لا تحسبوه شرا لكم
ولقد مرت بالمسلمين ـ في تاريخهم ـ فتراتٌ تسلّط فيها الأعداء من التتار والصليبيين وأهل البدع، وبلغ التفرق بين المسلمين مداه، وذاق المسلمون حياة الذل والمهانة؛ حتى خُيّل لبعض من عاش في ذلك الزمان أنه لن تقوم للإسلام والمسلمين قائمة، ومع ذلك جاء نصر الله، وقامت دولة الإسلام قوية كما كانت، وخرج الأعداء من ديار المسلمين صاغرين.
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون، تشهد السنوات الأخيرة ـ وإلى الآن ـ حرباً شرسة من اليهود والنصارى والمنافقين، على الإسلام وأهله، تدور رحاها في أكثر بلاد المسلمين، وهذه سنة الله في تمحيص أوليائه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112]، ومن هذه الآية نفهم أن العداوة والصراع سنَّة من سنن الله تواجه المؤمنين الصادقين، فهي معركة تتجمع فيها قوى الشر وتتعاون وتتحد لحرب المؤمنين الصادقين الذين يقفون في وجه الباطل ويقولون له: أنت باطل.
وهذه الحرب على الإسلام لا تدل على ضعفه، بل هي ظاهرة تدل على أن الإسلام بدأ ـ بأتباعه ـ يشكِّل مصدر خطر ورعب على أعدائه. لكن أيضاً نحن نجزم أن وراء هذه الابتلاءات الخير الكثير، ربما لا نتصوره الآن ـ لهول المصيبة ـ ولكنه سيظهر قريبا بإذن الله {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11]، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19].
وربما يسأل سائل فيقول: هل تعني أن وراء هذه المحن والمصائب التي تحل بالمسلمين، منفعة وفائدة؟ المسلمون يُقتّلون، يُطاردون، ويُحاصرون، وتُلفّق عليهم التّهم العظام، وتقول لي: إن وراء ذلك فائدة ومصلحة؟!
ونقول لهذا السائل: نعم، بل ليست فائدة واحدة، بل فوائد عظيمة، نحن عنها غافلون، لذلك سريعاً ما يسيطر علينا اليأس والقنوط.
فاسمع ـ أيها المسلم ـ يا من يحزنك ما ترى وما تسمع من أحوال المسلمين:
أولاً: قد يكون الابتلاء سبب ليراجع الإنسان نفسه، ويحاسبها على ما اقترفت من الذنوب، يقول الله - عز وجل -: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]، لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتوبون ويرجعون إلى الله، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وكم من الناس ـ ممن نعرف ـ تاب إلى الله ورجع إليه بعد حادث أصابه، أو بعد فقد عزيز عليه، فكان في ذلك البلاء الخير العظيم {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} والشدائد والصعاب تُربِّي الرجال، وتُصلح فاسدهم، والمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش، فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربه، والشدائد تُذكره بربه وخالقه.
ثانياً: وفي الابتلاء تهيئة للمبتلين لمقامات رفيعة في الدنيا والآخرة، لا يمكنهم الوصول إليها إلا على جسر من التعب والبلاء. وهذا الأمر مُشاهد معروف، فكم من داعية لم ينتشر علمه ودعوته وكتبه إلا بعد ابتلائه أو سجنه أو قتله.
وهذا هو الإسلام يحارب، ويُضيق عليه، وتُشن عليه الدعايات الكاذبة، وما دروا أنهم بذلك ينشرونه في الدنيا، ليصل الإسلام إلى أماكن لا يمكن أن يصل إليها بهذه السرعة، وليعرف أقوام الإسلام، وقد كانوا أكثر الناس جهلاً به.
ثالثاً: بالابتلاء يعرف المسلم عدوه من صديقه، فتتميّز الصفوف، وتسقط الأقنعة، صحيح أن الأمة ستخسر أعداداً كبيرة، ولكن في هذا التمييز خير كثير للدين وأهله؛ لأن في ذلك فضح للمنافقين والذين في قلوبهم مرض، حتى نأخذ الحذر منهم، ولا نخدع بهم، يقول الحق - سبحانه -: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ} [آل عمران: 179].
فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الأذى والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق، الذين يؤثِرون دعوتهم على راحتهم، بل يضحون بالحياة كلها في سبيل نشر دين الله.
رابعاً: ومن فوائد الابتلاء، رجوع كثير من المسلمين في بلاد الكفر إلى إسلامهم الصحيح، بعد ما رأوا وعاشوا الرعب في بلاد الحرية والديمقراطية بعد الأحداث الأخيرة، فمهما تخلى المسلمون عن إسلامهم، ومهما ذابوا في حضارة الكفر، يبقى الغرب ينظر للمسلم أنه مسلم، فعندها يعرف المسلم أنه لا التقاء بين الإسلام والكفر، ليس هناك إلا البراء من الكفر والكافرين.
خامساً: ومن فوائد الابتلاءات ـ خاصة التي تكون من الكفار ـ معرفة قدر عداوة الكفار للمسلمين، وحقدهم الشديد على الإسلام، فالحرب التي يشعلونها حرب دينية عقدية وإن لُبّست بلبوس العدل أو نشر الحرية، فأين العدل من المجازر التي يرتكبها اليهود؟ أين هذا العدل الأعور من مجزرة واحدة من مجازر اليهود، وهي مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، يقول شاهد عيان: لقد صليت وحدي على 6000 جثة، وهناك ألفا جثة دفنتها الجرافات دون أن أصلي عليها، منظر لا يتصوره العقل، (أمل والمخيمات الفلسطينية ص 59) جثث بغير رؤوس، وأخرى أشلاء، وبِرك من الدماء، لم يفرقوا بين الأطفال والنساء، حتى الرضع، كما تمخضت هذه المجازر عن مئات من الثكلى وآلاف الأيتام والهائمين على وجوههم بحثاً عن أقاربهم الذين طالهم الذبح، يبحثون عنهم بين أكوام الجثث، وتحت الأنقاض، هذا غير آلاف الجرحى الذين ما زالوا يعانون من آلامٍ وتشوهاتٍ لحقت بأجسادهم حتى يومنا هذا، والكثير ممن أصيبوا بصدمات نفسية أفقدتهم القدرة على الكلام.
أليس هذا إرهاباً؟! ولكن يا للأسف، دم المسلم وكرامته أرخص ما يكون، ولكن لا يضيع شيء عند الله، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.
عباد الله، ولعل فيما ذُكر من الحِكَمِ دافعاً لنا للعمل لهذا الدين وعدم اليأس، وأختم حديثي بهذه الآية العظيمة، التي تعتبر قاعدة، وينبغي ألا تغيب عن ذهن المسلم وهو يسير في معترك الحياة، يقول الحق - جل وعلا -: {قُل لّمَن مَّا فِي السَّمَاواتِ وَالأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، فرحمة الله بعباده هي الأصل حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء، فهو يبتليهم ليُعِدَّ طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، وليَمِيْز الخبيث من الطيب في صفوف المسلمين، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليُكسب المؤمن الطمأنينة بما قدّر له ربه؛ حتى وهو يمر بفترات الابتلاء التي تزيغ فيها القلوب والأبصار، إلا أنه يعلم أن ربه معه بنصره وتأييده، فتنقلب المحنة إلى منحة، وينقلب الخوف إلى رجاء، وينقلب القلق إلى طمأنينة.
فيا أيها المسلم، ربما فيما تستعجل به من الخلاص من الآلام والأمراض تعرُّضٌ لمحنة أقسى وبلاء أشد، فلا تستبطئ وعد ربك بالرحمة، فإنه وعدك بما يراه هو رحمة لك، لا بما تراه أنت رحمة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، (هكذا علمتني الحياة للسباعي)، {قُل لّمَن مَّا فِي السَّمَاواتِ وَالأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].
نفعني الله...
الخطبة الثانية:
عباد الله، إن ما يجري اليوم من الابتلاءات والمحن، وما يتعرض له المسلمون في أكثر البلدان من تسلط الأعداء، والكيد للمسلمين، إن كل ذلك يتم بعلم الله وحكمته - سبحانه -، ونجزم أن وراءه الخير الكثير، وأن العاقبة للمتقين. وهذه الصحوة ـ التي يشهدها العالم ـ من أبناء المسلمين لهي أكبر الإرهاصات والبشائر بعودة هذا الدين، والتمكين لأهله في الأرض، وإن كل هذه الابتلاءات، وكل هذا التسلط من الأعداء لم تزد هذه الصحوة إلا نماء وثباتاً ووعياً بطبيعة هذا الدين وحقيقة المعركة، ولو أن هذه الحروب الشرسة تعرّض لها غُير المسلمين، لانتهى أمرهم منذ زمن بعيد، ولكنه دين الله الذي تكفل بحفظه وحفظ أتباعه، وتكفل بنصرتهم، يقول- تبارك وتعالى -: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
ولقد مرت بالمسلمين ـ في تاريخهم ـ فتراتٌ تسلّط فيها الأعداء من التتار والصليبيين وأهل البدع، وبلغ التفرق بين المسلمين مداه، وذاق المسلمون حياة الذل والمهانة؛ حتى خُيّل لبعض من عاش في ذلك الزمان أنه لن تقوم للإسلام والمسلمين قائمة، ومع ذلك جاء نصر الله، وقامت دولة الإسلام قوية كما كانت، وخرج الأعداء من ديار المسلمين صاغرين.
فلا يأس ولا قنوط إذاً من عودة الإسلام في هذا الزمان، ولكن ذلك يتطلّب التضحيات من المسلمين، والصبر والثبات والالتزام بهذا الدين ظاهراً وباطناً.
اللهم احفظ عبادك المسلمين في كل مكان، وبصِّرهم بدينهم، وثبتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا.
محمد بن مبارك الرشدان
- التصنيف:
- المصدر: