في ذكرى النكبة
لم تستيقِظْ فلسطينُ كعادتها على الحب وقطرات الندى، وإنما على طَلَقات عصابات "الأرجون، والهاجاناه، والشتيرن"، ظهروا على أهلها فلم يَرْقُبوا فيهم إلاًّ ولا ذمة، فالحبُّ لم يُقابِلْه الكراهية حينَها، بل قابله القتل والذبح والسلب والنهب؛ فاختَلَط عبيرُ البرتقال برائحة اللحم المحروق في الطرقات!
1
كانت قُرى فلسطين نائمةً، يُظلِّلُها الحبُّ وكروم العنب، تستيقظ على قطرات الندى وشذا البرتقال.
أيار شهر السمر والأفراح، ولكنه كان يومًا آخر، فالشيطان عدو لآدم؛ أخرجه من جنة السماء، ويتربَّصُ به ليُخرِجَه من جنة الدنيا.
لم تستيقِظْ فلسطينُ كعادتها على الحب وقطرات الندى، وإنما على طَلَقات عصابات "الأرجون، والهاجاناه، والشتيرن"، ظهروا على أهلها فلم يَرْقُبوا فيهم إلاًّ ولا ذمة، فالحبُّ لم يُقابِلْه الكراهية حينَها، بل قابله القتل والذبح والسلب والنهب؛ فاختَلَط عبيرُ البرتقال برائحة اللحم المحروق في الطرقات!
2
عجوزٌ في السبعين يحملُ طفلاً بيدٍ، وبالأخرى يَتَّكِئُ على عصاه، ويحمل في قلبه همًّا لو وُزِّع على أهل الأرض لكفاهم!
يلتفت إلى قريته التي كانت يومًا مأواه وملاذَه، وقد أصبحت يبابًا!
يلتفت يبحثُ عن الكرامة ليُودِّعَها فلم يَحْظَ حتى بالوداع!
يَمرُّ العمرُ أمامَه كشريط!
هنا كان ضَحِكُه وبكاؤُه، فرحُه وتَرَحُه!
أَزِفَتْ لحظةُ الرحيل!
يُؤرِّخُ يومَ رحيله، ويُوقفُ الوقتَ لحين العودة، وزوجُه العجوز تَحمِلُ دثارًا جعلتْه في صُرَّةٍ، وهي تُتَمْتِمُ: "ما أصعبَ الابتلاءَ في هذا العمر!"، وصبيان لم يبلغوا الحُلُمَ يَتضاغون جوعًا وعطشًا!
لا يملك العجوزان لهم إلا الدعاءَ طعامًا، ودموعَ العين رِيًّا!
3
كان قَيْظُ أيار لافحًا، وكأن الشمس دنَتْ من الأرض خاشعةً لهذا الخطب الجَلَلِ، وكانوا لا يُظلِّلُهم إلا الشوق والأمل، الأمل بأنها سحابةُ صيفٍ لا بد بعد قليل أن تَنْقَشِعَ، والشوق إلى أن تعود الحياة إلى سابق عهدها!
وهذه السَّحابةُ لا تزال تُظلِّلُنا، وتُظلِّلُ أبناءَنا، فالأملُ جذوةٌ من السماء لا تنطفئ!
قال لها وقد هجم الليل مُوحشًا، وقد غابت نجومُ السماء حدادًا: كان الحبُّ وحدَه لا يكفي لكي نَنْعَمَ بسلامٍ، فلا حب يدومُ دونَ قوةٍ تحميه.
قالت: القوة أيضًا عمياء إذا لم يكن العلمُ هاديَه!
4
الذكرى تُطارِدُنا ونُطارِدُها، أحيانًا تنسى ونذكرها، نعم نذكر الذِّكرى حتى لا تنسى أننا مقهورون، وموجوعون، ومظلومون!
ما أصعب أن يَعيشَ معك الوجعُ العمرَ كلَّه، فلا يَرْقَأُ لك جفنٌ، ولا يَهْدَأُ لك خافقٌ!
يا لَلذكرى عندما تُوقِظُ ما سكَنَ، وتَبعَثُ ما رقَدَ! تُحرك كلَّ ساكنٍ فينا، فنعودُ من لحظتنا الراهنة إلى تاريخ سحيقٍ!
كلما حاولنا النسيان - ولو إلى حين - كانت الذكرى بالمِرصاد.
تهبُّ نسائمُ الذكرى بينَ حينٍ وآخر!
والعمرُ كسفينةٍ تَقطَعُ لُجَجَ البحرِ، فتَتَوقَّفُ بين فَيْنةٍ وأخرى، تَحمِلُ معها عَبَقَ الماضي، وألمَ الحاضرِ وأملَ المستقبل.
5
كما تجِفُّ الأوراقُ النَّضِرةُ الخضراءُ في فصل الخريف، وتذوي أوراقها صفراء لا حياةَ فيها، مفسحة المجال لبراعمَ أُخَر تُجدِّدُ عهدَ ما ذَوَى من الوَرَقِ، وتَمُدُّ الغصونَ والشجرة بالحياة الوارِفَةِ، كما النبعُ يَفيضُ بالماءِ سحًّا وتَسْكَابًا لكل واردٍ مُتعطِّشٍ إلى الماء الزُّلالِ، حتى إذا كان فصل القحط جفَّ، وتمنَّعَ أن يَمُدَّ بمائه الحياةَ، ثم تَفيضُ السماءُ ببركتِها، فتمتلئ الوُدْيان والعيون والينابيع، ثم تكون الحياة!
الفرع يُبنَى على الأصل؛ فالأصلُ ثابت وبه كانت الحياة، والتجدُّدُ سمةُ الكون، ومن الموت يُخرِجُ اللهُ الحياةَ!
العجوزان - وقد أكَلَ القهرُ قلبَيْهما من فراق الوطن والأهل - تركوا صبيةً كانوا بعمر الزهور، ذُوِي أجدادهم وآباؤهم كما هي سنة الحياة.
تجرَّع الصِّبيةُ ألمَ القهر والغضب، وجُبِلوا وفي أحشائهم غضبٌ، ولكنه غضبُ الحليم الذي يَصنَعُه اللهُ على عينه.
حتى إذا ما جاءت لحظة الإرادة والقدرة انفجر هذا البركان؛ لنُعيدَ ذكرى النكبة بنكبة بني صهيون!
6
النَّكْبة هي أن تسقط، ولكن لا تستطيع النهوض!
كنا نحتاج إلى نكبة بحجم الوطن لنعلم أن حولنا عالمًا يَتسلَّحُ بالقوة والعلم؛ حتى إذا صرنا أشتاتًا لا يَضمُّنا وطنٌ علمنا أن وطنَنا علمٌ نتسلَّحُ به، وإيمان نتذرَّعُ به، فرُبَّ نكبةٍ أورثتْ رحمةً للأمة.
يبتليك الله ليصطفيك، ويصنع الله الأمة على عينه؛ فهي أمة لها شأن، اصطفاها الله، ولا بد للاصطفاء من تمحيص؛ حتى تصبح خالصةً من كل غبش، تُهيَّأُ لحمل رسالة عالمية.
7
سنعود إلى رُبَانا، ونلثم تراب الوطن!
سنعود إلى ذكرياتنا، وننسى الآلام والمحن!
سنعود نحمِلُ الفرحَ بعدما كنا نحمل الشَّجَنَ!
8
النكبة أن تنكب في دينك!
النكبة أن تتنكَّبَ شرعَ الله!
والنكبة التي تقرِّبُك من دين الله رحمة، وإذا زادتك من الله بُعدًا فالنكبة عندئذٍ نكبتان!
طارق البرغوثي
- التصنيف:
- المصدر: