الأبعاد الاجتماعية والحضارية لقوله: «يحتسب في صنعته الخير»
النظر إلى الأعمال باعتبارها مصدر أموال فقط هو مفهوم قاصر، مخالف للحديث، ومخالف لطبيعة تصور شمول العبودية لجميع أوجه نشاط المسلم.
عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (رواه أحمد وأصحاب السنن).أولا: أن النظر إلى الأعمال باعتبارها مصدر أموال فقط هو مفهوم قاصر، مخالف للحديث، ومخالف لطبيعة تصور شمول العبودية لجميع أوجه نشاط المسلم. وهذا يتضح لك لو نظرت إلى اكتساب المال من الحرام، فالحرام وسيلة لاكتساب المال لو كان هو المقصود فحسب، لكن الله تعالى حرمه، ولمّا حرمه تعالى علمنا أن ما في هذه الوسيلة من المفاسد الخاصة والعامة ما يزيد على مصلحتها، فما حرمه الله تعالى إما مفسدة خالصة أو راجحة، وما أباحه تعالى أو أوجبه فمصلحة خالصة أو راجحة.
إذن فبحثك عن وسيلة مباحة لاكتساب الرزق دليل على أنك تسعى لامتثال الأمر وتحقيق المصالح لك وللخلق. وعلى هذا يكون قصور نظرك على اكتساب الأموال أثناء رحلة العمل هو قصور وتضييع لمصالح وضوابط، وهذا يتضح بالنقطة التالية.
ثانيًا: أن اكتساب المال لا يكون لمجرد إشباع النهم، بل يكون لما أمر الله تعالى به من إقامة الحياة {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، وللإنفاق الواجب على من أمر الله بالإنفاق عليه من الوالدين والزوجة والأبناء، وللصدقة ونفع المسلمين بما يمتلك.
ثالثًا: إن احتساب الخير في الصنعة بمعى قصد الخير والمصلحة وقصد التعبد مبني على الأصل العام بشمول العبودية لجميع نشاط العبد؛ فإذا لاحظ العبد قصد الخير والتعبد واحتسب في صنعته الخير أثّر أمورًا مهمة:
1) دوام تذكر الآخرة والرغبة في اليوم الآخر وهو يكتسب المال ويحوزه، وهذا ينفي عنه جشع النفوس ونهم الامتلاك.
2) وهذا يعني النظر إلى ما يحقق للناس من المصالح بنظرةٍ وقصدٍ ملازم لقصد اكتساب المال، وهنا يكون القصد إلى تحقيق المصلحة دافعًا بنفسه للإنسان للخير ولهذا أثره في دوام تعلق القلوب بالله تعالى، وإتقان العلم والصنعة، والقيام بها على وجه الإحسان، والتخفيف من غلواء المادة والامتناع من ظلم الناس.
ولنضرب مثالا على هذا:
1) فالطبيب الذي يستهدف بالعمل الحلال امتلاك طرازًا متقدمًا لسيارة وامتلاك شقة معينة وشاليه في مصيف وتعليم لأولاده بمستوى منافس للزملاء والحفاظ على (كْلاس class) معين.. فهذه حالة ومثال على شخص لنيته وقصده أعراض وآثار يعاني منها الخلق: يتعامل مع الناس بطريقة مادية، لا ينظر إلى تخفيف ألم أو إنقاذ روح، أُجرة عمله مطردة يرفعها كل مدة بلا رحمة، يفتح طرقًا لا تتسم بالصدق ولا الرحمة لاستنزاف مزيد من الأموال، تعامُل بتعالي أو جفاف أو إهانة، لفْظ الأشخاص محدودي القدرة واحتقارهم.. بل احتقار العاملين في المهنة دون الطبيب.
أما قصد احتساب الخير فيجعل القصد امتلاك المال لأمر الله به لأن به قوام الحياة {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، طلب الاستغناء عن الخلق، وإقامة نفسه والنفوس التي يعولها.
وقصد الخير يجعله قاصدًا لإقامة الحياة بمهنته، حيث {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، قصد تنفيث الهم وتفريج كرب الخلق، قصد صناعة المعروف بتخفيف الألم عن المريض وعن من يهمه أمره من أم وأب وزوجة وولد وشقيق ومن يتعلم منه أو من يتلقى منه الإحسان. ولهذا أثره في اعتدال أجره ورحمته بمريضه وتعامله الحسن وتواضعه وقربه ولينه، وشدة إحسانه وإتقانه ومتابعته لتحديث المهنة وتطويره هو لها لتزداد قدرته وأثره الحسن، مع توكله على رب العالمين.
2) المحامي طالب المال وحده هو هذا الذي يسرق الأوراق ويبتز من ائتمنه ويتعامل بالجشع ويأخذ حقوقًا لموكله لم يعطه الشرع إياها، ولا يهمه الحكم بالشرع أم بالقانون الموافق له أو المخالف في أوضاع الضرورة تلك التي نحياها، ويدل موكله على تلفيق قضايا للخصم وابتزازه وإهانته وإذلاله وتدويخه بقضايا لم يرتكبها؛ فيقنن الفساد ويأكل بالحرام ويهيج الفتن ويزيد الشحناء ويملأ ساحات المحاكم بالمظلومين المحترقين بالمظالم.
وأما من احتسب الخير فيرفض غير شرع الله ابتداء، وفي حالة الضرورة التي نحياها يأخذ للناس حقوقهم التي أعطاهم الشرع إياها، ولا يقبل قضايا ظالمين أو آكلين مال حرام أو جواسيس صهاينة أو طغاة أو تجار مخدرات أو زناة، ليبرئهم، أو عقود ملاهي أو مراقص أو خمارات أو غير ذلك؛ بل ينصف المظلوم ويرد المظالم ويتوخى العدل ويحمل الأمانة ويحمي الضعيف من يتيم وأرملة وضعيف الحيلة! فتجد أثر احتساب الخير في هذا وفي عدم مغالاة الأجر إلا بالعدل والمعروف مع طلبه رزقه الذي أمره الله باكتسابه.
3) من صاحب المنصب البسيط في مؤسسة أو شركة إلى المنصب الكبير في وزارة أو رئاسة، فإذا طلب المال وحده يراه مكانًا مناسبًا للاحتيال ومعرفة كيف تُكتسب الأموال الحرام ويراه فرصة ذهبية لا تعوض! فيسرق وينهب ويدوس على الضعفاء، ويتَشرد ويُظلم ويُحرم عشرات الناس أو آلاف أو ملايين بحسب سلطة المنصب على يديه، ولو طُلب منه أن يبيع دينه وبلاده يفعل.
أما من احتسب الخير وعلم أنه يُصلح أمور العشرات أو الآلاف أو الملايين بقرار أو أمر أو كلمة ويفسد مثلهم كذلك بمثلها، ويأخذ أجر هؤلاء الملايين في الأولى ووزرهم في الثانية؛ فيجعل المنصب لإصلاح الخلق وتوصيل الخير لهم وإقامة مصالحهم ومنع الفساد عنهم وتفريج كروبهم وتنفيث همومهم، وينظر إلى إقامة أوضاع عامة تدوم بعده يصلُح عليها الخلق لأجيال قادمة.
4) حتى أقل المهن: من سباك، كهربائي، نجار، خياط، بائع ملابس، صيانة، فلاح، صانع، عامل نظافة، وغير ذلك- من احتسب الخير مع تعبّده باكتساب المال، فيتعبد أيضًا بتحقيق المصالح بمهنته فلن يعدم خيرًا عظيمًا ولن يعدم الناس منه الخير، ويجد مجتمعه ومَن حوله الخير في كل مكان تواجد فيه أمثال هذا.
على أمثال هذا تقوم الحضارة، تلك الحضارة الإسلامية الإنسانية الربانية، ويجب أن يتجه الوعظ والتعليم إلى زرع هذه المعاني وإبراز تلك الأبعاد من الأوامر الشرعية. لم يخرج شيء من الحياة عن دين الله تعالى لكن الشأن في فهم معاني ما أمر الله به ورسوله وفهم أبعاده ولوازمه: (يحتسب في صنعته الخير).
- التصنيف: