أهي ماشية والسلام!
ينغمس في المعاصي والغفلات فيألفها ويتعايش معها، وينسى تدريجيًا جمال التوبة وإحساس نقائها، يدمن الباطل ويتقلب في زبده فتزول من فؤاده تدريجيًا ذكريات الحق وصدى الخير، يرضى بالذل ويتعايش مع الظلم ويصاحب البؤس ويأنس بالهوان والامتهان حتى يفاجأ يومًا بنفسه وقد تلاشت من ثنايا روحه معاني العزة والكرامة والإباء..
ظللت لمدة طويلة من حياتي أسيرًا لهذا المنطق: أهي ماشية والسلام..
ما دام شغالة وما بتشتكيش يبقى أكيد كل حاجة تمام، كان هذا المبدأ ينطبق على كل ما يحتاج إلى صيانة وفحص دوري في حياتي حتى صحتي نفسها، ظللت لفترة طويلة لا أفكر في صيانة أي جهاز في عيادتي حتى يعطب تمامًا وأفاجأ أنه لم يعد صالحًا للاستعمال أو أنه قد توقف بالكلية!
في يوم ما قرر صديق لي أن يفتتح شركة صيانة للأدوات والأجهزة الطبية، وكان من الذوق أن أستفتحه وأكون من أوائل من يشجعونه ويُنَفِّعونه، لذا قررت أن أقوم بعمل صيانة لأجهزة عيادتي ومن ضمنها أجهزة حفر الأسنان (الكونترا)، أو ما يعرف بين مرضى الأسنان بـ(الشنيور) أو (المكنة اللي بتزِن).
الحقيقة (الشنيور) كان شغال كويس -أو هكذا كنت أتصور- لكن قلت في نفسي بالمرة ما دمنا قررنا عمل صيانة فلنراجعها ما يضرش، ولنرى إن كانت تحتاج إلى صيانة أو إصلاح، وبالفعل كانت المفاجأة كانت أجهزة حفر الأسنان فعلاً تحتاج إلى صيانة؛ بل كانت في الحقيقة تحتاج إلى تجديد شامل، كيف لم ألحظ؟!
الإجابة: أهي ماشية والسلام! ما دامت الأداة شغالة والأمور ماشية يبقى خلاص كله تمام، وأكيد مافيش مشكلة!
كان هذا شعاري للأسف في التعامل مع الأجهزة المسكينة، التي أعتقد أنها لو كانت تمتلك لسانًا لصرخت به شاكية: "ارحمني حرام عليك أنا جبت أخري".
المهم الفني ظبط بعض الكونترات -الشنيور يعني- وبدأت أشتغل بها، وكانت المفاجأة..
وكأني انتقلت إلى بعد آخر وعالم مختلف، سلاسة عجيبة لم أعتدها في حفر الأسنان، وإنجاز وسرعة وراحة في الأداء كنت قد نسيتهما، بالفعل كنت قد نسيتهما، كنت قد تعودت على الخلل حتى لم ألحظه، وتكيفت معه، والمهم النتائج وخلاص، نسيت أن هناك ما هو أفضل على الأقل بالنسبة لي ولتسهيل عملي..
صحيح كلفني الأمر أموالاً لم تكن في الحسبان، لكن النتيجة كانت تستحق، بعد أن نفضت عني الدهشة والانبهار بذلك الأداء الصاروخي للجهاز الذي صار كالجديد، سألت نفسي: ماذا لو لم يرد إلى ذهنك عمل تلك الصيانة؟
عادي كنت سأظل أستعمل الجهاز بأقل من كفاءته المفترضة، دون أن أظن أو أشعر أن هناك ما هو أفضل إلى أن تقرر الأجهزة أن تتوقف أو تتلف.
كان إلف العادة سيجعلني أنفق مزيدًا من الجهد والوقت دون أن أدرك أنني أستطيع توفيره ببعض التكاليف، وتلك هي مصيبة إلف العادة، دومًا يتعود الإنسان الخلل أو الخطأ حتى ينسى تدريجيًا الشعور بالصواب، ويتصور أن هذا هو المنتهى وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
يغفل عن طعم الصحيح من الأشياء ويجافي لذة الفاضل لمجرد انغماسه في المفضول، وعدم افتراضه قط أنه ربما يكون هناك ما هو أفضل لكنه فقط لم يجربه، بل وربما يصعب عليه بعد فترة التكيف مع الصواب والتعامل مع السليم من الأشياء..
ينغمس في المعاصي والغفلات فيألفها ويتعايش معها، وينسى تدريجيًا جمال التوبة وإحساس نقائها، يدمن الباطل ويتقلب في زبده فتزول من فؤاده تدريجيًا ذكريات الحق وصدى الخير، يرضى بالذل ويتعايش مع الظلم ويصاحب البؤس ويأنس بالهوان والامتهان حتى يفاجأ يومًا بنفسه وقد تلاشت من ثنايا روحه معاني العزة والكرامة والإباء، واختفت من ذاكرته لذة العدل وحلاوة القسطاس المستقيم، وهكذا..
ليس الصبر على المقسوم ما أنتقد، ولا عن الرضا بالمكتوب أتحدث، فذلك باب آخر له تفصيله لكن عن الانتباه لحقائق الأشياء ودرجاتها، والأهم عدم نسيان إمكانية الوصول والتغيير، التغيير للأفضل الذي يعتبر الانتباه لنقصه وللخلل الذي يعتريه هو أول خطوات ذلك التغيير إليه، إلى الأفضل والأصلح والأقوم، وكم من أعطال وأعطاب في حياتنا سترتها العادة وأخفاها الإلف والتعايش وطمسها ذاك الشعار العتيد، شعار: "أهي ماشية والسلام".
- التصنيف: