غزة والعرب... أزمة منهج أم أزمة مخرج
منذ 2009-01-06
من يرقب تعاطي أمتنا العربية اليوم مع قضية فلسطين يدرك الخلل الواضح في فهم طبيعة المعركة في بلاد الأقصى، هذا على مستوى التصور، أما على مستوى الحراك الفعلي فهناك شلل على كافة الأصعدة....
أي شيء نفيس تريد الحفاظ عليه فإنه
يلزمك أمران:
حفظه من جانب الوجود، وحفظه من جانب العدم. فجانب الوجود بأن تباشر الأسباب التي تمده بالبقاء والاستمرار صحيحا سليما، وجانب العدم أن تكف عن الأسباب التي تفسده وتشوهه. وقضية فلسطين قضية إسلامية، ترتبط بعقيدة المسلمين. فواجبنا نحوها من جانبين، لا ينفك جانب عن آخر.
من يرقب تعاطي أمتنا العربية اليوم مع قضية فلسطين يدرك الخلل الواضح في فهم طبيعة المعركة في بلاد الأقصى، هذا على مستوى التصور، أما على مستوى الحراك الفعلي فهناك شلل على كافة الأصعدة.
وهذا مرده للقصور في تمثل المنهج القسط في إدارة المعركة مع العدو الخارجي من اليهود ومن يقف وراءهم، والعدو الداخلي من المنافقين والسماعين لهم.
والمنهج الإسلامي القائم على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة له مقاصده ووسائله في تناول الكفاح مع هاتين الطائفتين: أعني اليهود والمنافقين. لما بينهما من وشائج الصلة في حرب الإسلام والنيل من اتباعه.
ولعل هذا المقال المقتضب فيه إشارات لأصول هذا المنهج تحتاج لمزيد تحرير وتقرير، إذ من البخس لقضية فلسطين، ومن الحيف لحق إخواننا في غزة أن يتمحور مشروع المواساة حول المطالبة بفك معبر، والمناشدة بوجود مخرج، فمثل هذا التعاطي الخداج يختزل الصراع في إطار ضيق.
وإليك أخي الحبيب حديث القرآن الكريم عن مقاصد المواجهة ووسائلها مع اليهود والمنافقين، ولك أن تسقط هذا المنهج على واقع العرب وتعاطيهم مع أزمة غزة الأبية.
فالقضية الأساسية هي التركيز على إسلام فلسطين، وأنها بلاد ورثها المسلمون فلا يجوز التفريط بشبر منها. كما أفتى علماء الإسلام بذلك منذ طفت دولة يهود على الجسد الإسلامي.
فالواجب على الدول الإسلامية و المنظمات والهيئات والأفراد، وأصحاب الأموال والأقلام، تأييدهم ودعمهم؛ ليتخلصوا من عدوهم وليرجعوا إلى بلادهم؛ عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة: 123].
وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: 41].
وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف: 10]، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الصف: 11]، {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: 72]، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف: 13].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» [صححه الألباني].
ولأنهم مظلومون، فالواجب على إخوانهم المسلمين نصرهم على من ظلمهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» [متفق على صحته].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، قالوا: "يا رسول الله، نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟"، قال: «تحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه» .
فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقر بوجود هذا الكيان البغيض، فوجوده باطل والقواعد المقررة في الفقه الإسلامي تقرر أن ما بني على باطل فهو باطل، وليس لظالم عرق، والأصل بقاء ما كان على ما كان، والقديم يبقى على قدمه، والحق لا يسقط بالتقادم. فإذا كنا لا نقر مسلم على ظلم فكيف نقر يهوديا على ظلمه، ونحاول أن نروض أجيالنا على القبول بهذا العدو بيننا؟!، وما حوارات الأديان الأخيرة إلا توطئة للتطبيع والتركيع لهذا الورم السرطاني في جسد أمتنا العربية والإسلامية!!.
فموقف ولاة أمر المسلمين علماء وأمراء ينبغي أن يكون حاسما في هذه القضية، وإليك هذين الموقفين الرائعين:
الأول: حين حاول هرتزل عن طريق وسيط (رشوة) السلطان العثماني عبد الحميد، لكن السلطان حسم الموقف بشكل نهائي وقطعي مما دلل على محافظته على فلسطين، قال رحمه الله: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى أرض فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
والآخر: موقف الشيخ أحمد ياسين رحمه الله حين سئل عن عملية السلام قال: "إننا لسنا ضد السلام؛ لأن السلام هو الله؛ لكنه السلام الذي يأتي لي بأرضي ووطني وحقي، أما السلام الذي يفقدني أرضي وبيتي وحقي ومقدساتي فهذا ليس سلاماً وإنما هو استسلام.
وأقول: رحم الله الخليفة الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال للمرتدين: "إما حرباً مجلية أو سلماً مخزية"، فقالوا له: "الحرب المجلية عرفناها؛ فما هي السلم المخزية؟" قال: "أن تلقوا السلاح، وأن تأخذوا بأذناب البقر في الرعي، وممنوع أن تحملوا السلاح".
والسلم المخزية تحتاج إلى حرب مجلية، إن شاء الله، ولذلك نقول: إن هذا السلام هو استسلام مرفوض تماماً، مرفوض تجزئة القضية الفلسطينية، مرفوض التنازل عن أي ذرة من أرض فلسطين وتراب فلسطين، مرفوض التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين؛ لأن هذه الأرض هي وقف إسلامي، ولا يملك رئيس ولا جيل ولا شعب التنازل عنها؛ لأنها ملك لأجيال المسلمين، ونحن لا نريد خداع الشعب الفلسطيني ولا تجزئة القضية. أرض الـ 1948م راحت، وبعدها تدخل إلى أرض 1967م ويضيع 9% أو 10% منها وتدخل ونخليها كلها مستوطنات وندخل نقسم القدس ونجزئها، وندخل إلى الحدود التي لا سيطرة لنا عليها، ويسيطر العدو على الأرض والهواء، كل ذلك خداع للشعب الفلسطيني واختزال للقضية الفلسطينية شيئاً فشيئاً من بلد كبير واسع إلى نقطة أو نقطتين أو ثلاثة؛ ولذلك فإن هذه التسوية مرفوضة ولا نعتبرها سلاماً، بل هي استسلام".
لقد كان للشعارات القومية والعلمانية وغيرها من الشعارات الأرضية التي نأت بقضية فلسطين عن بعدها العقدي، وتبين للأمة الخسار الذي انتهت إليه هذه الدعوات، واليوم تعود شعارات أخرى من نوع آخر تتمسح بقضية فلسطين لتسويق أفكارها، فهل ستخدع أمتنا الإسلامية مرتين؟؟!
النفاق الإعلامي أصبح يخدع فئام من الناس بأسطورة حزب الله الرافضي ومشروعه الصفوي في بلاد المسلمين متذرعا بقضية الإسلام الأولى. هذا النفاق لا ينطلي إلا على ضعاف الإيمان، من دعاة التلفيق العقدي.
لقد جاء في سياق حديث القرآن عن المنافقين؛ قوله تعالى:
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [سورة التوبة: 47].
و قال الله عنهم: {ومنهم من يقول ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [سورة التوبة: 49]، وقال تعالى عن الآخر: {وقالوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [سورة التوبة: 81].
في آية التوبة السابقة: أربعة معاني تصور خطر أعداء المنهج الحق، ثلاثة في خصوم هذا المنهج، والرابعة في أتباع المنهج.
الأولى: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}: والخبال: الفساد، وتفكّك الشيء الملتحم الملتئم، فأطلق هنا على اضطراب الجيش واختلال نظامه.
الثانية: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}: الايضاع سير الابل يقال: أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفاً بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الأيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين.
الثالثة: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}: بغيته كذا: طلبته له، وأبغيته كذا: أعنته على طلبه. والمعنى: يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد؛ وقيل الفتنة هنا الشرك.
الرابعة: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}: أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: "{وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْۗ} أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص لخروجهم معهم بل هذا عام في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
وهذا الخبر لا يتخلف {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [سورة النساء: 122]، وهو أن فينا قوما سماعين للمنافقين يقبلون منهم، {وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْۗ} والقرينة المقالية من التعدية باللام تفيد أن هذا السماع متضمن معنى القبول والطاعة.
وإذا كان هذا يقع في زمن الصحابة, فإن من المقرر أصوليا بدلالة الأولى أن وقوعه فيمن بعدهم أولى وأحرى.
ولشدة اللبس الجاثم على أفكار هؤلاء السماعين، يقول ابن تيمية: "ولا ريب أن كثيرا من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان، لكن يلتبس عليه أمر المنافقين حتى يصير لهم من السماعين".
ويقول مقررا ذلك من سنة النبي-صلى الله عليه وسلم-: "ومن المعلوم أن كلام أهل الإفك في عائشة كان مبدؤه من المنافقين وتلطخ به طائفة من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين لكن كان فيهم من نقص الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان".
وعن خطورة غض الطرف عن حبائل النفاق، وأثر ذلك على سلامة المنهج، وإدارة المواجهة: يكفي أن نستننطق التاريخ، لنجد أن أهل النفاق أدخلوا في الإسلام ما أدخلوه.
ومن أوضح الأمثلة (ابن سبأ) الذي ابتدع دين الرافضة وكان زنديقا يهوديا أظهر الإسلام وأبطن الكفر ليحتال في إفساد دين المسلمين - كما احتال (بولص) في إفساد دين النصارى -.
والآن نجد التاريخ يعيد نفسه، فهذه دولة الصفويين الجدد تجعل من (حسن نصر الله)، ابن سبأ جديد يسوق للمد الرافضي في العالم العربي والإسلامي، من خلال نفاقه الإعلامي ومزايداته بقضية القدس وفلسطين، وانخدع أناس كثيرون بهذا الرجل.
ويعلق ابن تيمية على ظهور ابن سبأ قائلا: "وقد سعى هذا المنافق في الفتنة بين المسلمين حتى قتل عثمان-رضي الله عنه-. ثم إنه لما تفرقت الأمة ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر-رضي الله عنهما- . وصادف ذلك قلوبا فيها جهل وظلم وإن لم تكن كافرة؛ فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم. وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه وغيروا ملته. وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد فصاروا جامعين بين الشرك والكذب، كما قرن الله بينهما في غير موضع كقوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [سورة الحج: 30]، {حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [سورة الحج: 31].
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائما فقال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرار، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}" [ضعفه الألباني].
وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون.
وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة التوبة: 73]، [سورة التحريم: 9]، في آيتين من القرآن.
فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس: فسد أمر الكتاب وبدل الدين؛ كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين: قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا؛ وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 47]، فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء؛ بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم؛ بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق؛ لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين؛ ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها.
ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة؛ وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده. فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب؛ وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله. ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه؛ بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه: من ثناء ودعاء وغير ذلك؛ وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة: عبد الله بن سبأ وأمثاله: مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب؛ فهذا يذكر بالنفاق. وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا، ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله. فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما.
يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما قصدوا الخروج للجهاد بالكلية، وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة، فإن العذر هو المانع الذي يمنع إذا بذل العبد وسعه، وسعى في أسباب الخروج، ثم منعه مانع شرعي، فهذا الذي يعذر.
{و} أما هؤلاء المنافقون فـ {لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [سورة التوبة: 46] أي: لاستعدوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب، ولكن لما لم يعدوا له عدة، علم أنهم ما أرادوا الخروج.
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [سورة التوبة: 46]، معكم في الخروج للغزو {فَثَبَّطَهُمْ} قدرا وقضاء، وإن كان قد أمرهم وحثهم على الخروج، وجعلهم مقتدرين عليه، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم، بل خذلهم وثبطهم، {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} من النساء والمعذورين.
ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [سورة التوبة: 47] أي: نقصا.
{وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ} أي: ولسعوا في الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم.
{وَفِيكُمْ} أناس ضعفاء العقول {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم، فإذا كانوا هم حريصين على خذلانكم، وإلقاء الشر بينكم، وتثبيطكم عن أعدائكم، وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين، والنقص الكثير منهم، فللّه أتم الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم، ولطفا من أن يداخلهم ما لا ينفعهم، بل يضرهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فيعلم عباده كيف يحذرونهم، ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.
فكم انخدعت الشعوب المسلمة بالإعلام المنافق الذي ضللها ولا يزال يقلب الحقائق ويزور التاريخ، ويشوه الوقائع على الأرض. ولك أن تتأمل بعض هذه الأمثلة لتجد ذلك جليا:
المثال الأول: لاحظ الحملة التي يتبناها الإعلام الفرنسي، ويتبعه في ذلك العلمانيون والتنويريون في مصر للاحتفال بمرور 200 عام على الحملة الفرنسية على مصر!!، وإبراز الحملة كنقلة حضارية للشعب المصري، وتعمد إخفاء أنها كانت استعماراً واحتلالاً انتُهكت فيه حرمة المقدسات الدينية، وعُبِثَ فيه بالأزهر، وقُتِلَ آلاف المسلمين من أبناء مصر دفاعاً عن دينهم ووطنهم.
المثال الثاني: تعمد الإعلام اليهودي نقل قصص الفساد الإداري في الدولة العثمانية في بداية القرن للتعجيل بسقوطها، وإبراز حوادث الانحلال والاستبداد من خلال الحملة الشعواء التي شنها الإعلام الغربي على الخليفة العثماني السلطان عبد الحميد، ووصفه بلقب (السلطان الأحمر) عقب رفضه بيع فلسطين للوفد الصهيوني الذي أراد انتزاع ذلك الاعتراف منه. وتلا ذلك إبراز الخلافة العثمانية بصورة (الرجل المريض) وإثارة التيارات القومية التركية للانقضاض على الخلافة وتقويض أركانها.
المثال الثالث:
في دراسة متخحصة عن القضية الفلسطينية والإعلام الأمريكي، قام (ر . س . زهارنة) بدراسة إعلامية تعقّب فيها كيف تعاملت أشهر المجلات الأمريكية والعالمية - مجلة التايم - مع القضية الفلسطينية منذ بداية الكيان اليهودي في فلسطين (1948م).
(1) لاحظ الباحث أن التايم قد بدأت منذ عام 1946-1949م في تغيير كلمة (الفسلطينيون) إلى كلمات أخرى من مثل (سكان فلسطين) و (عرب فلسطين) وذلك لإخفاء الهوية الحقيقية للسكان الأصليين في المنطقة.
(2) ثم تغيرت هذه المصطلحات خلال الفترة من 1950م إلى نهاية الستينيات إلى: (العرب غير الأردنيين) و (العرب الإسرائيليين) و (الأردنيين)، وصاحَبَ ذلك تطور آخر وهو:
- التركيز على خصوصية العلاقة بين أمريكا وإسرائيل لدرجة أن مجلة التايم قامت بنقل الموضوعات الخاصة بقضية إسرائيل من صفحات القضايا الدولية في المجلة إلى الصفحات المحلية!!، واستمر هذا التغيير منذ ذلك الحين. أما من ناحية اللقاءات
الصحفية فقد كان أغلبها يتم مع مسؤولين أمريكيين أو إسرائيليين مما جعل الطرح الصحفي دائماً متحيزاً للجانب الإسرائيلي من النزاع، وكان لتصوير الفلسطينيين أنهم من العرب أثر إعلامي قوي في أمريكا بين مختلف فئات الشعب الأمريكي لاستغلال الكراهية المترسخة نحو العرب من جراء سنوات من الإعلام السلبي، إضافة إلى تصوير إسرائيل كياناً صغيراً في مقابل عدو ضخم هم العرب، بدلاً من التركيز على المجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
(3) قامت التايم بعدد من التحقيقات الإنسانية مع العائلات اليهودية المهاجرة إلى أرض الميعاد، وركزت هذه التحقيقات على جوانب التضحية والمعاناة والمشقة. ومثال ذلك تحقيق أجري في عدد 7/2/1949م مع عائلة يهودية مهاجرة.
(4)كما استخدمت المقارنات الإعلامية لإضفاء البريق على اليهودي والضعف والمهانة على العربي. ففي عدد 26/4/1948م كان عنوان أحد المقالات: (اليهود يحتفلون بأسبوع من النصر، والعرب قد أصابهم الضعف والضياع)، وفي عدد 17/5/1948م: (اليهود ينتظرون انتهاء الانتداب البريطاني في ثقة تامة، والعرب الفلسطينيون في انهيار نفسي تام).
(5) عقب ذلك وخلال الفترة من 1950م - 1967م انتقل تركيز مجلة التايم إلى الحديث عن شؤون إسرائيل، وإبرازها قوة دولية مؤثرة، بينما كثر الحديث عن ضعف أبناء فلسطين وتشردهم في البلاد العربية والغربية وعدم وجود قيادة لهم، وكانت صور الملاجئ تؤكد هذا الانطباع في نفس القارئ.
(6) أما في الفترة من 1967م - 1987م فقد اختلفت الصورة تدريجاً، فمع إنشاء منظمة التحرير عند بداية العمليات الفدائية، بدأ التركيز على صورة الفلسطيني الإرهابي، وانتقلت الصورة الماثلة في أعين الغربيين عن الفلسطيني الذي كان
ينظر إليه على أنه مشرد لا حول له ولا قوة، إلى الإرهابي خاطف الطائرات وقاتل الأطفال والنساء بلا رحمة ولا شفقة.
(7) وانتقلت مجلة التايم مرة أخرى إلى نوع جديد من التصوير السلبي للفلسطينيين لتصفهم بأنهم (متوحشون)، (إرهابيون بلا رحمة) و (غير منطقيين) [10]. ولذلك كان هناك نوع من التأييد عند احتلال إسرائيل لجنوب لبنان فيما صُوِّر أنه محاولة للقضاء على الإرهاب الفلسطيني الذي يهدد العالم بأسره، ولكن تبع ذلك مذابح صبرا وشاتيلا فعادت مرة أخرى صورة الفلسطيني المشرد المغلوب على أمره تحتل عناوين التايم وكأنما كان ذلك لامتصاص غضبة العرب والمسلمين تجاه تلك المذابح الرهيبة.
(8) أما في الفترة التي بدأت منذ عام 1988م فقد ظهر تغير في النظرة تجاه القضية الفلسطينية وذلك عقب الانتفاضة التي قدمت الشعب الفلسطيني للعالم كشعب أعزل يقاتل بالحجر وحشية الجندي اليهودي المدجج بالسلاح. وهنا بدأ الإعلام الغربي في إعادة رسم وتقديم منظمة التحرير كشريك مقبول للسلام، وبدأت عمليات تجميل صورة قيادات المنظمة التي كانت حتى عهد قريب توصف بأنها منظمة إرهابية، ويرجع كثير من الباحثين هذا التغيير في السياسة الإعلامية التي تحركها اهتمامات اللوبي اليهودي في أمريكا إلى الحاجة التي ظهرت لاستبدال قيادة الشعب الفلسطيني واللحاق بها قبل أن تقع في أيدي الإسلاميين الذين ظهرت مصداقيتهم للشعب خلال أحداث الانتفاضة.
(9) وفجأة تتحول مجلة التايم إلى دور المدافع عن ياسر عرفات عندما رفض جورج شولتز وزير الخارجية آنذاك منحه تأشيرة دخول أمريكا لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة.
وتعقِّب التايم على ذلك في عدد 5/12/1988م قائلة : (جهد فردي لمنع رئيس المنظمة من التحدث أمام الأمم المتحدة). وصُوِّر عرفات عقب ذلك أنه (النجم الصاعد الذي يتحدى صلف الحكومة الأمريكية) [11] والملاحظ هنا أن المنظمة لم يتم الاعتراف بها من قبل الإعلام الأمريكي كممثل للشعب الفلسطيني عندما نالت المنظمة الاعتراف الدولي في عام 1974م ، ولكن تم ذلك بعد أكثر من 19 عاماً؛ إذ تطابقت سياسة المنظمة مع سياسة قادة إسرائيل عام 1993م. ولأول مرة تبدأ
مجلة التايم في إظهار الجانب الإنساني في شخصية عرفات بوصفه (محباً للأطفال)، و (الرجل المسن) في عدد 13/9/1993م، كما اختفى الحديث عن العداء، وبدأ ذكر عبارات الحوار والنقاش و (الخروج من دوامة الصدامات التاريخية) و (البناء
المشترك لأرض الميعاد) و (الحياة جنباً إلى جنب). (نقلا عن مجلة البيان (126 / 56)).
حديث القرآن عن أثر الإعلام الحق وأثره في تثبيت المؤمنين، وبالمقابل أثر الإعلام المنافق في قلب الحقائق وزلزلة أفئدة الصامدين، وتلميع دعاة التطبيع والتركيع.
تأمل معي قول ربنا تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: 2].
ولله در العلامة الأصولي الشيخ الأمين الشنقيطي، وهو يعقب على هذه الآيات بروح العالم الرباني الذي جمع بين بصيرة الدين, وبصيرة الواقع.
قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود، ومفهوم المحالفة يدل على أن العكس بالعكس، أي أن الطمأنينة وهي ضد الرعب، سبب من أسباب النصر، وهو ضد الهزيمة.
وقد جاء ذلك المفهوم مصرحاً به في آيات من كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [سورة الفتح: 18]، ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [سورة التوبة: 25- 26]، فقد ولوا مدبرين بالهزيمة، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزلَ جنوداً من الملائكة فكان النَّصر لهم، وهزيمة أعدائهم المشار إليها بقوله تعالى: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} أي بالقتل والسبي في ذلك اليوم.
ومنها قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 40].
وهذا الموقف ية من آيات الله، اثنان أعزلان يتحديان قريشاً بكاملها، بعددها وعددها، فيخرجان تحت ظلال السيوف، ويدخلان الغار في سدقة الليل، ويأتي الطلب على فم الغار بقلوب حانقة، وسيوف مصلته، في آذان مرهفة حتى يقول الصديق رضي الله عنه: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا ، فيقول صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الطمأنينة، ومنتهى السكينة: «ما بالك باثنين الله ثالثهما».
ومنها، وفي أخطر المواقف في الإسلام، في غزورة بدر، حيثما التقى الحق بالباطل وجهاً لوجه، جاءت قوى الشر في خيلائها وبطرها وأشرها، وأمامها جند الله في تواضعهم وإيمانهم وضراعتهم إلى الله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [سورة الأنفال: 9-11].
كما جعل الله الإمداد بالملائكة إلا لتطمئن به قلوبهم، وما غشاهم النعاس إلا أمنةً منه، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم، فقاموا بقلتهم قوى الشر على كثرتهم، وتم النصر من عند الله بمدد من الله، كما ربط على قلوب أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [سورة الكهف: 14].
هذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب المدلول عليه بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين} [سورة الحشر: 2]، وقد جمع الله تعالى الأمرين المنطوق والمفهوم في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ} [سورة الأنفال: 12]. فنص على الطمأنينة بالثتبيت في قوله: {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ}، ونص على الرعب في قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ} فكانت الطمأنينة تثبيتاً للمؤمنين، والرعب زلزلة للكافرين.
ونحن أحوج ما نكون في مثل هذه الأيام لمثل هذه المنطلقات الشرعية في فهم حقائق الصراع العالمي.
فقد جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام . لما أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى بني قريظة ، قال: «إني متقدمكم لأزلزل بهم الأقدام ».
ومما يقرر هذا المنطلق الشرعي وأثره في إدارة الصراع قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال: 45-46].
فذكر الله تعالى أربعة أسباب للطمأنينة:
الأولى: الثبات، وقد دل عليها قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [سورة الصف: 4].
والثانية: ذكر الله كثيراً، وقد دل عليها قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [سورة الرعد: 28].
والثالثة: طاعة الله ورسوله، ويدل لها قوله تعالى: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [سورة محمد: 20-21].
والرابعة: عدم التنازع والاعتصام والألفة، ويدل عليها قوله تعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [سورة آل عمران: 103].
وفي ذكر أٍسباب الهزيمة المتمثلة في رعب القلوب، وأسباب النصر المتمثلة في السكينة والطمأنينة، تعلم مدى تأثير الدعايات الإعلامية على صناع القرار فضلا عن الأفراد.
مما دعا أحد المسؤليين للأمم المتحدة للقول بأن: "وكالة الأنباء التلفزيونية - هي العضو رقم (6) في مجلس الأمن".
وقد حذر الله تعالى المسلمين من التعرض للرسائل الإعلامية المغرضة بلا فقه ولا وعي في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الأحزاب: 18].
لك أن تتأمل تلك القنوات، وتلك الصحافة وأولئك الكتاب الذين مافتئوا يفتون في عضد المجاهدين والصامدين في غزة، ويقللون من تضحياتهم، ويستهجنون بطولاتهم أمام آلة الحرب الصهيونية.
ولكن كما قال الشيخ أحمد ياسين رحمه الله: "أنا أريد تحريك ضمير العالم كله ليرى إنساناً مغتصبة أرضه وفي ظل احتلال، ومغلوباً على أمره لا يجد ما يقاوم به العدو إلا الحجر ورغم هذا يتحدى بالحجر؛ فهذا يثير مشاعر كل البشرية في العالم الذي يرى إنساناً يقاتل بحجر وعدوه أمامه يقاتل بالطائرات والصواريخ والدبابات!!، هذا يعطي صورة أن هذا الإنسان لولا أنه على حق لما كان له أن يقف هذا الموقف وهذا الإصرار ويقدم التضحيات بهذا الشكل العظيم الكبير. هذه واحدة.
والثانية: أن الشعب الفلسطيني نفسه يريد أن يكشف وجه العدو الصهيوني وبشاعته أمام العالم كيف يقابل الحجر بالصواريخ؛ وهذا يدل على الوحشية من هذا الإنسان الذي لا يعرف الإنسانية ولا الرحمة لا يميز بين طفل ولا امرأة ولا عجوز ولا بين مدني وعسكري، ولا حتى حيوان؛ فالكل عنده سيان.
ثم توازن الرعب الذي نتحدث عنه، نحن نموت ونزغرد ونخرج بمسيرات ونواجه بالحجر لكن العدو يولول ويهرب ويخاف. الجندي الذي يركب الدبابة والقنبلةُ والصاروخُ في يده خائف . إذًا صار هناك توازن رعب: الإسرائيلي يمشي في السوق والشارع وهو خائف، يذهب إلى المدرسة وهو خائف، إذًا أنا نقلت المعركة إلى أرضه تماماً كما قال الرسول صلى
الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر» [1]، وهذه أول علامات النصر والتمكين إن شاء الله".
وقد حذر تعالى من السماع للمرجفين في قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [سورة التوبة: 47].
وأبان القرآن الكريم لنا أساليب ووسائل الإعلام الكافرة عبر التاريخ في حرب الإسلام وأهله، التي تنوعت صورها ووسائلها وجمع بينها جميعاً رابط الكيد والعداء للإسلام، والكذب والخداع وتشويه الحقائق.
ولنتأمل قول الله - تعالى: {وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت: 26].
وكذلك قوله: {وَمِنَ الَذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاًتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [سورة المائدة: 41]، وكذلك قوله - جل شأنه: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 71].
وهذا الأمر الذي عالجه القرآن إبان الجماعة الأولى، وكشف فيه دهاء المكر الإعلامي اليهودي يصدقه الواقع المعاصر. فمثلا هناك أربع شبكات تلفزيونية تشكل في مجموعها أكثر من 95% من الأخبار العالمية والمحلية في أمريكا. وهذه الشبكات هي: سي. أن. أن (cnn)، وتملكها شركة تايم - وارنر التي يرأسها جيرالد ليفين (يهودي)، وشبكة أي. بي. سي (abc)، وتملكها شركة والت ديزني التي يرأسها مايكل إيزنار (يهودي)، وشبكة سي. بي. أس (cbs)، وتملكها شركة وستنجهاوس ويرأس الشبكة إيريك وابر (يهودي)، وشبكة أن. بي. سي (nbc) وتملكها جنرال إليكتريك، ويرأس قطاع الأخبار فيها أندرو لاك (يهودي).
وكل هذه الشبكات تدار حالياً من قبل اليهود، بشكل مباشر أو غير مباشر. وليس أدل على ذلك من ظهور وزيرة الخارجية للعدو الصهيوني مايقارب من ثمانية مرات في الإعلام الأمريكي أثناء القصف الغاشم لغزة.
و لكي نفقه مدى إدراك النبي صلى الله عليه وسلم لهذه القضية الخطيرة، نجده عليه الصلاة والسلام حينما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن اليهود نقضوا عهدهم، أرسل إليهم صلى الله عليه وسلم من يستطلع خبرهم، وأوصاهم إن هم رأوا غدراً ألا يصرحوا بذلك، وأن يلحنوا له لحناً حفاظاً على طمأنينة المسلمين، وإبعاداً للإرجاف في صفوفهم.
وإذا كان القرآن تحدث عن دور الإعلام المبطل، فإنه بين أثر الإعلام الحق في قوله تعالى:
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} [سورة الأنفال: 60].
وقد كان من عظيم فقه الخليفة الراشد أبي بكر الصديق لقضية الإعلام إصراره على خروج جيش أسامة بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعند تربص الأعراب -مما كان له الأثر الكبير في إحباط نوايا المتربصين بالمسلمين، وقالوا: "ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية والقوة اللازمة".
و لعل ما أجراه الله في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان أكبر دليل عملي، إذ يقلل كل فريق في أعين الآخرين. كما قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} [سورة الأنفال: 43-44].
وهذا كله مما ينبغي الاستفادة منه اليوم في قنواتنا وصحفنا ومنابرنا ومجالسنا ومواقعنا على الشبكة ضد العدو الصهيوني وفي إعطاء التصور الصحيح لقضية الإسلام والمسلمين الأولى قضية فلسطين.
بتصرف يسير
حفظه من جانب الوجود، وحفظه من جانب العدم. فجانب الوجود بأن تباشر الأسباب التي تمده بالبقاء والاستمرار صحيحا سليما، وجانب العدم أن تكف عن الأسباب التي تفسده وتشوهه. وقضية فلسطين قضية إسلامية، ترتبط بعقيدة المسلمين. فواجبنا نحوها من جانبين، لا ينفك جانب عن آخر.
من يرقب تعاطي أمتنا العربية اليوم مع قضية فلسطين يدرك الخلل الواضح في فهم طبيعة المعركة في بلاد الأقصى، هذا على مستوى التصور، أما على مستوى الحراك الفعلي فهناك شلل على كافة الأصعدة.
وهذا مرده للقصور في تمثل المنهج القسط في إدارة المعركة مع العدو الخارجي من اليهود ومن يقف وراءهم، والعدو الداخلي من المنافقين والسماعين لهم.
والمنهج الإسلامي القائم على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة له مقاصده ووسائله في تناول الكفاح مع هاتين الطائفتين: أعني اليهود والمنافقين. لما بينهما من وشائج الصلة في حرب الإسلام والنيل من اتباعه.
ولعل هذا المقال المقتضب فيه إشارات لأصول هذا المنهج تحتاج لمزيد تحرير وتقرير، إذ من البخس لقضية فلسطين، ومن الحيف لحق إخواننا في غزة أن يتمحور مشروع المواساة حول المطالبة بفك معبر، والمناشدة بوجود مخرج، فمثل هذا التعاطي الخداج يختزل الصراع في إطار ضيق.
وإليك أخي الحبيب حديث القرآن الكريم عن مقاصد المواجهة ووسائلها مع اليهود والمنافقين، ولك أن تسقط هذا المنهج على واقع العرب وتعاطيهم مع أزمة غزة الأبية.
فالقضية الأساسية هي التركيز على إسلام فلسطين، وأنها بلاد ورثها المسلمون فلا يجوز التفريط بشبر منها. كما أفتى علماء الإسلام بذلك منذ طفت دولة يهود على الجسد الإسلامي.
فالواجب على الدول الإسلامية و المنظمات والهيئات والأفراد، وأصحاب الأموال والأقلام، تأييدهم ودعمهم؛ ليتخلصوا من عدوهم وليرجعوا إلى بلادهم؛ عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة: 123].
وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: 41].
وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف: 10]، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الصف: 11]، {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: 72]، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف: 13].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» [صححه الألباني].
ولأنهم مظلومون، فالواجب على إخوانهم المسلمين نصرهم على من ظلمهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» [متفق على صحته].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، قالوا: "يا رسول الله، نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟"، قال: «تحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه» .
فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقر بوجود هذا الكيان البغيض، فوجوده باطل والقواعد المقررة في الفقه الإسلامي تقرر أن ما بني على باطل فهو باطل، وليس لظالم عرق، والأصل بقاء ما كان على ما كان، والقديم يبقى على قدمه، والحق لا يسقط بالتقادم. فإذا كنا لا نقر مسلم على ظلم فكيف نقر يهوديا على ظلمه، ونحاول أن نروض أجيالنا على القبول بهذا العدو بيننا؟!، وما حوارات الأديان الأخيرة إلا توطئة للتطبيع والتركيع لهذا الورم السرطاني في جسد أمتنا العربية والإسلامية!!.
فموقف ولاة أمر المسلمين علماء وأمراء ينبغي أن يكون حاسما في هذه القضية، وإليك هذين الموقفين الرائعين:
الأول: حين حاول هرتزل عن طريق وسيط (رشوة) السلطان العثماني عبد الحميد، لكن السلطان حسم الموقف بشكل نهائي وقطعي مما دلل على محافظته على فلسطين، قال رحمه الله: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى أرض فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
والآخر: موقف الشيخ أحمد ياسين رحمه الله حين سئل عن عملية السلام قال: "إننا لسنا ضد السلام؛ لأن السلام هو الله؛ لكنه السلام الذي يأتي لي بأرضي ووطني وحقي، أما السلام الذي يفقدني أرضي وبيتي وحقي ومقدساتي فهذا ليس سلاماً وإنما هو استسلام.
وأقول: رحم الله الخليفة الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال للمرتدين: "إما حرباً مجلية أو سلماً مخزية"، فقالوا له: "الحرب المجلية عرفناها؛ فما هي السلم المخزية؟" قال: "أن تلقوا السلاح، وأن تأخذوا بأذناب البقر في الرعي، وممنوع أن تحملوا السلاح".
والسلم المخزية تحتاج إلى حرب مجلية، إن شاء الله، ولذلك نقول: إن هذا السلام هو استسلام مرفوض تماماً، مرفوض تجزئة القضية الفلسطينية، مرفوض التنازل عن أي ذرة من أرض فلسطين وتراب فلسطين، مرفوض التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين؛ لأن هذه الأرض هي وقف إسلامي، ولا يملك رئيس ولا جيل ولا شعب التنازل عنها؛ لأنها ملك لأجيال المسلمين، ونحن لا نريد خداع الشعب الفلسطيني ولا تجزئة القضية. أرض الـ 1948م راحت، وبعدها تدخل إلى أرض 1967م ويضيع 9% أو 10% منها وتدخل ونخليها كلها مستوطنات وندخل نقسم القدس ونجزئها، وندخل إلى الحدود التي لا سيطرة لنا عليها، ويسيطر العدو على الأرض والهواء، كل ذلك خداع للشعب الفلسطيني واختزال للقضية الفلسطينية شيئاً فشيئاً من بلد كبير واسع إلى نقطة أو نقطتين أو ثلاثة؛ ولذلك فإن هذه التسوية مرفوضة ولا نعتبرها سلاماً، بل هي استسلام".
لقد كان للشعارات القومية والعلمانية وغيرها من الشعارات الأرضية التي نأت بقضية فلسطين عن بعدها العقدي، وتبين للأمة الخسار الذي انتهت إليه هذه الدعوات، واليوم تعود شعارات أخرى من نوع آخر تتمسح بقضية فلسطين لتسويق أفكارها، فهل ستخدع أمتنا الإسلامية مرتين؟؟!
النفاق الإعلامي أصبح يخدع فئام من الناس بأسطورة حزب الله الرافضي ومشروعه الصفوي في بلاد المسلمين متذرعا بقضية الإسلام الأولى. هذا النفاق لا ينطلي إلا على ضعاف الإيمان، من دعاة التلفيق العقدي.
لقد جاء في سياق حديث القرآن عن المنافقين؛ قوله تعالى:
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [سورة التوبة: 47].
و قال الله عنهم: {ومنهم من يقول ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [سورة التوبة: 49]، وقال تعالى عن الآخر: {وقالوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [سورة التوبة: 81].
في آية التوبة السابقة: أربعة معاني تصور خطر أعداء المنهج الحق، ثلاثة في خصوم هذا المنهج، والرابعة في أتباع المنهج.
الأولى: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}: والخبال: الفساد، وتفكّك الشيء الملتحم الملتئم، فأطلق هنا على اضطراب الجيش واختلال نظامه.
الثانية: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}: الايضاع سير الابل يقال: أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفاً بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الأيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين.
الثالثة: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}: بغيته كذا: طلبته له، وأبغيته كذا: أعنته على طلبه. والمعنى: يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد؛ وقيل الفتنة هنا الشرك.
الرابعة: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}: أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: "{وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْۗ} أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص لخروجهم معهم بل هذا عام في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
وهذا الخبر لا يتخلف {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [سورة النساء: 122]، وهو أن فينا قوما سماعين للمنافقين يقبلون منهم، {وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْۗ} والقرينة المقالية من التعدية باللام تفيد أن هذا السماع متضمن معنى القبول والطاعة.
وإذا كان هذا يقع في زمن الصحابة, فإن من المقرر أصوليا بدلالة الأولى أن وقوعه فيمن بعدهم أولى وأحرى.
ولشدة اللبس الجاثم على أفكار هؤلاء السماعين، يقول ابن تيمية: "ولا ريب أن كثيرا من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان، لكن يلتبس عليه أمر المنافقين حتى يصير لهم من السماعين".
ويقول مقررا ذلك من سنة النبي-صلى الله عليه وسلم-: "ومن المعلوم أن كلام أهل الإفك في عائشة كان مبدؤه من المنافقين وتلطخ به طائفة من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين لكن كان فيهم من نقص الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان".
وعن خطورة غض الطرف عن حبائل النفاق، وأثر ذلك على سلامة المنهج، وإدارة المواجهة: يكفي أن نستننطق التاريخ، لنجد أن أهل النفاق أدخلوا في الإسلام ما أدخلوه.
ومن أوضح الأمثلة (ابن سبأ) الذي ابتدع دين الرافضة وكان زنديقا يهوديا أظهر الإسلام وأبطن الكفر ليحتال في إفساد دين المسلمين - كما احتال (بولص) في إفساد دين النصارى -.
والآن نجد التاريخ يعيد نفسه، فهذه دولة الصفويين الجدد تجعل من (حسن نصر الله)، ابن سبأ جديد يسوق للمد الرافضي في العالم العربي والإسلامي، من خلال نفاقه الإعلامي ومزايداته بقضية القدس وفلسطين، وانخدع أناس كثيرون بهذا الرجل.
ويعلق ابن تيمية على ظهور ابن سبأ قائلا: "وقد سعى هذا المنافق في الفتنة بين المسلمين حتى قتل عثمان-رضي الله عنه-. ثم إنه لما تفرقت الأمة ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر-رضي الله عنهما- . وصادف ذلك قلوبا فيها جهل وظلم وإن لم تكن كافرة؛ فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم. وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه وغيروا ملته. وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد فصاروا جامعين بين الشرك والكذب، كما قرن الله بينهما في غير موضع كقوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [سورة الحج: 30]، {حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [سورة الحج: 31].
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائما فقال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرار، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}" [ضعفه الألباني].
وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون.
وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة التوبة: 73]، [سورة التحريم: 9]، في آيتين من القرآن.
فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس: فسد أمر الكتاب وبدل الدين؛ كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين: قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا؛ وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 47]، فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء؛ بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم؛ بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق؛ لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين؛ ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها.
ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة؛ وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده. فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب؛ وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله. ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه؛ بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه: من ثناء ودعاء وغير ذلك؛ وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة: عبد الله بن سبأ وأمثاله: مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب؛ فهذا يذكر بالنفاق. وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا، ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله. فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما.
يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما قصدوا الخروج للجهاد بالكلية، وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة، فإن العذر هو المانع الذي يمنع إذا بذل العبد وسعه، وسعى في أسباب الخروج، ثم منعه مانع شرعي، فهذا الذي يعذر.
{و} أما هؤلاء المنافقون فـ {لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [سورة التوبة: 46] أي: لاستعدوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب، ولكن لما لم يعدوا له عدة، علم أنهم ما أرادوا الخروج.
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [سورة التوبة: 46]، معكم في الخروج للغزو {فَثَبَّطَهُمْ} قدرا وقضاء، وإن كان قد أمرهم وحثهم على الخروج، وجعلهم مقتدرين عليه، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم، بل خذلهم وثبطهم، {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} من النساء والمعذورين.
ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [سورة التوبة: 47] أي: نقصا.
{وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ} أي: ولسعوا في الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم.
{وَفِيكُمْ} أناس ضعفاء العقول {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم، فإذا كانوا هم حريصين على خذلانكم، وإلقاء الشر بينكم، وتثبيطكم عن أعدائكم، وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين، والنقص الكثير منهم، فللّه أتم الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم، ولطفا من أن يداخلهم ما لا ينفعهم، بل يضرهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فيعلم عباده كيف يحذرونهم، ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.
فكم انخدعت الشعوب المسلمة بالإعلام المنافق الذي ضللها ولا يزال يقلب الحقائق ويزور التاريخ، ويشوه الوقائع على الأرض. ولك أن تتأمل بعض هذه الأمثلة لتجد ذلك جليا:
المثال الأول: لاحظ الحملة التي يتبناها الإعلام الفرنسي، ويتبعه في ذلك العلمانيون والتنويريون في مصر للاحتفال بمرور 200 عام على الحملة الفرنسية على مصر!!، وإبراز الحملة كنقلة حضارية للشعب المصري، وتعمد إخفاء أنها كانت استعماراً واحتلالاً انتُهكت فيه حرمة المقدسات الدينية، وعُبِثَ فيه بالأزهر، وقُتِلَ آلاف المسلمين من أبناء مصر دفاعاً عن دينهم ووطنهم.
المثال الثاني: تعمد الإعلام اليهودي نقل قصص الفساد الإداري في الدولة العثمانية في بداية القرن للتعجيل بسقوطها، وإبراز حوادث الانحلال والاستبداد من خلال الحملة الشعواء التي شنها الإعلام الغربي على الخليفة العثماني السلطان عبد الحميد، ووصفه بلقب (السلطان الأحمر) عقب رفضه بيع فلسطين للوفد الصهيوني الذي أراد انتزاع ذلك الاعتراف منه. وتلا ذلك إبراز الخلافة العثمانية بصورة (الرجل المريض) وإثارة التيارات القومية التركية للانقضاض على الخلافة وتقويض أركانها.
المثال الثالث:
في دراسة متخحصة عن القضية الفلسطينية والإعلام الأمريكي، قام (ر . س . زهارنة) بدراسة إعلامية تعقّب فيها كيف تعاملت أشهر المجلات الأمريكية والعالمية - مجلة التايم - مع القضية الفلسطينية منذ بداية الكيان اليهودي في فلسطين (1948م).
(1) لاحظ الباحث أن التايم قد بدأت منذ عام 1946-1949م في تغيير كلمة (الفسلطينيون) إلى كلمات أخرى من مثل (سكان فلسطين) و (عرب فلسطين) وذلك لإخفاء الهوية الحقيقية للسكان الأصليين في المنطقة.
(2) ثم تغيرت هذه المصطلحات خلال الفترة من 1950م إلى نهاية الستينيات إلى: (العرب غير الأردنيين) و (العرب الإسرائيليين) و (الأردنيين)، وصاحَبَ ذلك تطور آخر وهو:
- التركيز على خصوصية العلاقة بين أمريكا وإسرائيل لدرجة أن مجلة التايم قامت بنقل الموضوعات الخاصة بقضية إسرائيل من صفحات القضايا الدولية في المجلة إلى الصفحات المحلية!!، واستمر هذا التغيير منذ ذلك الحين. أما من ناحية اللقاءات
الصحفية فقد كان أغلبها يتم مع مسؤولين أمريكيين أو إسرائيليين مما جعل الطرح الصحفي دائماً متحيزاً للجانب الإسرائيلي من النزاع، وكان لتصوير الفلسطينيين أنهم من العرب أثر إعلامي قوي في أمريكا بين مختلف فئات الشعب الأمريكي لاستغلال الكراهية المترسخة نحو العرب من جراء سنوات من الإعلام السلبي، إضافة إلى تصوير إسرائيل كياناً صغيراً في مقابل عدو ضخم هم العرب، بدلاً من التركيز على المجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
(3) قامت التايم بعدد من التحقيقات الإنسانية مع العائلات اليهودية المهاجرة إلى أرض الميعاد، وركزت هذه التحقيقات على جوانب التضحية والمعاناة والمشقة. ومثال ذلك تحقيق أجري في عدد 7/2/1949م مع عائلة يهودية مهاجرة.
(4)كما استخدمت المقارنات الإعلامية لإضفاء البريق على اليهودي والضعف والمهانة على العربي. ففي عدد 26/4/1948م كان عنوان أحد المقالات: (اليهود يحتفلون بأسبوع من النصر، والعرب قد أصابهم الضعف والضياع)، وفي عدد 17/5/1948م: (اليهود ينتظرون انتهاء الانتداب البريطاني في ثقة تامة، والعرب الفلسطينيون في انهيار نفسي تام).
(5) عقب ذلك وخلال الفترة من 1950م - 1967م انتقل تركيز مجلة التايم إلى الحديث عن شؤون إسرائيل، وإبرازها قوة دولية مؤثرة، بينما كثر الحديث عن ضعف أبناء فلسطين وتشردهم في البلاد العربية والغربية وعدم وجود قيادة لهم، وكانت صور الملاجئ تؤكد هذا الانطباع في نفس القارئ.
(6) أما في الفترة من 1967م - 1987م فقد اختلفت الصورة تدريجاً، فمع إنشاء منظمة التحرير عند بداية العمليات الفدائية، بدأ التركيز على صورة الفلسطيني الإرهابي، وانتقلت الصورة الماثلة في أعين الغربيين عن الفلسطيني الذي كان
ينظر إليه على أنه مشرد لا حول له ولا قوة، إلى الإرهابي خاطف الطائرات وقاتل الأطفال والنساء بلا رحمة ولا شفقة.
(7) وانتقلت مجلة التايم مرة أخرى إلى نوع جديد من التصوير السلبي للفلسطينيين لتصفهم بأنهم (متوحشون)، (إرهابيون بلا رحمة) و (غير منطقيين) [10]. ولذلك كان هناك نوع من التأييد عند احتلال إسرائيل لجنوب لبنان فيما صُوِّر أنه محاولة للقضاء على الإرهاب الفلسطيني الذي يهدد العالم بأسره، ولكن تبع ذلك مذابح صبرا وشاتيلا فعادت مرة أخرى صورة الفلسطيني المشرد المغلوب على أمره تحتل عناوين التايم وكأنما كان ذلك لامتصاص غضبة العرب والمسلمين تجاه تلك المذابح الرهيبة.
(8) أما في الفترة التي بدأت منذ عام 1988م فقد ظهر تغير في النظرة تجاه القضية الفلسطينية وذلك عقب الانتفاضة التي قدمت الشعب الفلسطيني للعالم كشعب أعزل يقاتل بالحجر وحشية الجندي اليهودي المدجج بالسلاح. وهنا بدأ الإعلام الغربي في إعادة رسم وتقديم منظمة التحرير كشريك مقبول للسلام، وبدأت عمليات تجميل صورة قيادات المنظمة التي كانت حتى عهد قريب توصف بأنها منظمة إرهابية، ويرجع كثير من الباحثين هذا التغيير في السياسة الإعلامية التي تحركها اهتمامات اللوبي اليهودي في أمريكا إلى الحاجة التي ظهرت لاستبدال قيادة الشعب الفلسطيني واللحاق بها قبل أن تقع في أيدي الإسلاميين الذين ظهرت مصداقيتهم للشعب خلال أحداث الانتفاضة.
(9) وفجأة تتحول مجلة التايم إلى دور المدافع عن ياسر عرفات عندما رفض جورج شولتز وزير الخارجية آنذاك منحه تأشيرة دخول أمريكا لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة.
وتعقِّب التايم على ذلك في عدد 5/12/1988م قائلة : (جهد فردي لمنع رئيس المنظمة من التحدث أمام الأمم المتحدة). وصُوِّر عرفات عقب ذلك أنه (النجم الصاعد الذي يتحدى صلف الحكومة الأمريكية) [11] والملاحظ هنا أن المنظمة لم يتم الاعتراف بها من قبل الإعلام الأمريكي كممثل للشعب الفلسطيني عندما نالت المنظمة الاعتراف الدولي في عام 1974م ، ولكن تم ذلك بعد أكثر من 19 عاماً؛ إذ تطابقت سياسة المنظمة مع سياسة قادة إسرائيل عام 1993م. ولأول مرة تبدأ
مجلة التايم في إظهار الجانب الإنساني في شخصية عرفات بوصفه (محباً للأطفال)، و (الرجل المسن) في عدد 13/9/1993م، كما اختفى الحديث عن العداء، وبدأ ذكر عبارات الحوار والنقاش و (الخروج من دوامة الصدامات التاريخية) و (البناء
المشترك لأرض الميعاد) و (الحياة جنباً إلى جنب). (نقلا عن مجلة البيان (126 / 56)).
حديث القرآن عن أثر الإعلام الحق وأثره في تثبيت المؤمنين، وبالمقابل أثر الإعلام المنافق في قلب الحقائق وزلزلة أفئدة الصامدين، وتلميع دعاة التطبيع والتركيع.
تأمل معي قول ربنا تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: 2].
ولله در العلامة الأصولي الشيخ الأمين الشنقيطي، وهو يعقب على هذه الآيات بروح العالم الرباني الذي جمع بين بصيرة الدين, وبصيرة الواقع.
قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود، ومفهوم المحالفة يدل على أن العكس بالعكس، أي أن الطمأنينة وهي ضد الرعب، سبب من أسباب النصر، وهو ضد الهزيمة.
وقد جاء ذلك المفهوم مصرحاً به في آيات من كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [سورة الفتح: 18]، ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [سورة التوبة: 25- 26]، فقد ولوا مدبرين بالهزيمة، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزلَ جنوداً من الملائكة فكان النَّصر لهم، وهزيمة أعدائهم المشار إليها بقوله تعالى: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} أي بالقتل والسبي في ذلك اليوم.
ومنها قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 40].
وهذا الموقف ية من آيات الله، اثنان أعزلان يتحديان قريشاً بكاملها، بعددها وعددها، فيخرجان تحت ظلال السيوف، ويدخلان الغار في سدقة الليل، ويأتي الطلب على فم الغار بقلوب حانقة، وسيوف مصلته، في آذان مرهفة حتى يقول الصديق رضي الله عنه: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا ، فيقول صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الطمأنينة، ومنتهى السكينة: «ما بالك باثنين الله ثالثهما».
ومنها، وفي أخطر المواقف في الإسلام، في غزورة بدر، حيثما التقى الحق بالباطل وجهاً لوجه، جاءت قوى الشر في خيلائها وبطرها وأشرها، وأمامها جند الله في تواضعهم وإيمانهم وضراعتهم إلى الله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [سورة الأنفال: 9-11].
كما جعل الله الإمداد بالملائكة إلا لتطمئن به قلوبهم، وما غشاهم النعاس إلا أمنةً منه، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم، فقاموا بقلتهم قوى الشر على كثرتهم، وتم النصر من عند الله بمدد من الله، كما ربط على قلوب أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [سورة الكهف: 14].
هذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب المدلول عليه بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين} [سورة الحشر: 2]، وقد جمع الله تعالى الأمرين المنطوق والمفهوم في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ} [سورة الأنفال: 12]. فنص على الطمأنينة بالثتبيت في قوله: {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ}، ونص على الرعب في قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ} فكانت الطمأنينة تثبيتاً للمؤمنين، والرعب زلزلة للكافرين.
ونحن أحوج ما نكون في مثل هذه الأيام لمثل هذه المنطلقات الشرعية في فهم حقائق الصراع العالمي.
فقد جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام . لما أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى بني قريظة ، قال: «إني متقدمكم لأزلزل بهم الأقدام ».
ومما يقرر هذا المنطلق الشرعي وأثره في إدارة الصراع قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال: 45-46].
فذكر الله تعالى أربعة أسباب للطمأنينة:
الأولى: الثبات، وقد دل عليها قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [سورة الصف: 4].
والثانية: ذكر الله كثيراً، وقد دل عليها قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [سورة الرعد: 28].
والثالثة: طاعة الله ورسوله، ويدل لها قوله تعالى: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [سورة محمد: 20-21].
والرابعة: عدم التنازع والاعتصام والألفة، ويدل عليها قوله تعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [سورة آل عمران: 103].
وفي ذكر أٍسباب الهزيمة المتمثلة في رعب القلوب، وأسباب النصر المتمثلة في السكينة والطمأنينة، تعلم مدى تأثير الدعايات الإعلامية على صناع القرار فضلا عن الأفراد.
مما دعا أحد المسؤليين للأمم المتحدة للقول بأن: "وكالة الأنباء التلفزيونية - هي العضو رقم (6) في مجلس الأمن".
وقد حذر الله تعالى المسلمين من التعرض للرسائل الإعلامية المغرضة بلا فقه ولا وعي في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الأحزاب: 18].
لك أن تتأمل تلك القنوات، وتلك الصحافة وأولئك الكتاب الذين مافتئوا يفتون في عضد المجاهدين والصامدين في غزة، ويقللون من تضحياتهم، ويستهجنون بطولاتهم أمام آلة الحرب الصهيونية.
ولكن كما قال الشيخ أحمد ياسين رحمه الله: "أنا أريد تحريك ضمير العالم كله ليرى إنساناً مغتصبة أرضه وفي ظل احتلال، ومغلوباً على أمره لا يجد ما يقاوم به العدو إلا الحجر ورغم هذا يتحدى بالحجر؛ فهذا يثير مشاعر كل البشرية في العالم الذي يرى إنساناً يقاتل بحجر وعدوه أمامه يقاتل بالطائرات والصواريخ والدبابات!!، هذا يعطي صورة أن هذا الإنسان لولا أنه على حق لما كان له أن يقف هذا الموقف وهذا الإصرار ويقدم التضحيات بهذا الشكل العظيم الكبير. هذه واحدة.
والثانية: أن الشعب الفلسطيني نفسه يريد أن يكشف وجه العدو الصهيوني وبشاعته أمام العالم كيف يقابل الحجر بالصواريخ؛ وهذا يدل على الوحشية من هذا الإنسان الذي لا يعرف الإنسانية ولا الرحمة لا يميز بين طفل ولا امرأة ولا عجوز ولا بين مدني وعسكري، ولا حتى حيوان؛ فالكل عنده سيان.
ثم توازن الرعب الذي نتحدث عنه، نحن نموت ونزغرد ونخرج بمسيرات ونواجه بالحجر لكن العدو يولول ويهرب ويخاف. الجندي الذي يركب الدبابة والقنبلةُ والصاروخُ في يده خائف . إذًا صار هناك توازن رعب: الإسرائيلي يمشي في السوق والشارع وهو خائف، يذهب إلى المدرسة وهو خائف، إذًا أنا نقلت المعركة إلى أرضه تماماً كما قال الرسول صلى
الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر» [1]، وهذه أول علامات النصر والتمكين إن شاء الله".
وقد حذر تعالى من السماع للمرجفين في قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [سورة التوبة: 47].
وأبان القرآن الكريم لنا أساليب ووسائل الإعلام الكافرة عبر التاريخ في حرب الإسلام وأهله، التي تنوعت صورها ووسائلها وجمع بينها جميعاً رابط الكيد والعداء للإسلام، والكذب والخداع وتشويه الحقائق.
ولنتأمل قول الله - تعالى: {وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت: 26].
وكذلك قوله: {وَمِنَ الَذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاًتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [سورة المائدة: 41]، وكذلك قوله - جل شأنه: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 71].
وهذا الأمر الذي عالجه القرآن إبان الجماعة الأولى، وكشف فيه دهاء المكر الإعلامي اليهودي يصدقه الواقع المعاصر. فمثلا هناك أربع شبكات تلفزيونية تشكل في مجموعها أكثر من 95% من الأخبار العالمية والمحلية في أمريكا. وهذه الشبكات هي: سي. أن. أن (cnn)، وتملكها شركة تايم - وارنر التي يرأسها جيرالد ليفين (يهودي)، وشبكة أي. بي. سي (abc)، وتملكها شركة والت ديزني التي يرأسها مايكل إيزنار (يهودي)، وشبكة سي. بي. أس (cbs)، وتملكها شركة وستنجهاوس ويرأس الشبكة إيريك وابر (يهودي)، وشبكة أن. بي. سي (nbc) وتملكها جنرال إليكتريك، ويرأس قطاع الأخبار فيها أندرو لاك (يهودي).
وكل هذه الشبكات تدار حالياً من قبل اليهود، بشكل مباشر أو غير مباشر. وليس أدل على ذلك من ظهور وزيرة الخارجية للعدو الصهيوني مايقارب من ثمانية مرات في الإعلام الأمريكي أثناء القصف الغاشم لغزة.
و لكي نفقه مدى إدراك النبي صلى الله عليه وسلم لهذه القضية الخطيرة، نجده عليه الصلاة والسلام حينما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن اليهود نقضوا عهدهم، أرسل إليهم صلى الله عليه وسلم من يستطلع خبرهم، وأوصاهم إن هم رأوا غدراً ألا يصرحوا بذلك، وأن يلحنوا له لحناً حفاظاً على طمأنينة المسلمين، وإبعاداً للإرجاف في صفوفهم.
وإذا كان القرآن تحدث عن دور الإعلام المبطل، فإنه بين أثر الإعلام الحق في قوله تعالى:
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} [سورة الأنفال: 60].
وقد كان من عظيم فقه الخليفة الراشد أبي بكر الصديق لقضية الإعلام إصراره على خروج جيش أسامة بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعند تربص الأعراب -مما كان له الأثر الكبير في إحباط نوايا المتربصين بالمسلمين، وقالوا: "ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية والقوة اللازمة".
و لعل ما أجراه الله في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان أكبر دليل عملي، إذ يقلل كل فريق في أعين الآخرين. كما قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} [سورة الأنفال: 43-44].
وهذا كله مما ينبغي الاستفادة منه اليوم في قنواتنا وصحفنا ومنابرنا ومجالسنا ومواقعنا على الشبكة ضد العدو الصهيوني وفي إعطاء التصور الصحيح لقضية الإسلام والمسلمين الأولى قضية فلسطين.
بتصرف يسير
المصدر: طريق الإسلام
- التصنيف:
أبو قتيبة
منذ