أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا
وَهَذِهِ النِّعْمَةُ العُظْمَى إِنَّمَا تَقُومُ وَتَتَحَقَّقُ عَلَى رَكَائِزَ وَأُسُسٍ مُهِمَّةٍ، يَأْتِي في مُقَدّمتِهَا الإِيمَانُ باللهِ - تعالى - وإِفْرَادُهُ بالتَّوْحِيدِ والاسْتِقَامَةُ على العمَلِ الصَّالِحِ، فَـ{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
- التصنيفات: التصنيف العام -
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ - سبحانه وتعالى - حَقَّ التَّقْوَى، ورَاقِبُوُهُ في السِّرِّ والنَّجْوَى، واعْلَمُوا أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِي السِّيَاجُ المَتِينُ والحِصْنُ الحَصِينُ والدِّرْعُ الوَاقِي الأَمِينُ مِنَ الفِتَنِ والمِحَنِ والبَلاَيَا، فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ جَاءَ اِلإسْلاَمُ وَهُوَ الدِّينُ القَوِيمُ وَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ بِنِظَامٍ شَامِلٍ وَنَهْجٍ كَامِلٍ صَالِحٍ لِكُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، حَقَّقَ مِنْ خِلاَلِهِ الحَيَاةَ الهَادِئَةَ التي يَطْمَحُ إِلَيْهَا الناسُ في مُجْتَمَعَاتِهِم، ومِنْ أَعْظَمِ الأَوَامِرِ التي جَاءَ بِهَا حِفْظُ الضَّرُورَاتِ الخَمْسِ المُهِمَّةِ التي أَجْمَعَ الرُّسُلُ والأنبِيَاءُ قَاطِبَةً على حِفْظِهَا وَأَهَمِيَّتِهَا وَرِعَايَتِهَا والمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؛ وهي: حِفْظُ الدِّينِ، والنَّفْس، وَالعَقْلِ، والمَالِ، والعِرْضِ. فهَذِهِ الأُمورُ هي قِوَامُ حَيَاةِ النَّاسِ، بِحِفْظِهَا صَلاَحُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وبِالتَّفْرِيطِ فِيهَا وإِهْمَالِهَا فَسَادُ الكَوْنِ واضْطِرَابُ الأُمورِ وفُشُوَُّ القَلَقِ والفَوْضَى والانْحِلاَلِ.
وَكَانَ حِفْظُهُ لَهَا مُزْدَوجًا مِنْ جَانِبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِقَامَةُ أَرْكَانِهَا وتَثْبِيتُ دَعَائِمِهَا وَإِرْسَاءُ قَواعِدِهَا، وثَانِيهِمَا: حِمَايَتُهَا وَدَرْءُ الخَلَِل الوَاقِعِ أو المُتَوَقَّعِ عَلَيْهَا. ولِذَلِكَ فقَدْ أَقَامَ الإِسْلاَمُ كُلَّ الضَّمَانَاتِ اللاَّزِمَةِ والسُّبلِ المُخْتَلِفَةِ التي تَحْفَظُ هذِهِ الضَّرُورَاتِ، ورَتَّبَ الجَزَاءَ الرَّادِعَ وَالوَعِيدَ الشَّدِيدَ والعِقَابَ الأَلِيمَ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا في ضَيَاعِ أَو فُقْدَانِ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ أو التَّفْرِيطِ فيهِ، وجَعَلَ مِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الوَسَائِلِ وتِلْكَ الضَّمَانَاتِ الزَّاجِرَةِ عَنِ الإِخْلاَلِ بِأَيٍّ مِنْ هَذِهِ المَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ التي يَتَحَقَّقُ بِهَا حِفْظُ مَصَالِحِ العِبَادِ وقِيَامُ الحَيَاةِ الكَرِيمَةِ تَوَفُّرُ الأَمْنِ والأَمَانِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ والإِيمَانِ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الأَمْنَ في الأَوْطَانِ والسَّلاَمَةَ في الأَبْدَانِ أَكْبَرُ نِعْمَةٍ وأَعْظَمُ طِلْبَةٍ تَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِهَا الأُمَمُ والشُّعُوبُ، ويَطْمَحُ إِلَيْهَا الأفْرَادُ والمُجْتَمَعَاتُ على مَرِّ العُصُورِ، وَيَخْطِبُ وُدَّهَا الصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ، وَيَأوِي إِلَيْهَا وَيَأْنَسُ بِهَا كُلُّ مَنْ يَنْشُدُ الرَّاحَةَ وَالاطْمِئْنَانَ وَكُلُّ مَنْ فَقَدَ الأُنْسَ وَتَجَرَّعَ الأَحْزَانَ، لاَ يَهْنَأُ للنَّاسِ عَيْشٌ بِدُونِهَا، وَلاَ يَقِرُّ لَهُم قَرَارٌ عِنْدَ فَقْدِهَا، لاَ أَجَلّ مِنْهَا وَلاَ أَعْظَم إِلاَّ نِعْمَةُ الإِسْلاَمِ، فَالأَمْنُ هُو سَبِيلُ الدَّعَةِ والطُّمَأْنِينَةِ، وطَرِيقُ الرَّخَاءِ والاسْتِقْرَارِ وَرَغَدِ العَيْشِ، في ظِلِّهِ تَحْلُو العِبَادَةُ، وَتَصْفُو الحَيَاةُ، وَتَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ، وَتَهْدَأُ القُلُوبُ، وَتَعُمُّ البَرَكَاتُ، وتَصْلُحُ الأَحْوَالُ، وَيَهْنَأُ النَّوْمُ وَالطَّعَامُ والشَّرَابُ، ويَعِيشُ النَّاسُ رَاحَةَ البَالٍ، وَنَعِيمَ الآمِنِينَ. يَقُولُ المُصْطَفَى –صلى الله عليه وسلم-: «
» (رواه الترمذيُّ وابن ماجه). وَقَدِيمًا قَالَتِ العَرَبُ في أَمْثَالِهَا وَحِكَمِهَا: "الأَمْنُ نِصْفُ العَيْشِ، وَلاَ عَيْشَ لِخَائِفٍ".وَهَذِهِ النِّعْمَةُ العُظْمَى إِنَّمَا تَقُومُ وَتَتَحَقَّقُ عَلَى رَكَائِزَ وَأُسُسٍ مُهِمَّةٍ، يَأْتِي في مُقَدّمتِهَا الإِيمَانُ باللهِ - تعالى - وإِفْرَادُهُ بالتَّوْحِيدِ والاسْتِقَامَةُ على العمَلِ الصَّالِحِ، فَـ{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
فَالإِيمَانُ باللهِ وحْدَهُ وَالبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ يَحْمِلُ كُلَّ فَرْدٍ في المُجْتَمَعِ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا سَاهِرَةً وَيَدًا حَافِظَةً أَمِينَةً، ونَفْسًا رَحِيمَةً مُشْفِقَةً، سَاعِيَةً في اجْتِنَابِ كُلِّ مَا مِنْ شأَنْهِ أَنْ يُؤْذِي المُسْلِمِينَ، أَوْ يُسَبِّب لَهُم الخَوْفَ في أَنْفُسِهِم أَوْ أَمْوالِهِم أو أَعْراضِهِم، فَضْلاً عَنِ الاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا وَإِزْهَاقِهَا؛ فَالمُسْلِمُ الصَّادِقُ في إِيمَانِهِ مَأْمُونُ الجَانِبِ، لاَ يَقَعُ في الآثَامِ وَالذُّنُوبِ فَضلاً عَنِ الجَرِيمَةِ وَالاعْتِدَاءِ؛ لأَنَّ خَوْفَهُ مِنَ اللهِ - تعالى - وَمِنْ عَذَابِهِ يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِِيمَانَهُ باللهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الوُقُوعِ في الجَرَائِمِ أَيًّا كَانَ نَوْعُهَا؛ قَدْ قَالَهَا هَابِيلُ لأَخِيهِ قَابِيلَ منْذُ فَجْرِ التَّأْرِيخِ عِنْدَمَا أَرَادَ قَتْلَهُ: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 28- 29].
وَإِنَّ الكُفْرَ باللهِ - سبحانه - وَالشِّرْكَ بهِ والبُعْدَ عَنْهُ وَعَنْ شَرْعِهِ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ المُبَاشِرَةِ لِتَقْوِيضِ الأَمْنِ في المُجْتَمَعَاتِ وَزَعْزَعَةِ مُقَوِّمَاتِهِ في النُّفُوسِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلى الوُقُوعِ في المَعَاصِي وَالجَرَائِمِ وَزَرْعِ الخَوْفِ وَالهَلَعِ في النُّفُوسِ وضَيَاعِ الأَمْنِ مِنَ القُلُوبِ قَبْلَ المُجْتَمَعَاتِ ولَو تَبَجَّحَ المُتَبَجِّحُونَ مِنَ الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ وَأَتْبَاعِهِم بالأَمْنِ والأَمَانِ؛ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وَإِنَّ أَعْظَمَ دَلِيلٍ عَلَىَ هَذَا الجَاهِلِيَّةُ المَاضِيَةُ التي أَدْرَكَهَا الإِسْلاَمُ فَأَزَالَهَا؛ مِن خِلاَلِ حَيَاةِ الفَوْضَى والاضْطِرَابِ التي كَانَتْ تُخَيِّمُ على مُجَتَمَعَاتِهِم، والمُتَمَثِّلَةُ في الغَارَاتِ والحُرُوبِ القَبَلِيَّةِ التي تَقُومُ بَيْنَ القَبَائِلِ ثَأْرًا لأَتْفهِ الأُمُورِ، فَتَمْكُثُ الأَعْوَامَ العَدِيدَةَ لاَ تَخْمُدُ نَارُهَا وَلاَ تَنْدَمِلُ آثَارُهَا، أَو بِقَصْدِ السَّلْبِ والنَّهْبِ والقَتْلِ بِدُونِ ضَابِطٍ أَو زَاجِرٍ، ولاَ أَمْنٍ وَلاَ أَمَانٍ، ولاَ رَاحَةٍ ولاَ اطْمِئْنَانٍ.
فَكَانَتِ القَبِيلَةُ تَعِيشُ في قَلَقٍ مُسْتَمِرٍّ وخَوْفٍ دَائِمٍ مِنَ القَبَائِلِ الأُخْرَى المُجَاوِرَةِ، ووَقَعَتْ حُرُوبٌ مُدَمِّرَةٌ وصِرَاعَاتٌ طَاحِنَةٌ سَجَّلَهَا التَّأْرِيخُ في صَفَحَاتِهِ السَّوْدَاءِ بِمِدَادٍ مِنَ الدَّمِ، اسْتَمَرَّ بَعْضُهَا عُقُودًا مِنَ الزَّمَنِ؛ كَحَرْبِ دَاحِسَ والغَبْرَاءِ وغَيْرِهَا مِنَ الحُرُوبِ الطَّاحِنَةِ ذَاتِ الأَسْبَابِ التَّافِهَةِ التي أُرْخِصَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ وسُلِبَتْ فِيهَا الأَمْوَالُ وانْتُهِكَتْ فِيهَا الأَعْرَاضُ.
إِلَى أَنْ جَاءَ الإِسْلاَمُ بأَمْنِهِ وإِيمَانِهِ، فَأَمِنَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْوَاحِهِم ومُمْتَلَكَاتِهِم، وبَشَرهُم المُصْطَفَى –صلى الله عليه وسلم- إِنْ هُمُ اسْتَقَامُوا عَلَى دِعَامَتِي الأَمْنِ: الإِيمَانِ باللهِ - تعالى - والعَمَلِ الصَّالِحِ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُم الأَمْنُ المُنْقَطِعُ النَّظِيرِ في دُنْيَا الوَاقِعِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُم اللهُ خُلَفَاءَ الأَرْضِ، وَأَنْ يُبَدِّلَهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْنًا، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمُوتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ - تعالى -والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ كما صَّحَّ عَنِ رَسُولِ الهُدَى - عليه الصلاة والسلام -. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
عِبَادَ اللهِ: وفي المُجْتَمَعَاتِ الكَافِرَةِ المُعَاصِرَةِ أَو التي فَرَّطَتْ في إِسْلاَمِهَا وَأَضَاعَتْ أَوَامِرَ رِبِّهَا وَقَصَّرَتْ في دِينِهَا مِنَ البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ تَرَى العَجَبَ العُجَابَ؛ مِنْ ضَيَاعِ الأَمْنِ وانْعِدَامِ الأَمَانِ وكَثْرَةِ الإجْرَامِ والاغْتِصَابِ والسَّرِقَاتِ وَالنَّهْبِ والاعْتِدَاءِ عَلَى الأَنْفُسِ والأَعْرَاضِ والمُمْتَلَكَاتِ، وغَيْرِ ذلكَ مِنَ الجَرَائِمِ البَشَعَةِ التي صَارَ البَشَرُ مَعَهَا كالبَهَائِمِ الضَّعِيفَةِ التي تَتَهَدَّدُهَا الذِّئَابُ المُفْتَرِسَةُ والوُحُوشُ الضَّارِيَةُ في الغَابَاتِ المُوحِشَةِ، لاَ حُرْمَةَ لِدِمَائِهِم، ولاَ عِصْمَةَ لِنُفُوسِهِم، ولاَ كَرَامَةَ لأَعْرَاضِهِم، ولاَ صِيَانَةَ لأَمْوَالِهِم، وتِلْكَ عَاقِبَةُ الأُمَمِ حِينَ تَبْتَعِدُ عَنِ اللهِ، وتَكْفُرُهُ وتُشْرِكُ بِهِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ رَكَائِزِ الأَمْنِ وَدَعَائِمِ اسْتِتْبَابِهِ الأَمْرُ بالمَعْرُوُفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ وَالنُّصْحُ للهِ - تعالى -وَلِكِتَابِهِ وِلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ صِمَامُ الأَمَانِ للمُجْتَمَعِ وَعِمَادُ الدِّينِ الذِي فُضِّلَتْ بِهِ أُمَّةُ الإِسْلاَمِ عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ، تَتْكَاتَفُ بِهِ الجُهُودُ، وَيُلَمُّ بِهِ الشَّعَثُ، وَيُرْأَبُ الصَّدْعُ، وَتُسْتَصْلَحُ بِهِ أَحْوَالُ المُجْرِمِينَ وَالمُفْسِدِينَ، وَتُتَّقَى بِهِ أَسْبَابُ الهَلاَكِ، وَتُدْفَعُ البَلاَيَا عَنِ المُجْتَمَعَاتِ المُسْلِمَةِ؛ {فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116- 117].
كَمَا أَنَّ اجْتِمَاعَ الكَلِمَةِ وَوَحْدَةَ الصَّفِّ وتَرْكَ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ وَتَحْقِيقَ الأُخُوَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ القَائِمَةِ عَلَى المَحَبَّةِ وَالتَّرَابُطِ وَالتَّكَاتُفِ وَالالْتِفَافَ حَوْلَ القَادَةِ المُخْلِصِينَ وَالبُنَاةِ المُصْلِحِينَ وَاحْتِرَامَ الدُّعَاةِ وَالعُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ وَالآمِرِينَ بالمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنْكَرِ وَالصُّدُورَ عَنْ رأيهم، وَتَرْكَ الرَّغَائِبَ وَالشَّهَوَاتِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الأَمْنِ وَالاطْمِئْنَانِ وَالقُوَّةِ التي تَدْفَعُ عَنِ الأُمَّةِ العَدُوَّ المُتَرَبِّصَ وَالخَصْمَ المُتَجَهِّزَ للانْقِضَاضِ عَلَيْهَا وَالنَّيْلِ مِنْهَا في مَرَاحِلِ ضَعْفِهَا وَتَنَازُعِهَا؛ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ حَرِصَ المُصْطَفَى –صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامَةِ دَوْلَةِ الإِسْلاَمِ في المَدِينَةِ عَلَى الأُخُوَّةِ والتَّآلُفِ وَنَبْذِ أَسْبَابِ الفُرْقَةِ وَالتَّنَازُعِ، فَأَلَّفَ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ الذِينَ تَحَارَبُوا وَتَقَاطَعُوا أَعْوَامًا وَقُرُونًا، ثُمَّ آخَى بَيْنَهُم وَبَيْنَ المُهَاجِرِينَ؛ حَتَّى قَالَ اللهُ - تعالى -عَنْهُم في مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...} [الفتح: 29].
إِنَّ الأَمْنَ -عبادَ اللهِ- لاَ يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ؛ لِمَا يَغْرِسُهُ في النُّفُوسِ من اطْمِئْنَانٍ وسَعَادَةٍ؛ وَلِمَا يَجْلِبُهُ لِحَيَاةِ النَّاسِ مِنْ رَخَاءٍ واسْتقْرَارٍ وَرَغَدِ عَيْشٍ، وفي هَذَا كُلِّهِ ضَمَانَةٌ للأُمَّةِ مِنْ نِقْمَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: الخَوْفِ وَالجُوعِ، اللَّتَيْنِ يُسَلِّطُهُمَا اللهُ - تعالى - على الكَافِرِينَ الجَاحِدِينَ لِشَرْعِهِ المُتَكَبِّرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَإِنَّ اسْتِتْبَابَ الأَمْنِ تَكْرِيمٌ مِنَ اللهِ - تعالى - لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ لِنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَاجٌ جَلِيلٌ عَلَى رُؤُوسِ الآمِنِينَ لاَ يَعْرِفُ قَدْرَهَا وَقِيمَتَهَا إِلاَّ مَنِ اصْطَلَى بِنِيرَانِ الحُرُوبِ وَالفِتَنِ وَعَاشَ حَيَاةَ الفَوْضَى وَالاضْطِرَابِ، فَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الأَشْيَاءُ.
وَلِذَلِكَ قَرَّر الإِسْلاَمُ مَا يَحْفَظُ الأَمْنَ ويُدِيمُهُ على المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا يُنَاقِضُهُ؛ فَحَرَّمَ الاعْتِدَاءَ على النُّفُوسِ والأَعْرَاضِ والأَمْوالِ وإِزْهَاقَهَا وإِيذَاءَهَا، وَجَعَلَ عُقُوبَةَ مَنْ يُزْهِقُهَا النَّارَ في الآخِرَةِ؛ تَكْرِيمًا وصِيَانَةً لِهَذِهِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ المُسْلِمَةِ، وَجَعلَ قَتْلَهَا بِدُونِ سَبَبٍ يُبِيحُ ذَلكَ كَقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: «البخاريُّ ومسلم).
» (رواه الترمذيُّ وهو صحيحٌ)؛ وصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ –صلى الله عليه وسلم- قوله: « » (رواه النسائيُّ والترمذيُّ). وَوَقَفَ –صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُوَدِّعُ الأُمَّةَ في المَجْمَعِ العَظِيمِ يَوْمِ عَرَفَةَ قَائِلاً: « » قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: « » قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: « » قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: « »، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: « » قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ": « » (رواهوَلَقَدْ أَرَادَ الإِسْلاَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْقِيقَ الحَيَاةِ الآمِنَةِ الكَرِيمَةِ المُسْتَقِرَّةِ الهَادِئَةِ لأَتْبَاعِهِ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعَاتٍ، التي لاَ يُعَكِّرُهَا سُلُوكُ العَابِثِينَ والمُنْحَرِفِينَ والمُجْرِمِينَ؛ وَلِذَلكَ شَرَعَ الحُدُودَ والتَّعْزِيرَاتِ الزَّاجِرَةَ لِكُلِّ مَنْ يُحَاوِلُ العَبَثَ أَوِ الإِخْلاَلَ بأَمْنِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ، وجَعَلَ - سبحانه وتعالى - عُقُوبَةَ المُفْسِدِينَ في الأَرْضِ المُحَارِبِينَ للهِ ورَسُولِهِ –صلى الله عليه وسلم-وجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، جَعَلَ عِقَابَهُم شَدِيدًا لِمَا يُسَبِّبُونَهُ مِنْ تَرْوِيع للآمِنِينَ وإِخَافَةٍ للمُسلِمِينَ والمُسْتَأْمَنِينَ ونَشْرٍ للفَسَادِ في الأَرْضِ؛ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
وقَرَّرَ - سبحانه وتعالى - لِوَلِيِّ الأَمْرِ في حَالاَتٍ أُخْرَى مِنَ الجَرَائِمِ والاعْتِدَاءَاتِ المُخِلَّةِ بأَمْنِ المُجْتَمَعِ والأَفْرَادِ حَقًّا فِيمَا يُسَمّيهِ الفُقَهَاءُ (بالتَّعْزِيرِ) المَبْنِي على تَحْقِيقِ المَصْلَحَةِ العَامَّةِ، والذي لاَ حَدَّ لأَكْثَرِهِ شَرْعًا كَمَا قَرَّرَ المُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، بَلْ يَخْضَعُ لِتَقْدِيرِ الأَئِمَّةِ والقُضَاةِ بنَاءً عَلَى الأَحْوَالِ والحَوَادِثِ؛ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَرْدَعُهُ النَّظْرَةُ، ومِنْهُم مَنْ تَرْدَعُهُ الكَلِمَةُ، وِمْنهُم مَنْ تَرْدَعُهُ الصَّفْعَةُ، ومِنْهُم مَنْ لاَ يَرْدَعُهُ إِلاَّ اسْتِئْصَالُ شَأفَتِهِ مِنَ الأَرْضِ وإِرَاحَةُ العِبَادِ والبِلاَدِ مِنْ شَرِّهِ وفَسَادِهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ: لَقَدْ تَسَاهَلَ بَعْضُ النَّاسِ في الدِّمَاءِ المَعْصُومَةِ، واجْتَرَؤوا عَلَى هَتْكِ هَذَا السِّتْرِ المَنِيعِ، وَهِيَ عِنْدَ اللهِ - تعالى -عَظِيمَةٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: « »، وَقَالَ ابنُ عُمَرَ –رضي الله عنهما-: "مَِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ التي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكُ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ"، وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « » (رواه الترمذيُّ وأحمدُ والنسائيُّ)، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « » (رواه البخاريُّ وغيرُهُ).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: وَلقَدْ مَنَّ اللهُ - تعالى -عَلَى هَذِهِ البِلاَدِ المُبَارَكَةِ مَهْبِطِ الوَحْيِ ومَنْبَعِ الرِّسَالاَتِ وَقِبْلَةِ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا بالأَمْنِ والأَمَانِ؛ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ البَاهِرَةِ الوَاضِحَةِ، ونِعْمَةً مِنْ نِعْمَهِ العَظِيمَةِ، ثُمَّ بفَضْلِ جُهُودِ المُخْلِصِينَ مِنْ وُلاَةِ أَمْرِ هَذَا البَلَدِ وأَبْنَائِهِ والعَامِلِينَ فِيهِ؛ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ الحَقِّ - سبحانه وتعالى -: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]، وقَوْلِهِ - سبحانه وتعالى -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]. ثُمَّ بِفَضْلِ مَا مَنَّ اللهُ - تعالى -بهِ عَلَى هَذِهِ البِلاَدِ مِنْ إقَامَةِ شَرْعِ اللهِ وَتَطْبِيقِ الحُدُودِ عَلَى المُجْرِمِينَ، والتِي هِي كَفِيلَةٌ بإِذْنِ اللهِ للتَّقْلِيلِ مِنَ الجَرِيمَةِ، ورَدْعِ أَصْحَابِ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ التِي لاَ يَزْجُرُهَا زَاجِرٌ مِنْ ضَمِيرٍ أَوْ دِينٍ أَوْ رَحْمَةٍ عَنْ تَنْفِيذِ نَوَايَاهَا السَّيِّئَةِ وجَرَائِمِهَا البَشِعَةِ.
وَكُلُّنَا يَلْمَسُ -عِبَادَ اللهِ- مَا نَعِيشُهُ في هَذِهِ البِلاَدِ المُقَدَّسَةِ بِحَمْدِ اللهِ - تعالى - مِنْ أَمْنٍ ورَاحَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ؛ حَيْثُ أَمِنَ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِم ومُمْتَلَكَاتِهِم وأَعْرَاضِهِم؛ نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ المَحَلاَّتِ التِّجَارِيَّةِ في الأَسْوَاقِ أَحْيَانًا أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ لا يُغْلِقُونَهَا، بَلْ يَتْرُكُونَهَا مَفْتُوحَةً لاسْتِتْبَابِ الأَمْنِ وقَرَارَتِهِ في نُفُوسِهِم وعِلْمِهِم أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا بِسُوءٍ؛ لأَنَّهُ سَيَنَالُ العِقَابَ الرَّادِعَ وَالجَزَاءَ الزَّاجِرِ، هَذَا فَضْلاً عَنِ الأَمْنِ عَلَى الأَرْوَاحِ والأَعْرَاضِ والمَنَازِلِ المُنْقَطِعِ النَّظِيرِ في بِلاَدٍ شَتَّى مِنَ العَالَمِ.
لَكِنَّ الأَعْدَاءَ شَرِقُوا بِهَذَا الأَمْنِ، وَغَصُّوا مِنْ هَذَا الاطْمِئْنَانِ الذي تَعِيشُهُ بِلاَدُ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، فَرَاحُوا يُدَبِّرُونَ الخُطَطَ والمُؤَامَرَاتِ للإِخْلاَلِ بأَمْنِهَا ونَشْرِ الجَرِيمَةِ فِيهَا وتَعْوِيدِ النَّاسِ عَلَى الاعْتِدَاءِ وَالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ والقَتْلِ وتَرْوِيعِ الآمِنِينَ؛ {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].
وَكَانَ أَنْ وَجَدُوا ضِعَافَ دِينٍ وَقَلِيلِي مُرُوءَةٍ وَعَدِيمِي بَصِيرَةٍ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا، اسْتَطَاعُوا مِنْ خِلاَلِهِم تَنْفِيذَ جُزْءٍ مِنْ خُطَطِهِم ومُؤَامَرَاتِهِم التي تَهْدِفُ أَوَّلاً وآخِرًا إِلَى إقْصَاءِ شَرْعِ اللهِ - تعالى -عَنِ المُجْتَمَعِ وَتَرْوِيعِ الآمِنِينَ في بِلاَدِ الأَمْنِ والأَمَانِ. يُرِيدُونَ -قَاتَلَهُم اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ-، يُرِيدُونَ مِنْ هَذِهِ البِلاَدِ المُبَارَكَةِ الآمِنَةِ أَنْ تَكُونَ فَوْضَى واضْطِرَابَاتٍ، تُهَدِّدُهَا عِصَابَاتُ الإِجْرَامِ والإِفْسَادِ بَيْنَ الحِينِ والآخَرِ؛ لاَ يَأْمَنُ فِيهَا أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ، ولاَ يَهْدَأُ عَلَى عِرْضِهِ، ولاَ يَسْلَمُ لَهُ مَالُهُ.
نَعَمْ عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِمَّا يَنْدَى لَهُ جَبِينُ كُلِّ مُسْلِمٍ غَيُورٍ عَلَى دِينِهِ وأُمَّتِهِ حَرِيصٍ عَلَى أَمْنِ مُجْتَمَعِهِ وَبِلاَدِهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ الآمِنُونَ في هَذِهِ البِلاَدِ مِنْ مُسْلِمِينَ ومُسْتَأْمَنِينَ وَفِي مُقَدَّمَتِهِم رِجَالُ الأَمْنِ وَحُرَّاسُهُ لِقَضَايَا التَفْجِيرِ والإِحْرَاقِ والقَتْلِ والإِهْلاَكِ وَالتَّرْوِيعِ، على أَيْدِي هَؤُلاَءِ الجَهَلَةِ الأَغْرَارِ الذِينَ اتَّخَذَهُم الأَعْدَاءُ وَسِيلَةً لِتَنْفِيذِ خُطَطِهِم وَمَآرِبِهِم، في الوَقْتِ الذِي يُقَتَّلُ فِيهِ المُسْلِمُونَ في بِلاَدٍ مَنْكُوبَةٍ مِنَ العَالَمِ عَلَى أَيْدِي عَبَدَةِ البَقَرِ والصَّلِيبِ؛ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى والمَجُوسِ والذِينَ أَشْرَكُوا.
إِنَّ مَا يَقُومُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُزَعْزِعُونَ للأَمْنِ مِنْ تَرْوِيعِ الآمِنِينَ وقَتْلِ الأَنْفُسِ البَرِيئَةِ المَعْصُومَةِ وَالاعْتِدَاءِ عَلَى رِجَالِ الأَمْنِ وتَدْمِيرِ المُمْتَلَكَاتِ وَتَهْدِيمِ العِمْرَانِ لَهُوَ فَاجِعَةٌ عَظِيمَةٌ، تُؤْذِنُ بِفَتْحِ بَابٍ خَطِيرٍ عَلَى الأُمَّةِ مِنْ قِبَلِ ضِِعَافِ النُّفُوسِ والمُجْرِمِينَ الذين لَيْسَ لَهُم وَازِعٌ دِينِيٌّ يَرْدَعُهُم، ولاَ ضَمَائِرُ تَحْجُزُهُم عَمَّا يَجُولُ في نُفُوسِهِم مِنْ شُرُورِ وآثَامٍ.
وَإِنَّ المسلمِينَ جَمِيعًا مَسْئُولُونَ عَنْ حِمَايَةِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تُؤْتَى مِنْ قِبَلِهِم، وَتَحْقِيقِ الأَمْنِ في مُجْتَمَعَاتِهِم؛ وَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُوَاطِنٍ صَالِحٍ يُؤْمِنُ باللهِ - تعالى - أن لاَّ يَرْضَى أَبَدًا بالمُزَايَدَةِ عَلَى أَمْنِ أُمَّتِهِ وَدَوْلَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ، لأَنَّهُ أَوَّلُ المُسْتَفِيدِينَ مِنْ تَحَقُّقِ الأَمْنِ وَالأَمَانِ. إِنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُوَاطِنٍ وَسَاكِنٍ في هَذهِ البِلاَدِ المُبَارَكَةِ المُقَدَّسَةِ رَجُلاً كَانَ أو امْرَأَةً أَنْ يَكُونَ رَجُلَ أَمْنٍ؛ عَيْنًا سَاهِرَةً عَلَى أَمْنِ مُجْتَمَعِهِ، يُحَارِبُ الفَسَادَ والإِجْرَامَ، وَيأَمْرُ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ.
يَجِبُ أَنْ تَتَضافَرَ جُهُودُنَا وَتَتَلاَحَمَ صُفُوُفُنَا وَتَتَّحِدَ أَصْوَاتُنَا جَمِيعًا للوُقُوفِ في وَجْهِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الخَطِيرَةِ عَلَى أَمْنِنَا وأُمَّتِنَا وبِلاَدِنَا، وَأَنْ نُحَافِظَ على أَمْنِ بِلاَدِنَا؛ فبالأَمْنِ تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ، ويَسْكُنُ البَرِيء، ويأْنَسُ الضَّعِيفُ، ويَطْمَئِنُّ الخَائِفُ، وتَعْلُو الهِمَمُ، وتَرْقَى الأُمَمُ؛ فإِنَّه لَيْسَ لِخَائِفٍ رَاحَةٌ، ولاَ لِحَاذِرٍ طُمَأَنِينَةٌ.
يَجِبُ عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نُقَدِّرَ نِعْمَةَ الأَمْنِ الذِي نَعِيشُهُ، وَأَنْ نَشْكُرَ اللهَ - تعالى -عَلَيْهَا، وَأَنْ نَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِ الدُّوَلِ المُجَاوِرَةِ لَنَا، وَأَنْ نَعْرِفَ لأَهْلِ الفَضْلِ -مِنْ وُلاَةٍ وَحُرَّاسِ أَمْنٍ وَآمِرِينَ بالمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ المُنْكَرِ- فَضْلَهُم ونَشْكُرَ لَهُم جُهُودَهَم، وَأَنْ نَسْعَى جَاهِدِينَ للتَّعَاوُنِ مَعَهُم لاسْتِتْبَابِ الأَمْنِ وثَبَاتِ العَقِيدَةِ ومُحَارَبَةِ المُجْرِمِينَ المُفْسِدِينَ العَابِثِينَ بأَمْنِ هَذا البَلَدِ ومُقَدَّرَاتِهِ؛ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُورًا.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِِ عَلَى إِحْسَانهِِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِِهِ وَامْتِنَانِِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ الدَّاعِِي إِلَى رِضْوَانِهِِِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِِ وَعَلَى آلهِِِ وَأَصْحَابهِِ وَإِخْوَانِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحْسَانٍٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ تَرْوِيعَ الآمِنِينَ مِنْ أَعْظَمِ الجَرَائِمِ عِنْدَ اللهِ - تعالى -، وَهُوَ مِنَ الإفْسَادِ في الأَرْضِ الذِي حَرَّمَهُ اللهُ ونَهَى عَنْهُ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ والتَّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: «
». فَكَيْفَ إِذَا انْضمَّ إِلَى هَذَا التَّرْوِيعِ القَتْلُ والإَزْهَاقُ للأَرْوَاحِ والتَّدْمِيرُ والإِهْلاَكُ للمُمْتَلَكَاتِ؟! لاَ شَكَّ أَنَّ الوِزْرَ أَعْظَمُ وَالإِثْمَ أَشَدُّ وَالعِقَابَ أَنْكَى.رَوَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ - رضي الله عنه -: عَنِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «
» (رواه البخاريُّ)؛ وَعَنِ ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: عَنِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « » (متفق عليه)؛ وعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « » (متفق عليه)؛ وَعَنِ ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: عَنِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « » (متفق عليه).وَِمِنْ خِلاَلِ هَذِهِ النُّصُوصِ الشَرْعِيَّةِ -عِبَادَ اللهِ- نُدْرِكُ شَنَاعَةَ هَذِهِ الأَعْمَالِ الإِجْرَامِيَّةِ في مِيزَانِ الإِسْلاَمِ، وَأَنَّها مُحَرَّمَةٌ أَشَدَّ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ المُسْلِمَ الحَقَّ المُنْتَسِبَ إِلَى الإِسْلاَمِ بِصِدْقٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِعْوَلَ هَدْمٍ وقَتْلٍ وإِفْسَادٍ وتَرْوِيعٍ للآمِنِينَ، وَأَنَّ الإِسْلاَمَ بَرِيء كُلَّ البَرَاءَةِ مِمَّا يَقُومُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُزَعْزِعُونَ للأَمْنِ وَإِنِ ادَّعُوا الإِسْلاَمَ وَتَلبَّسُوا بِهِ، فَمَا كَانَ مَقْصِدُ الإِسْلاَمِ يَوْمًا مَا إِزْهَاقَ الأَرْوَاحِ أَو إِهْدَارَ الأَمْوَالِ أَو تَرْوِيعَ الآمِنِينَ، بَلْ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِهِ تَكْرِيمَ الإِنْسَانِ وَصِيَانَةَ دَمِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ وَعَقْلِهِ وَضَمَانَ الحُرِيَّةِ الكَامِلَةِ لَهُ وَفْقَ ضَوَابِطِ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ.
إِنَّ هَؤُلاَءِ المُخِلِّينَ بالأَمْنِ وَالمُزَعْزِعِينَ لَهُ لاَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَةِ الأَمْنِ وَعَظَمَتِهَا؛ إِمَّا لأَنَّهُم حَاقِدُونَ عَلَى هَذِهِ البِلاَدِ وَأَهْلِهَا يُرِيدُونَ لَهَا الدَّمَارَ وَالخَرَابَ، وَإِمَّا لأَنَّهُم أَلِفُوا نِعْمَةَ الأَمْنِ حَتَّى نَسُوا فَضْلَهَا وَمَعْنَاهَا، وَتَقَلَّبُوا في أَفْيَائِهَا حَتَّى غَفَلُوا عَنْ ضِدِّهَا، فَلَمْ يَعْرِفُوا لَهَا مَكَانَةً وَلاَ فَضْلاً، وَلَمْ يُقِيمُوا لَهَا وَزْنًا وَلاَ قَدْرًا، وَلاَ رَيْبَ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ النِّعْمَةِ مَنْ فَقَدَهَا، ولاَ يَعْرِفُ الإِسْلاَمَ مَنْ لاَ يَعْرِفُ الجَاهِلِيَّةَ.
أَلاَ فَلْيَعْلَمْ هَؤُلاءِ أَنَّهُم في الحَقِيقَةِ إِنَّمَا يُزَعْزِعُونَ أَمْنَ أَنْفُسِهِم وَوَالِدِيهِم وَأُسَرِهِم قَبْلَ أَنْ يُزَعْزِعُوا أَمْنَ غَيْرِهِم مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ أَفْعَالِهِم تِلْكَ إِلاَّ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ وَالمُتَرَبِّصُونَ بِهَا الحَاقِدُونَ عَلَيْهَا.
كَمَا يَجِبُ عليْنَا -مَعَاشِرَ الإِخْوَةِ- أَنْ نَحْذَرَ مِنَ التَّرْوِيجِ لِمَا يَبُثُّهُ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ وأَذْنَابُهُم مِنَ العَلْمَانِيِّينَ والمَُنَافِقِينَ مِنْ إِلْصَاقِ التُّهَمِ بالمُلْتَزِمِينَ بِشَرْعِ اللهِ - تعالى - المُطَبِّقِينَ لِسُنَّةِ المُصْطَفَى –صلى الله عليه وسلم-، وَوَصْفِهِم بالإِرْهَابِ، أَو رَمْي الجِهَادِ الإِسْلاَمِيِّ المَشْرُوعِ المَضْبُوطِ بِضَوَابِطِهِ الذِي هُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الإِسْلاَمِ بالإِرْهَابِ، فَإِنَّ الجِهَادَ في الإِسْلاَمِ إِنَّمَا شُرِعَ لأَسْبَابٍ وَجِيهَةٍ وَأَهْدَافٍ نَبِيلَةٍ سَامِيَةٍ وَحَالاَتٍ مَحْصُورَةٍ في رَدِّ عُدْوَانِ المُعْتَدِينَ والدِّفَاعِ عَنِ الأَرْضِ والنَّفْسِ وَالعِرْضِ وَمُعَاقَبَةِ مَنْ نَكَثَ العُهُودَ وَالمَواثِيقَ وَمُقَاتَلَةِ مَنْ مَنَعَ وَصُولَ دَعْوَةِ اللهِ إِلَى النَّاسِ وَنُصْرَةِ المَظْلُومِينَ المُسْتَضْعَفِينَ المُحَارَبِينَ في دِينِهِم. وَيَا سُبْحَانَ اللهِ! أَيَكُونُ الاعْتِدَاءُ عَلَى الشُّعُوبِ المُسْلِمَةِ واحْتِلاَلُهَا وَتَدْمِيرُهَا وَتَشْرِيدُ أَهْلِهَا وَإِبَادَتُهِم والاعْتِدَاءُ عَلَى أَعْرَاضِهِم وَأَمْوَالِهِم وَالزَّجُّ بِهِم في المُعْتَقَلاَتِ والسُّجُونِ مُقَاوَمَةً للإِرْهَابِ وَعَدْلاً مَشْرُوعًا، وجِهَادُ هَؤُلاءِ المُسْتَضْعَفِينَ وَدِفَاعُهُم عَنْ بِلاَدِهِم وأَنْفُسِهِم وأَعْرَاضِهِم وَمُمْتَلَكَاتِهِم وَوُقُوفُهُم في وَجْهِ المُعْتَدِي الغَاصِبِ إِرْهَابًا وَظُلْمًا مُحَرَّمًا؟! أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
يَقُوُلُ بُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ الأَسْلَمِيُّ - رضي الله عنه -: "كَانَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَو سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «
» (رواه مسلمٌ).وَلَمَّا أَنْفَذَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ –رضي الله عنه- بَعْثَ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ - رضي الله عنهما - إِلَى الرُّومِ قَالَ: "إنِِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لاَ تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلاَ صَبِيًّا، وَلاَ كَبِيرًا هَرِمًا، وَلاَ تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلاَ تَعْقُرَنَّ شَاةً وَلاَ بَعِيرًا إِلاَّ لِمَأْكلَةٍ، وَلاَ تُغَرِقَنَّ نَخْلاً وَلاَ تُحَرِقنَّهُ، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَجْبُنُوا، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُم في الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُم وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُم لَهُ) رواه البيهقيُّ.
فَمَا كَانَ أَتْبَاعُ الإِسْلاَمِ الحَقِّ يَوْمًا مَا مُفْسِدِينَ في الأَرْضِ أَو مُرْهِبِينَ لإِخْوَانِهِم المُسْلِمِينَ أَو المُسَالِمِينَ لَهُم أَو مُرَوّعِينَ للآمِنِينَ، خَابُوا وَكَذَبُوا واللهِ، إِنَّمَا الإِرْهَابُ الحَقِيقِيُّ مَا صَنَعُوهُ هُمْ ونَظَّمُوهُ وَقَامُوا بِهِ ضِدَّ إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ في فِلَسْطِينَ وفي الشِّيشَانِ وفي أَفْغَانِسْتَانَ وفي العِرَاقِ وفي غَيْرِهَا مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ وَدِيَارِ الإِسْلاَمِ المَنْكُوبَةِ. وَمَا هَذِهِ الحَوَادِثُ التي تَقَعُ في بِلاَدِ المُسْلِمِينَ في المَمْلَكَةِ وغَيْرِهَا إِلاَّ مِنْ صُنْعِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ وَأَتْبَاعِهِم وتَدْبِيرِهِم وتَخْطِيطِهِم وإِنْ أَلْصَقُوهَا بالمُسْلِمِينَ وَوَصَمُوهُم بِهَا وادَّعَوا كَذِبًا وزُورًا وَبُهْتَانًا أَنَّهَا مِنْ فِعْلِ المُسْلِمِينَ:
فََمَـا إِرْهَـابُ هَذَا العَصْـرِ مِنَّـا *** وَلاَ فِينَـا وَلاَ هُوَ مِنْ هُدَانَـا
دَعَـاوَى مِـنْ عَدُّو اللَّـهِ يَرْمِـي *** بأَسْهُمِهَـا لِيُوقِفَ مُرْتَقَانَـا
وَكَمْ مِنْ وَاهِـنٍ في الأَرْضِ يَحْبُـو *** ويَحْسَب أَنَّـهُ بَلَـغَ العَنَانَـا
أَمَـا عَلِـمَ الْمُكَـابِـرُ أَنَّ فِينَـا *** كِتَـابَ اللهِ يَمْنَحُنَـا البَيَانَـا
واعْلَمُوا -رَعَاكُم اللهُ- أَنَّ هَذِهِ البِلاَدَ المُبَارَكَةَ قَامَتْ عَلَى التَّلاَحُمِ بَيْنَ الوُلاَةِ والدُعَاةِ بِدَعْوَةِ الإِمَامَيْنِ مُحَمَّدِ بنِ سُعُودٍ وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الوَهَّابِ -عَلَيْهِمَا رَحْمَةُ اللهِ-، واتَّخَذَتْ مِنْ مَنْهَجِ التَّوْحِيدِ والإِسْلاَمِ دُسْتُورًا لَهَا، ولَعَلَّ هَذَا هُوَ سِرُّ تَقَدُّمِهَا ورُقِيِّهَا وأَمْنِهَا وأَمَانِهَا بإِذِْن اللهِ - تعالى -، وَلَنْ يَصْلُحَ أَمْرُ آخِرِ هَذِهِ البِلاَدِ أَبَدًا إِلاَّ بِمَا صَلَحَ بِهِ أَمْرُ أَوَّلِهَا.
فَاتَّقُوا اللهَ -رَحِمَكُمُ اللهُ-، والْزَمُوا صِرَاطَهُ المُسْتَقِيمَ، وَاسْتَنُّوا بِسُنَّةِ رَسُولهِِ الكَرِيمِ، تَفُوزُوا وَتُفْلِحُوا.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
ناصر بن محمد الغامدي