قرة عيون الموحدين

منذ 2015-08-05

شرح قرة عيون الموحدين (02) باب فضل التوحيد وما يكفر الذنوب

بسم الله الرحمن الرحيم [1]

الحمد لله [2]، وصلى الله على محمد [3]، وعلى آله [4]، وسلم [5].
كتاب [6] التوحيد [7]:

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] [8].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل من الآية:36] [9].

(2) باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب:

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82] [10].

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شَهِدَ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، والجنةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من العملِ» (صحيح البخاري؛ برقم: [3435]) [11].

[1]-  بسم الله:

البدء بها سنة، فالقرآن بدأ بها، وهي أول آية فيه في سورة الفاتحة وهي جزء من آية في سورة النمل، وبها كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ رسائله للملوك وغيرهم. وقد ورد فيها حديث ضعيف جدًا كما في (الإرواء؛ برقم: [1]) «كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأُ فيه ببسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ فهو أقْطَعُ».

والباء فيها قيل: للمصاحبة، وقيل للاستعانة، وتقديرها: بسم الله ابتدئ القراءة، للتبرك باسم الله والاستعانة به.

- الله : اعرف المعارف، الغني عن التعريف، وهو الاسم الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى لله سبحانه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الله هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق.

الرحمن: من أسماء الله تعالى المختصة به، لا يطلق على غيره.

الرحيم: المراد به ذو الرحمة الواصلة.

الفرق بين (الرحمن والرحيم):
1- الرحمن: بجميع الخلق، والرحيم: بالمؤمنين. (وهو الأرجح).
2- الرحمن: رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم: رحيم الآخرة.

[2]- الحمد لله: الثناء بالكلام على الجميل على وجه التعظيم، وهو ذكر لله بأوصاف الكمال، ويكون باللسان والجنان والأركان.

[3]- وصلى الله على محمد: قيل الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء.
والراجح؛ أن الصلاة من الله على نبيه بالثناء عليه، كما ذكر البخاري عن أبي العالية قال: "صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة".

[4]- وعلى آله: قيل: قرابته، وقيل: المراد به جميع أتباعه على دينه، وهو الراجح، ويدخل بالأولوية من على دينه من قرابته.

[5]- وسلم: من السلامة من النقائص والآفات.

فبالسلام تزول النقائص، وبالصلاة تأتي الكمالات.

[6]- كتاب: بمعنى مكتوب، يعني هذا مكتوب في العقيدة والتوحيد.

[7]- التوحيد (لغةً): الإفراد.

شرعًا: إفراد الله بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. 

* أقسام التوحيد: 
1- توحيد الربوبية:

وهو توحيد الله بأفعاله، وهو إفراد الله بالخلق والملك والتدبير.
قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54].

وقال تعالى: {وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران من الآية:189].

وقد اقرَّ به أكثر الخلق، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}  [الزخرف:9].

وخالف فيه بعض من يدَّعون الإسلام من غلاة الصوفية الذين يقولون بأن للكون أوتادًا وأقطابًا يتحكمون فيه ويدبرون أمره، فهم بهذا أكثر شركًا من مشركي قريش السابقين.

2- توحيد الألوهية:

وهو إفراد الله بأفعال العباد (يجمع العبادات الظاهرة والباطنة) وفيه وقعت الخصومة بين الأنبياء وأتباعهم وبين مخالفيهم. {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان من الآية: 30]، كالذبح والنذر والحلف وغيرها من العبادات. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163].

3- توحيد الأسماء والصفات:

وهو إفراد الله بما له من الأسماء والصفات. وهو الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله من الأسماء الحسنى والصفات العلى وامرارها كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

وهذا يتضمن أمرين:

- الإثبات: نثبت لله جميع أسمائه وصفاته الثابتة في الكتاب والسنة. 
- النفي: ننفي المماثلة لله تعالى بأن لا نجعل لله مثيلًا في أسمائه وصفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى من الآية:11].

[8]-  {وَمَا}: نافية.

{خَلَقْتُ}: أوجدت. 

{الْجِنَّ}: عالم غيبي. 

{وَالْإِنسَ}: لأنهم لا يعيشون بدون إيناس. 

{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}: ليوحدون، ويفردون بالعبادة، ويتذلَّلون لي بالطاعة فعلًا للمأمور وتركًا للمحظور، فهو فعل الأول وهو خلقهم، ليفعلوا هم الثاني وهو عبادته التي تجمع بين كمال الحب وكمال الذل والخضوع.

والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال (كالتكبير والتلبية)، والأفعال (كالصلاة والجهاد)، والأعمال الظاهرة (كالصلاة والعمرة)، والباطنة (كالحب والخشية).

المناسبة: أن الحكمة من خلق الجن والإنس هي إفراد الله بالعبادة والكفر بما سواه.

الشاهد: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

[9]- {بَعَثْنَا}: أخرجنا وأرسلنا في كل أمة.

• الأُمَّة في القرآن تطلق على أربعة معانٍ:

1- الطائفة، كما في الآية. 
2- الإمام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلهِ} [النحل من الآية:120].
3- المِلَّة: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ} [الزخرف من الآية:22].
4- الزمن: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف من الآية:45].

• أرسل الله الرسل لأمرين: 

1- رحمة بالخلق:  {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. 
2- إقامة الحجة والبرهان عليهم: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء من الآية:165].

{اعْبُدُوا اللهَ}: وحدوه وتذللوا له بالطاعة.

{وَاجْتَنِبُوا}: البعد والمجانبة.

{الطَّاغُوتَ}: من الطغيان ومجاوزة الحد، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11].

قال ابن القيم: "الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود (كالأصنام)، أو متبوع (كالكهان والسحرة)، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله (كعلماء السوء والأمراء الخارجين عن طاعة الله في تحليل حرام أو تحريم حلال)".

والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة: إبليس، ومن غيَّر أحكام الله، ومن دعا إلى عبادة نفسه، ومن عُبد من دون الله وهو راضي بالعبادة.

المناسبة: أن الأصنام من الطواغيت التي تُعبد من دون الله، ولا تصلح العبادة إلا إذا كفر بما سواه.

الشاهد: {اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل من الآية:36].

[10]- {يَلْبِسُوا}: يخلطوا.

{بِظُلْمٍ}: بمعنى الشرك. لأن الظلم ثلاثة أنواع: 

1- الظلم الأكبر؛ وهو الشرك. قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان من الآية:13].
2 -ظلم الإنسان لنفسه، بإيقاعها في الذنوب، وتكليفها ما لا تطيق من الصيام والقيام الزائد عن القدر المشروع، وحرمانها من لذة الطاعة، وتعريضها للهلكة والتلف، وغير ذلك.
3- ظلم الإنسان لغيره بالتعدي عليه وحرمانه من حقوقه وظلمه.

{الْأَمْنُ}: بضمان دخول الجنة، وعدم دخول النار للمؤمن الذي لم يخلط إيمانه بما دون الشرك من المعاصي، أو بعدم الخلود في النار إذا دخلها للمؤمن الذي خلط إيمانه بمعاصي وهو في مشيئة الله تعالى.
وكل واحد ينال من الأمن على قدر إيمانه وطاعته.

{وَهُم مُّهْتَدُونَ}: أي إلى صراط الله المستقيم.

والهداية تنقسم إلى قسمين:

1- هداية دلالة وإرشاد.
2- وهداية التوفيق للإيمان والثبات عليه.

والمقصود أنهم مهتدون في الدنيا إلى صراط الله تعالى وطاعته والإيمان به ومهتدون في الآخرة إلى جنته ورحمته ومغفرته.

[11]- «من شَهِدَ»: شهد أنه لا معبود بحقٍّ إلا الله وعرف معناها وعمل بمقتضاها.

والشهادة هي الاعتراف باللسان والاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان.

«لا إله إلا اللهُ»: لا معبود بحقٍّ سوى الله. وهي تتضمن نفي وإثبات، فـ(لا إله): نفي، (إلا الله): إثبات.

«وحده لا شريك له»: وحده: تأكيد للإثبات، ولا شريك له: تأكيد للنفي. 

«وأن محمدًا عبدُه ورسولُه»: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي. 

عبده: ليس شريكًا مع الله. 

ورسوله: ليس بكاذب على الله. 

وصفة العبودية للرسول، صفة تشريف وكمال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء من الآية:1]، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} [الجن من الآية:19]، «أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا» (صحيح البخاري؛ برقم: [4836]).

ورسوله: أي أرسل منه.

والشهادة برسالته؛ تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

«وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه»:

عبد الله: ردٌ على النصارى الذين غلوا فيه، وغلوهم فيه على ثلاث طوائف: منهم من قال: أنه هو الله، ومنهم من قال: أنه ابن الله، ومنهم من قال: أنه ثالث ثلاثة، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا} [النساء:171].

ورسوله: ردٌّ على اليهود الذين جفوا فيه وقالوا: أنه ولد بغي وزنا.

«وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ»: أي أنه خلقه بكلمة كُن، فكان. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران:59].

وهذا فيه إثبات صفة الكلام لله تعالى، فهو يتكلم بما شاء كيفما يشاء متى شاء. 

كلمته: ليس هو كلمة الله فهو مخلوق، إذ إن كلام الله وصف قائم به لا بائن عنه. 
فهو خلق بكن وليس هو كن. 

«وروحٌ منه»: أي من الأرواح التي خلقها الله تعالى، وأضافه إلى نفسه تشريفًا له. {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة من الآية:75].

«والجنةُ حقٌّ»: هي دار النعيم أعدها الله للمؤمنين في يوم القيامة.

«والنارُ حقٌّ»: دار العذاب، أعدها الله للكافرين في يوم القيامة.

«أدخله اللهُ الجنةَ»: من آمن بها وعرف معناها وعمل بمقتضاها أدخله الله الجنة ابتداءً أو انتهاء، فهو لا يخلد في النار لو دخلها.

«على ما كان من العملِ»: أي من العمل الصالح ولو كان قليلًا أو من العمل السيء ولو كان كثيرًا دون الشرك وما ينافي التوحيد.

عبد اللطيف بن هاجس الغامدي

مدير فرع لجنة العفو واصلاح ذات البين - بجدة .

  • 1
  • 0
  • 5,374

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً