(2) رحلة إلى كتاب
عبد الرحمن بن معاضة الشهري
وكان فرحي بالحصول على الكتاب، والانتصار لنفسي على ذلك الموقف الذي وقع لي مع صاحبي في الكلية قد أنساني همَّ ذهاب السيارة مع أنه لم يكن معي غيرها.
- التصنيفات: طلب العلم - قصص مؤثرة - طرائف ونوادر -
كنتُ معيدًا في كلية الشريعة وأصول الدين بأبها في قسم القرآن وعلومه منذ عام 1414هـ تقريبًا، وذات يومٍ من أيام عام 1415هـ احتجتُ إلى معلومةٍ مهمةٍ في كتابٍ أعرف أن لدى أحد الزملاء نسخة منه، ولم يكن متوفرًا في المكتبات العامة ولم أجده في السعودية من قبل، فلقيته في الكلية صباح ذلك اليوم فسلمتُ عليه، وأخبرته بحاجتي، فتردد في إعارتي الكتاب لسببٍ يراه هو وجيهًا -وهو من أعز أحبابي ولم أخبره بذلك حتى اليوم- فوقع ذلك في نفسي، وتألمتُ ولم أظهر له ذلك.
وانصرفتُ من الكليَّة عند الساعة العاشرة متوجهًا إلى المنزل، وكنتُ حينها لم أتزوج بعدُ -سقى الله تلك الأيام- فلما كنتُ في بعض الطريق، قلتُ في نفسي: لأشترين هذا الكتاب بأيِّ ثَمنٍ. وترددتُ: هل أسافر بسيارتي القديمة المتهالكة هذه -وكانت سيارةً من نوعِ كورولا- أم أسافر بالجو والحجز يحتاج إلى ذهاب للمطار، فقررت فور وصولي للمنزل أن أسافر لشراء الكتاب، فأخذت جواز السفر فقط ولم آخذ معي أي شيء آخر.
وركبت سيارتي متوجهًا إلى حيث لا أدري. فلما خرجت من المنزل ترددتُ بين أن أسافر لليمن وهو ليس بعيدًا غير أنني لم أكن على ثقة أن أجد الكتاب هناك، أم أسافر للأردن أو سوريا وأنا على ثقة أنني سأجد الكتاب. ثم استقر رأيي أن أذهب لمحطة الباصات، وأنظر في الأمر. فلما أوقفت سيارتي في المواقف وسألتُ وجدت باصًا متجهًا إلى جدة، ومن هناك أتدبر أمر سفري إما للأردن أو سوريا. وفعلًا ركبت الباص قبل الظهر ولم أُصلِّ صلاة الظهر إلا جمعًا مع العصر قرب مدينة جدة، ومن هناك ركبت باصًا آخر متجهًا إلى عمَّان الأردن بعد انتظار طويل في المحطة أرهقنا.
فلما وصلتُ الأردن في اليوم التالي قبيل العشاء تقريبًا ولم أكن زرتها قبل ذلك، سألتُ عن المكتبات فدُللتُ إلى منطقةٍ اسمها (العبدلي) في عمَّان فيها عدد من المكتبات الجيدة، وفعلًا دخلتُ أول مكتبة منها فسألتُ عن الكتاب فلم يكن عنده لكنه قال: سأحضره لك من عند جاري فاجلس. وفعلًا ذهب بكل أدب فأحضره لي، فاشتريت الكتاب واشتريت معه بعض الكتب الأخرى، وأخذت سيارة أجرة إلى مطار علياء الدولي بعمَّان، فلما دخلت المطار سألتُ عن الرحلات المتجهة للسعودية، فوجدتُ رحلةً مباشرةً لم يبق على إقلاعها إلا أقل من ساعة متجهة إلى جدة، فحجزت وركبت فيها ورجعت لجدة، ولمَّا وصلت جدة ركبت طائرة أخرى لأبها بعد عدة ساعات، ووصلتُ أَبْها فأخذت سيارة من المطار إلى موقف الباصات حيث تركت سيارتي هناك.
فلما وصلت لم أجدها! فأسقط في يدي، لكنَّني لم أفعل شيئًا ورجعت للبيت، ولم يكن قد ظهر الهاتف المحمول لأتصل بأحد، ولم يكن عندي في المنزل هاتف ثابت لصعوبة الحصول على الهاتف الثابت حينها. وكنتُ متعبًا جدًا فأردت أن أستريح وبعدها أبحث عن السيارة. وكان فرحي بالحصول على الكتاب، والانتصار لنفسي على ذلك الموقف الذي وقع لي مع صاحبي في الكلية قد أنساني همَّ ذهاب السيارة مع أنه لم يكن معي غيرها.
فلما نِمتُ حينها، وبقيتُ يومين تقريبًا منعزلًا مع كتبي في البيت، إذا بصاحبٍ لي من أعز أصدقائي يطرق الباب، وإذا بسيارتي معه! فاستغربت وبادرته بالسؤال فقال: أليس عندي نسخة من مفتاح سيارتك؟ قلتُ: بلى. قال: لما رأيتُ سيارتك في موقف الباصات -وكان الموقف على طريق الطائف وهو طريق يسافر منه أيضًا من يسافر إلى النماص وهي مدينتي- تيقنتُ أنَّك سافرتَ إلى النماص وتركتَ سيارتك هنا، وكنتُ مضطرًا للسفر، فأخذتُ سيارتكَ ثقةً بأَنَّك ستفهم أنني أنا الذي أخذها! -وكان كثيرًا ما يستخدم سيارتي ولكن بعلمي- فضحكتُ وأخبرته بخبري، فاستغرب كثيرًا، وتأسف لأخذه السيارة بدون علمي.
ولا أزال حتى اليوم أتذكر ذلك الموقف فأضحك، وأسترجع ذلك الموقف وما لقيته في سفري بالباص من المشقة، ولم أهنأ بطعام ولا منام في ذلك السفر، والسفر بالباص متعبٌ، ورائحة الدخان جعلت رأسي يكاد ينفجر، ولا طاقة لي بِمَنع أكثر الركاب الذين يدخنون، وكُلُّ همِّي كان الحصول على الكتاب، ويبقى للكتاب الذي عانيت في الحصول عليه قيمته ومكانته الخاصة.
والطريف أنَّ صاحبي في الكلية بعد شهور أحضر لي الجزء الذي طلبته من الكتاب مصورًا في ورقات، وقال: خذ هذا طلبك الذي طلبتني قبل مدة. فشكرته وأخذت الأوراق، وقلتُ في نفسي: آه لو كنتَ تعلمُ أنَّني لم يقر لي قرار بعدك حتى اشتريتُ الكتابَ يا صاحبَ الفضيلة!