(44) قواعد في طلب العلم (2)
مدحت القصراوي
العلم النافع هو ما دفع إلى العمل، وهو ما رسّخ من المعاني في القلب لتعمل الجوارح على وفقها.
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - تربية النفس - طلب العلم -
فمن طلب العلم فليطلبه من حيث أمره الله وبالقصد الذي أمر تعالى أن يُطلب به العلم، فمن طلبه كما أمر تعالى كان له أثره وبركته وإثماره في القلب وبركة في العلم وشرفًا في الدارين فالعلم يرفع أصحابه إن طلبوا به الآخرة.. أما لو طلبوا به الدنيا ذلوا ولم ينالوا، وكان حجة عليهم.. عافانا الله وإياك وجعلنا ممن يثمر علمهم العمل والقرب من ربهم تعالى.
يحكي العلماء عن داوود الطائي العابد الذي كان يقول فيه الإمام أحمد: "وهل العلم إلا ما عند داوود؟"، يقصد الخشية والعبادة، كان مبدأ أمره أنه كان في مجلس أبي حنيفة رحمه الله، وفي آخر المجلس بعد مسائل الفقه والعلم نظر إليه أبو حنيفة وقال: "يا داوود هذا العلم، وقد بقي العمل"، فوقعت الكلمة في قلب داوود رحمه الله وتغير أمره حتى صار عَلَمًا في عبادته وخوفه وزهده رحمه الله.
هكذا يصنع العلم إذن؛ فالعلم النافع هو ما دفع إلى العمل، وهو ما رسّخ من المعاني في القلب لتعمل الجوارح على وفقها.
يُخشى على من طلب العلم أن يستهويه غير ما شُرع له، فقد ينحرف القلب إلى العُجب بالعلم نفسِه وبهجة التحدث به وما له من سطوة وما يؤدي إليه من ظهور وشهرة قد تستهوي صاحبه.. بينما قد وُضع العلم ليُعبد الله تعالى به لا لأمر آخر.
فقد وضع ليحقق للعبد الحال التي أشار إليها الإمام الشاطبي، وهي أن يُخرج العبد من داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا.
ولذا فالعاقل مع تعبده لربه تعالى في عمله بالعلم ينظر في بلاغه كعبودية أخرى يقوم بها، ويلحظ مداخل الشيطان من نفسه فإن ثقل عليه الكلام كان دلالة على ضعف طلب نفسه للشهرة، ويكون هذا الحال مظنة لبلاغ الحق من أجل الله تعالى..
وكذلك حال من تعينت عليه الإجابة بحيث لا يوجد غيره يرد باطلًا أو يظهر حقًا فعندئذ لا بد من البيان، فحينئذ تتعين الإجابة {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران من الآية:187]، بل ويُشرع الجدال بالحق كما فعل أنبياء الله من قبل في تصديهم لبيان الحق ومحاربة الباطل {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [نوح من الآية:32].
ولذا كان حال الصحابة والتابعين التأخر في الكلام مع وجود من يكفيه من إخوانه، حتى إن أحدهم ليُسأل في المجلس الواحد فيرد المسألة إلى أخيه إلى أن تعود إليه..
وللعامل بعلمه سلطان على القلوب إن تكلم؛ فمن أخذ كلامُه من قلبه واقتات منه وصل إلى قلوب الخلق وكتب الله له الحياة في قلوب غيره؛ إذ كان هذا الكلام قد حيًا في قلب صاحبه واكتسب دفقة حياة منه فخرج حيًا إلى الخلق وأحيا الله تعالى به الخلق.
يتبع إن شاء الله تعالى..