأتي على قدميه، فكيف بمن يُتصل عليه أو يَتصل فقط؟، ولذلك فإن معرفة آداب الشريعة تقي الناس كثيرا من الشحناء، تقي الناس ما يحصل في النفوس من نزغات الشيطان، وينبغي مراعاة حال من تتصل عليه؛ فربما كان في مرض، أو شغل، أو حال لا يسمح له باستقبال المكالمة، أو الإطالة في الحديث.
ويتجنب المسلم إيذاء عباد الله، والله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [سورة الأحزاب: (58)]، وكم لعباد الله من أذية في هذه الاتصالات اليوم، فينبغي تقوى الله عز وجل.
وإذا اتصل الإنسان يعرف بنفسه، «البخاري: (5/2306) باب: إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا: برقم: (5896)، ومسلم: (3/1697) باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل من هذا: (2155)]، يعني: أنه ينبغي على من يأتي أو من يتصل أن يُعرِّف باسمه، فيذكره واضحاً جليا بدلاً من أن يحرج المتصَل عليه، فيقول: ألم تعرفني؟، وهل نسيتني بسرعة؟.. ونحو ذلك من أنواع الامتحان التي لا مجال لها شرعاً؛ لأن الشريعة تقول: عرف بنفسك عند القدوم.
»، [رواه- قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، كلها في الجوال
وإن كثرة الكلام سبب لكثرة الخطأ، ومن كثر كلامه كثر سقطه، وتأمل ما يوجد في الجوال من سوء الاستعمال الذي ينطبق عليه حديث: «صحيح البخاري: (2/537) باب قوله تعالى لا يسألون الناس إلحافا: برقم: (1407) ومسلم: (3/1341) باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه: برقم: (593)] وهذا يحصل، فإنه إذا طال الكلام بلا فائدة كان "قيل وقال، وإضاعة المال"؛ لأن طول المكالمة هذه سيدفع مقابل لها، وكثرة السؤال، أي: فيما لا يعني، وفيما لا يفيد، وفيما فيه إحراج للآخر.
» [ومن الآداب خفض الصوت قال تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [سورة لقمان: (19)]، وهذا موضعه يتأكد مع الوالدين، وأهل العلم وأصحاب المقام والمنزلة، وإذا دعت الحاجة إلى رفع الصوت كإسماع ثقيل السمع الذي يحتاج إلى رفع الصوت، فإن رفع الصوت هنا عبادة، وأن ترفع صوتك حتى يفقه.
ومن الأدب أن لا تحوج غيرك إلى الاتصال، كما يفعله بعضهم، يتصل مرة، ويقفل؛ بقصد أن يتحمل الطرف الآخر نفقة الاتصال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه: برقم: (13) ومسلم: (1/67) باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير: برقم: (45)].
» [صحيح البخاري: (1/14) باب منعباد الله، لما تطورت هذه المصنوعات وصار فيها من الكاميرات وآلات التسجيل وغيرها صار لازماً التأكيد على عدم جواز الإيذاء، والتجسس على المسلمين؛ لأن بعض من لا يخاف الله يمكن أن يستعمل ذلك في تصوير عورات المسلمين ونساء المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الألباني في صحيح الجامع برقم: (7985)]، وقد تبين من كلام العلماء أن المجالس بالأمانة، ومن اتصل عليك وهو يقصد أن لا يسمعه إلا أنت فإنه لا يجوز أن تسجل مكالمته، ولا أن تسمعها للآخرين، ولا أن تفتح مكبر الصوت في الجوال وهو يتكلم معك ليسمع من حولك، إلا إذا أذن، فإنه إذا قصد في الكلام السر وأن لا يسمعه إلا أنت فلا يجوز أن تُسمع غيرك، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [سورة الحجرات: (12)]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » [رواه أبو داود: (4/268) باب في نقل الكلام: برقم: (4869) وضعفه الألباني].
»، [سنن الترمذي: (4/378) باب ما جاء في تعظيم المؤمن: برقم: (2032) وصححه- القرب من الزنا بواسطة الجوال
عباد الله، لما صار هذا الزمن فيه إثارة للشهوات والغرائز في كل ناحية بوسائله من الغناء ومقاطع الفيديو كليب وغيرها، وهذه الصور المنتشرة والأفلام، وهذا التبرج، ونحو ذلك، صار هذا الجوال مَعْبَراً ووسيلة للتعارف المحرم وقصد الحرام، وترتيب اللقاءات المحرمة، ولذلك فإن قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [سورة الإسراء: (32)]، يؤخذ منه عدم جواز الاتصال في هذه الفواحش؛ لأن قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ}، أبلغ من قوله: ولا تزنوا، لا تقربوا الزنى، أي: لا يكون أيُّ فعل يقرب إلى الزنا، وهذه الاتصالات التي يسميها الناس بالمعاكسات، وما فيها من التلاعب بالأعراض، وإيذاء عبادِ اللهِ في أخواتِهم وبناتهم وزوجاتهم، وحتى لو كان الطرف الآخر مستجيباً أو مريداً، وقد تبدأ هي بالاتصال، فإن القضية اليوم أمانة خطيرة في هذه الأجهزة، فإن على الذي يَتصِل أو يُتصَل به أن يرعى أن الله يسمعه، وأن الله يراه، وأن الله يراقبه، وأنه لا يغيب عنه بحال، ولذلك فلا بد أن تعلم وأنت تتصل، وأنت تتلقى المكالمة أن ربك مطلع عليك، وأنه يسمع ما تقول، وأنه يراك وما تفعل.
وهذه الوسيلة صار فيها مجال للمخادعة، فيقلد بعضهم -ممن لا يستحي- صوت النساء، فيتصل مغرياً الطرف الآخر بشحن شريحته لأنه يريد أن يتكلم معه ويفهمه أنه امرأة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » [مسند أحمد بن حنبل: (1/339) برقم: (3151) وأصله في البخاري بلفظ: « »] فإذاً تقليد الأصوات من الجنسين محرم بناء على هذا الحديث.
وربما يتصل بعضهم اتصالاً يروع فيه آخاه المسلم، أو ينتحل فيه شخصية يروعه بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «
»، [رواه أبو داود: (4/301) باب من يأخذ الشيء على المزاح: برقم: (5004) وصححه الألباني]، وإن إحداث الصدمات النفسية والعصبية المفتعلة التي تندرج فيما يسميه بعض الناس بالمقالب إنما هو إيذاء.ومرض المظهرية الجوفاء، والتشبع بما لم يُعطَ الإنسان يدعو بعضهم إلى أن يتباهى بجواله ويتفاخر، وربما قال لصاحبه اتصل بي؛ لأُخرِج الجوال أمام الناس؛ ليعرفوا أنه من كذا وكذا مما استجد، ومما غلا ثمنه، ونحو ذلك، وهذا -لا شك- من التباهي على عباد الله، والتفاخر ونوع من الكبر، وربما يريد بعضهم أن يُرى أنه شخص مهم ليخدع في صفقات ونحوها من يدخل إليه من أصحاب التجارة، فيقول لبعض من يتفق معهم: أكثروا من الاتصال عليَّ في المجلس؛ ليعلموا أني شخص مهم، أو أنني من أصحاب الصفقات؛ خداعاً، وهذا الخداع محرم، ولا شك.
- أكل الأموال بالباطل
وكذلك فإنك تجد من أكل المال بالباطل أن فيه ما فيه، وتأتيك رسائل من هؤلاء المشبوهين الذين يقولون: مبروك لقد كسبت جائزة مقدارها كذا، وسيارة كذا، واتصل لتحصل عليها، ونحو ذلك، وهذه الاتصالات مدفوعة مخصومة قيمتها من أول رفع السماعة، وبعضها يقول: شارك في السحب، وهذا نوع من الميسر، وقد قال الله عز وجل في كتابه العزيز: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، فكيف يجوز الدخول في هذا السحب، وفيه دفع مال وهو أجرة الاتصال؟.
عباد الله، لقد صرنا في عصر فتن، وهاهي المكالمات المحرمة تأتي من الخارج بأعداد هائلة إلى جوالات الناس، ورسائل تقول اتصل بي لحديث كذا وكذا من المحرمات، وبعد ذلك إذا صار الاتصال تكون هذه الدقائق وهذه المدة بالأرقام الباهظة في فاتورة الجوال، فهو شيء فيه إدخال في الحرام، وكذلك أكل للمال بالباطل من الجهة الأخرى، وقد قال الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
- دعم قنوات الفساد برسائل الجوال
عباد الله، إن ما يقوم به بعض الناس من الاتصال بشاشات الغناء؛ لكي يدعم برسائل الجوال هذه القنوات، التي من أكبر مدخولها هذه الاتصالات، إنه تعاون على الإثم والعدوان.
وكذلك ينبغي على الموظفين الانتباه إلى عدم إهدار وقت الدوام الذي يأخذون عليه الأجرة سواء كان في الأعمال العامة كالأعمال الحكومية، أو الأعمال الخاصة كأعمال المؤسسات والشركات؛ لأن هذا الوقت هو مؤتمن عليه، وهذا الوقت مدفوع الأجرة، فإذا أمضاه في غير مصلحة العمل، وفي غير الشيء المعتاد المسموح به، فإنه يكون قد فوت على الطرف الآخر الحقَّ، وربما أدى إلى تعطيل مراجعين.
والإسراف منهي عنه شرعاً، وبعض الناس يسرف في استعمال الجوال فتأتي الفواتير بالآلاف، وكذلك فقد حصل من المشكلات الاجتماعية بل التي وصلت إلى الطلاق وخراب الأسر ما حصل بسبب هذه الفواتير المتراكمة.
عباد الله، وإن استعماله أثناء قيادة السيارة مما يؤدي للحوادث بالتجربة والدراسات، {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، ولذلك إذا كان استعماله يفقد الجزء المطلوب من الذهن للتركيز يُمنع شرعاً استعماله عند ذلك، وإن هذه الدراسات الحديثة قد أثبت أن أربعين في المائة من الحوادث مردها لاستعمال الجوال أثناء القيادة، وقد تنادى العقلاء في أرجاء الأرض إلى ضرورة التشديد في العقوبة على ذلك، وإذا كان الإنسان يعلم من حاله والظروف التي هو فيها ونوع الشارع الذي يسلكه والحركة المرورية التي هو فيها أن هذه المكالمة تفقده التركيز المطلوب فإنه ينبغي عليه أن يمتنع؛ لأن سلامة أرواح الناس وممتلكاتهم يجب المحافظة عليها ولا خيار في ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الشرور والآثام، وأن يرزقنا التقوى، وأن يجعلنا على ما يحب ويرضى، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، الرحمة والسراج المنير والبشير والنذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا وإمامنا ونبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى ذريته الطيبين وأزواجه وخلفائه الغر الميامين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أشهد أنه رسول الله حقا، والداعي إلى سبيله صدقا، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه.
وكان عليه الصلاة والسلام لا يرد السلام وهو يقضي حاجته وقد "مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد على حاجته فسلم عليه فلم يرد"، [رواه أبو داود: (1/5) باب أيرد السلام وهو يبول: برقم: (16)] قال النووي رحمه الله: في هذا أن المسلِّم في هذا الحال لا يستحق جواباً، وهذا متفق عليه، ولكن المتصل بالجوال لا يعلم حال صاحب الجوال في أثناء الاتصال، ولذلك فإن صاحب الجوال هو الذي يتحمل المسؤولية، فلا يرد في بيت الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى.
وينبغي إغلاق هذا الجوال في الأماكن التي يحصل الضرر بفتحه فيها: عند إقلاع الطائرة، وبجانب أجهزة المستشفيات، وفي أماكن الدراسة والتحصيل والجامعات وقاعات الدروس، وفوق ذلك كله بيتُ الله، وعند الصلاة، فإن بيت الله يجب أن يوقر، وإن من حرمة المساجد أن لا يكون فيها شيء فيه تشويش على المصلين، ولا العابدين ولا العاكفين ولا الذين يتلون كتاب الله ويذكرونه، وفي بيوت الله يعتكفون؛ لأن أحب البلاد الله مساجدها، فيجب أن تنزه عن التشويش على العبادة التي هي صلة بين العبد وربه، فكيف إذا كان التشويش بمحرم كهذه الموسيقى؟، فإنه قد حصل البلاء العظيم ببث هذه المحرمات في بيوت الله، وهذا شيء -ولا شك- يغضب ربنا عز وجل، فيجب التنبه لهذا، ومن حصل منه أغلقه حالاً، وقد يتحرج في الصلاة أن يتحرك لكن نقول له: حركة لا بد منها الآن أفتتحرج من حركة ولا تتحرج من أن تنطلق أصوات المحرمات في بيت الله وتشغل إخوانك المصلين، وتنقلهم من جو الصلاة إلى جو الأغاني، وتبدأ الأفكار والخواطر والأذهان في الاسترسال مع هذه الأصوات، ولذلك فإن لهو الحديث والمعازف قد جاء تحريمها في الكتاب والسنة، فينبغي على العبد أن يتقي ربه، وقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: لا يجوز استعمال النغمات الموسيقية في الهواتف أو غيرها من الأجهزة؛ لأن استماع الآلات الموسيقية محرم كما دلت عليه الأدلة الشرعية ويستغنى عنها باستعمال الجرس العادي.
عباد الله، وينبغي كذلك أن نحذر من أن ينطلق الجوال بشيء فيه ذكر الله في الخلاء، ولذلك الأَوْلى أن لا تُجعل رنات الجوال أشياء فيها ذكر؛ لئلا تنطلق في مكان يكون فيه امتهان لهذا الذكر، والله أنزل كتابه لكي نتدبره ونعقله، ونعمل به، وليس ليكون تذكيراً بورود مكالمة!. القرآن شأنه أعلى من ذلك.
عباد الله، إنه ينبغي أن يوقَّر ربُّنا، وأن يوقَّر كلامُه سبحانه وتخزين القرآن في الجوالات أمر طيب؛ لأن فيه تسهيل الوصول للقرآن عند القراءة أو البحث والرجوع إليه، وهذه الآلات ينبغي أن تستعمل قدراتها التخزينية العالية في تخزين العلم وما ينفع، والقرآن من هذا، ولا بأس بقراءة القرآن من الجوال، فإذا ظهر القرآن على الشاشة صار لها حكم المصحف، وإذا اختفى لمن يكن لها حكم المصحف، ولذلك فإنه لا حرج في الدخول بالجوال إلى بيت الخلاء ولو كان المصحف مخزناً فيه ما دام غير ظاهر على الشاشة؛ لأنه إذا ظهر يكون له حكمه، فإذا لم يظهر وكان مخفياً فليس له حكم حينئذ، كشريط القرآن المسجل عليه، فإنك لو دخلت به الخلاء فلا حرج في ذلك، ولكن لا يشغل في ذلك المكان.
عباد الله، إنه ينبغي علينا ونحن نتعامل مع هذه التقنيات الحديثة أن نعلم أحكام الشريعة وآدابها فيها، ويسأل بعض الناس عن شحن الجوال من كهرباء الحرم ونحوه؟ والجواب: أنهم إذا سمحوا بذلك وعُلم عدم اعتراضهم عليه، ووضعها فيه، فإنه لا حرج، صحيحٌ أن لها قيمةً ولو قلَّت، وهذه الذرة ومثقال الذرة مجال للحساب، لكن إذا عُلم الإذن بذلك فلا حرج فيه، وكذلك ما جرت به العادة، وسُكت عنه فلا حرج فيه.
وحثوا نساءكم على عدم الخضوع للصوت في هذه الاتصالات مع الرجال الأجانب؛ لأن الله قال في كتابه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [سورة الأحزاب: (32)].
لقد صارت هذه الجوالات في أيادي أبنائنا وبناتنا، وحُسن التربية والوعظ والتذكير والتوجيه وبيان الحُكم الشرعي وأدب الشريعة مما يعين على تلافي الأخطار؛ لأن هذا الجهاز في الحقيقة معبر إلى كل شيء، فبه اليوم تتصفح المواقع العنكبوتية، وتشاهد القنوات، فقد دخل في الصميم، ودخل إلى الصميم، ودُخل منه إلى الصميم، فإذاً ينبغي أن تكون التربية اليوم هي الحصن الحصين الذي يكفل -بإذن الله- عدم استعمال هذه الأجهزة فيما حرم الله عز وجل.
- نشر الخير عبر الجوال لا نشر الضلال والبدع
عباد الله، ينبغي علينا أن نكون في حال من طاعة الله سواء استعملنا هذا الجهاز في إرسال نص أو إرسال صوت أو إرسال صورة؛ لأن كثيرا من المحرمات اليوم عبر هذه الوسائل، ومن ذلك المقاطع المحرمة التي تتداول بين الناس، والرسائل مجال تذكير عظيم في الدعوة إلى الله، وتنبيه الغافلين، وتعليم الجاهلين، وقد استفاد الناس كثيراً من الجوالات الشرعية المنضبطة بالشريعة الإسلامية، الحريصة على الدليل، الحريصة على ما ينفع الناس، فينبغي العناية بها إعداداً ومشاركة، وأما أن تستغل رسائل الجوال في البدع، وإرسالها ونشرها ثم يحرج على الناس، ويقال في الرسالة: إذا لم ترسلها إلى عشرة فلا أسامحك، وسأسألك يوم القيامة...!، ومن أنت حتى تجزم بأنك ستسأله؟ وربما لا يمكنك الله من ذلك، ثم إذا كانت بدعة فإن نشرها محرم، ولا يجوز أن يرسلها لا إلى عشرة ولا إلى واحد، بل يجب أن يُنصح الذي أرسلها بأن هذه غير مشروعة، أو أن هذا الحديث غير صحيح؛ لأن الدين النصيحة، ولأننا مؤتمنون على هذه الشريعة، وهذه الأحاديث النبوية يجب أن نراعي فيها حق الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ننسب إليه ما لم يقله، وبعض الناس يستعملون رسائل الجوال في نشر الإشاعات المخيفة، وقد تقدم حكم ترويع المسلم، وأن نشر الفزع في المجتمع المسلم لا يجوز.
- عفة الأزرار كعفة اللسان
ويجب أن تكون عند كتابة الرسالة عفة قلم، فعفة الأزرار كعفة اللسان؛ لأن القلم أحد اللسانين، وبعض الناس قد يرسل أشياء فيها فحش وبذاءة، -وكثيراً ما تكون-!، والله عز وجل قد نهانا عن ذلك {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة النساء: (148)]، وما كان النبي عليه الصلاة والسلام فاحشاً ولا متفحشا.
عباد الله، وإذا استعملت مثل هذه الرسائل في القذف!، {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النور: (15)]، فإن على فاعل ذلك أن يتوب إلى الله، وقد تستعمل في نشر الكذب على أوسع نطاق، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: أنه مر على معذبين على معذبين ذكر العلماء أنه في البرزخ والقبر، ومنهم « » [صحيح البخاري: (6/2583) باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح: برقم: (6640)]، إلى متى؟ يعلم الله، ما جريمته؟ ماذا فعل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن حال هذا الرجل: « »، والآن برسائل الجوال تبلغ الكذبة الآفاق.
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى قد حرم علينا أن نقول عليه بلا علم، والواجب أن نتأكد، وأن نفعل ما أمرنا به ربنا سبحانه وتعالى.
اللهم إنا نسألك علماً نافعا، وعملاً صالحا، اللهم اجعل لنا لسان صدق في الآخرين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، واغفر لنا أجمعين، وتب علينا يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في أمن وأمان، وسلامة، وحسن إسلام، يا رب العالمين، اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد أمننا بسوء فامكر به، ومن أراد بلدنا هذا بشر فاجعل كيده في نحره، اللهم إنا نسألك أن تغيثنا برحمتك، وأن تنعم علينا بفضلك، اللهم إنا نسألك أن تعطينا من فضلك يا أرحم الراحمين، أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وعافنا واعف عنا، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، سرها وعلانيتها، لا تجعل لنا ذنباً إلا غفرته، فرج كروبنا، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وأن تستر عيوبنا، وأن تشفي مرضانا، وترحم موتانا، يا أرحم الراحمين، أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادك، اللهم أرشد الأئمة وولاة الأمور، وآمنا في الأوطان والدور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: (90)]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [سورة العنكبوت: (45)].
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
محمد صالح المنجد
أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.
- التصنيف:
- المصدر: