يبحثون عن لحظة ونبحث عن الحياة!

منذ 2015-08-17

إنهم يبحثون عن لحظة، ينفقون عمرهم في البحث عنها. بينما يبحث المؤمن عن الحياة نفسها ليولد من جديد

جرت عادة الفساق والفجار عمومًا، سواء داخل الملة، أو من خرج عنها- جرت عادتهم أنهم يبحثون عن لحظة، ينفقون عمرهم للوصول إليها؛ قد تكون لحظة لذة بطعام محصورة في المساحة من اللسان إلى مؤخر الفم لينتهي الإحساس واللذة وتأتي التخمة بعدها ويخرج قذَرًا بعد ذلك. وقد تكون هذه اللحظة في شبق جنسي، تضعف لذّته مع الوقت أو التكرار أو الإلف، ويعقبه ألم وقرف وقبح وإحساس بتلطخ الضمير وانحطاط المقصد، فيتمادى إلى البحث عن جديد، ويقول بعضهم: "الزنا لنا كشرب ماء مالح، لا طعم له لكنك تحتاج إلى المزيد"!

وقد يكون هذا المزيد بحثًا عن اللحظة في شذوذ أو في معاشرة حيوان! ثم تتضاءل اللحظة فيبحث عنها في توحش واقتران الجنس بالدم والقتل والسادية أو ما هو أحط! حتى ينتهي بقتل حقيقي أو بانتحار!!

قد تكون لذة اللحظة في مخاطرة يكون فيها على شفا الموت! وقد تكون اللحظة في رقص هائج وصخب يُصم وإنهاك جسدي حتى يقع في غيبوبة فتكون لحظة الغياب هي اللحظة المرجوة!

يبحث آخر عن لحظة انتشاء في خمر أو مخدر يعود بعدها إلى مرارة ما هرب منه، وعندما يفيق يبقى أمله أنه سيعود ثانية إلى لحظة الانتشاء عن قريب؛ فيعود وتتضاءل لذة اللحظة مع التكرار فتزداد الجرعة وتقل الاستجابة للانتشاء حتى ينهار الجسد وتُستنفذ قواه.

وقد تكون اللحظة في انتشاء بفوز دنيوي عاقل لكنه دنيوي لا يتعدى ثناء الناس وبعض الأضواء ثم يخلو إلى نفسه فلا يجد لها قيمة مستقلة إذ أن القيمة تحت الشهرة والأضواء متصلة بمجال محدد ولقاء محدد، لكن هو نفسه غير موجود.

قد تبقى اللحظة في تحصيل مال أو مسكن أو لقب أو منصب، ثم يعتاد عليه فتقل قيمة ما حصل عليه في نفسه ويظن من ينظر إليه أنه سعيد بينما هو يبحث عن نفسه ولم يجدها بعد!

قد تكون في ضحك هستيري أو مزاح ماجن أو سخرية من الخلق أو إذلال لمنافس أو إذلال لمخالف، بينما هم في داخلهم صغار وتافهون.

إنهم يبحثون عن لحظة، ينفقون عمرهم في البحث عنها. بينما يبحث المؤمن عن الحياة نفسها ليولد من جديد، فيجد نفسه في كل لحظة يعيشها فيعيش كمال كل لحظة ويخرج منها بأجمل ما فيها متصلا بأعلى وجود عاملا بأسمى قيم.

يعيش بين لذة الاتصال بالله تعالى والعلم به وتوجه القلب إليه، إلى لذة الصلاة، إلى لذة الإنفاق، إلى لذة الجهاد وهو باب قال عنه أكرم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أنه باب يُذهب الله تعالى به الهم والغم! ولا يعرف هذا إلا من جربه، ولو استشهد لم يمت بل كتب له الخلود وامتدت به الحياة!

إلى لذة الحج والعمرة، إلى لذة الأمر بأمر الله والنهي عن نهيه وإصلاح القلوب والإتيان بالقلوب إلى ربها تعالى. يجدها في معاملة ربه في زوجته وولده وجاره ورحمه، ووليه وعدوه.

يصبر لله وبه ومن أجله دائرًا مع أمره، وشاكرًا للنعمة مستشرفًا للمزيد والدوام في دار الخلد. الموت مصيبة لكنه بالنسبة له وصلة إلى الحياة الأبدية ولقاء المحبوب والخلوص من مكاره الدنيا ونهاية الامتحان.

يخرج من ضعفه بالتوكل والدخول في ولاية الله تعالى فينقله ربه من حال إلى حال فيصبح محمولا قد خفّت أثقاله (ووضعنا عنك وزرك) وتولى البصير الرحيم العليم أمرَه.

الحياة عنده ممتلئة، والحياة عنده حيوات كثيرة، وفي الآخرة يفرح دائمًا أبدًا بمستوى لو فرحه أحد الناس في الدنيا لحظة واحدة لمات ولم يتحمله، فلا تصبح لحظة بل الحياة كلها على مستوى لم يصل لها مخلوق ولو للحظة!

أرأيت إنهم يبحثون عن لحظة، ونحن نبحث عن الحياة ذاتها، وهي بين يديك؛ فهل حييت بعد؟

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 4
  • 1
  • 2,883

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً