وما دخل عباداتك في دنياك؟! (1/ 2)
أبو محمد بن عبد الله
من زوايا خفية تسربت العلمانية لفقهيات الأمة ونشاطاتها الشخصية بإبعادها عن معنى التقرب إلى الله تعالى، ومن ثَمّ عزلها عن مقتضيات الشريعة وتحريها في شواطئنا كما نتحراها في صلواتنا، على نحو ما قال قوم شعيب في علمانية قديمة واضحة: {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ّ}، فكأنهم يقولون كما يقال اليوم: ما دخل الدين في الحريات، وما دخل الصلاة في الحيتة، إنما هي علاقة بين العبد وربه!
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - فقه العبادات - قضايا إسلامية -
مفهوم العبادة من المفاهيم الإسلامية التي انحرف فهم الناس لها، بل صار تشويهه وتحريفه عمدًا مِن قِبل أعداء الإسلام، وقد حصروه في معانيَ ضيقة وأعمال محدود؛ كثيرًا ما تكون طقوسية جوفاء، لا أثر لها في دنيا الناس. وقد درج فقهاء الإسلام المتأخرون إلى تقسيم أعمال الناس إلى عبادات ومعاملات؛ لأجل التقسيم الفني التعليمي، ومِن أجل إجراء قاعدة التفقُّه واستنباط الأحكام لكل نوع، وهي قاعدة: "الأصل في العبادات (أي المحضة) التوقيف حتى يأتي دليل المشروعية، والأصل في المعاملات الإباحة والجواز حتى يأتي الدليل المانع". لكن مع مرور الزمن وقلة العلم انطبع في حس كثيرٍ من الناس أن العبادات ليست من المعاملات، ولا علاقة لها بدُنيا الناس، وأن المعاملات ليست من عبادات، ولا علاقة لها بأجرٍ أو وِزرٍ أو آخرة، وأنها علاقة بين العبد وربِّه في الضمير أو في حركات معزولة عن الواقع، وكانت هذه جناية لهذا التقسيم الفني على مفهوم العبادة، وأنتج أثرًا سيئًا في الالتزام بالإسلام، بل أصاب حياةَ الناس في جانب المعاملات بنوع من العَلمانية بغير شعور، بينما أعداء الإسلام يقصدون هذا ويكيدون به للإسلام وأهله، على حدِّ قول قوم شعيب: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87]. فمن زوايا خفية تسربت العلمانية لفقهيات الأمة ونشاطاتها الشخصية بإبعادها عن معنى التقرب إلى الله تعالى وعن مقتضى الإيمان، ومن ثَمّ عزلها عن مقتضيات الشريعة وعن أن تَحَرَّاها في شواطئنا كما نتحراها في صلواتنا، على نحو ما قال قوم شعيب في علمانية قديمة واضحة؛ فكأنهم يقولون كما يقال اليوم: ما دخل الدين في الحريات، وما دخل الصلاة في الحياة، إنما هي علاقة بين العبد وربه!
والواقع أن عبادات الإسلام والتي على رأسها أركان الإسلام: الصلاة والزكاة والصوم والحج، أن أثرها على معاملات الناس وفي حياتهم الدنيا قبل أن ينتقلوا بها إلى الدار الآخرة، فلو أحسنَّا في هذه العبادات، وأحسسنا بقيمتها وفهِمْنَا دورها لكان لها الأثر البالغ في حياتنا الفردية والجماعية، ولنأخذ أمثلة على ذلك باختصار ليتبين أن عباداتنا هذه تُرجى للدنيا قبل الآخرة.
فهذه الصلاة؛ هي إلى جانب التزكية الروحية، لها تزكية أخرى واقعية عملية بَيَّنَها الله–سبحانه- بقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت:45]، فأين تقع الفحشاء والمنكر، في الدنيا أم في الآخرة، فتنهى عنها الصلاة؟ فها هي الصلاة التي يفعلها المصلون من أجل الآخرة تنهاهم من المعاصي في الدنيا. فإذا كانت هذه الصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا تقوم حارسًا على أخلاق المصلِّين، ولا تكون صمَّام أمان عن الانطلاق وراء الشهوات والفساد في الأرض؛ مِن هَتْك الأعراض وسفك الدماء وزهق الأرواح واختلاس الأموال أو تبذيرها، ولم تحقق وظيفتها؛ فليست هي الصلاة التي فرضها الله-سبحانه-، بل إن ذلك يدل على أنها صلاةٌ جوفاء خاوية من حقيقتها، لا خشوع فيها، حتى وإن صاح المصلِّي تَخَشُّعًا، أو سالت دموعه على خدِّه، حتى وإن نخر فيها المصلي أو شهق أو خرَّ مَغشيًا عليه! بل ورد في الأثر أنّ: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعدًا"([1]). وما نطقت به الآية السابقة مِن أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أكده رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لَمَّا قيل له :« »([2]).
وهذه عبادة الصوم، الذي لا يعلمه منك على الحقيقة إلا الله تعالى، فقد تصوم لا يعلم بك أقرب الناس إليك، وقد تفطر سِرًّا وتدَّعي أنك صائم ولا يكتشفك أحد، لذلك جاء في الحديث: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، فأين يُثمرُ الصيام التقوى، في الدنيا أم في الآخرة؟ والتقوى التي يثمرها الصيام تتمثل فيما يتمثل فيه أثر الصلاة، وهكذا كل العبادات؛ لها أثر واقعي في التربية والتزكية وتقويم السلوك وتنظيم الحياة، وتَحْكُمه في إنتاجه وتطوره، وفي غوصه في أعماق البحار، كما تحكُمه حين يحلِّق في الجو أو يخترق الفضاء أو ينفذ من أقطار الأرض والسماء، يتذكر دائمًا أنه عبدٌ لله-سبحانه-، وأنه خلَقَه لعمارة الأرض لا لتخريبها، وأن هذا التعمير للأرض نفسه عبادةٌ، لها ضوابطها وخشوعها، ويُؤْجَر حين يُصلح فيها، وتكون سببًا لدخوله الجنة، ويأثم حين يُفسِد فيها، ويكون ذلك سببًا لدخوله النار يوم القيامة، فضلا عن الحدود والعقوبات والتعازير الجزائية المترتبة على ذلك.
»(متفق على صحته)، ومع ذلك فله أثر في الدنيا قبل أجر الآخرة، وذلك لقوله تعالى: {وهذه الزكاة، تزيد المال المأخوذ منه أولًا، عكس ما يرى الناس من أنها تنقصه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « »(مسلم، صحيح مسلم، رقم:[2588])، فالشاهد أن الصدقة لا تُنقص المال، بل تزكيه وتزكي صاحبه المُعطِي والفقير المعطَى، كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها}[التّوبة:103]، بخلاف الربا الذي يقع فيه الناس لزيادة أموالهم فيمحقها اللهُ ويُنقصها: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة:276]. فالزكاة إذن أيضًا تقيم حياتنا الدنيا وتزكيها، وتبني مجتمعاتنا وتنمي فيها التكافل والثقة والألفة والترابط الأسري والمجتمعي، حتى إنها في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله حققت اكتفاءً وغَناءً، حتىا إنهم لم يجدوا لمن يعطوا الزكاة، حتى نادوْا من نزوجه ومن نشتري له دابة...
بل الاستغفار والتسبيح الذي صار في حس الناس من مكفرات الذنوب أو من مُدَّخرات الآخرة فقط، لا علاقة له بواقع الناس، غير أنَّ للذكر فوائد دنيوية مادية حِسِّية ما لا يحصيه إلا الله تعالى؛ في الدنيا قبل الآخرة، فعن علي أن فاطمة عليهما السلام أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة، قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: « » فجاء فقعد بيني وبينها، حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: « »(البخاري، برقم:[5361]، ومسلم، برقم:[ 2727]، في صحيحيهما)، فعلَّمهما ذكرًا يعوض قوة البدن المادية، بينما يظن الكثيرون أن الذكر للأجر وفقط!
بقي أن نذكر في المقال الآتي كون أعمال الدنيا أيضًا يمكن أن تتحول إلى عبادات بتحري الشرع وإصلاح النية.
ـــــــــ هوامش ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- انظر: العجلوني، كشف الخفاء، رقم (2602)، 2، 277. وهذا الأثر يُروى حديثًا، والصحيح أنه موقوف من كلام ابن مسعود(رضي الله عنه)، والمقصود به التأكيد على الأثر الواقعي للصلاة.
[2] - انظر: مسند الإمام أحمد، برقم:[9776]، والطحاوي، مشكل الآثار، رقم:[2056].