واجب الجاه والسؤال عنه

منذ 2015-08-18

إن العالِم من يحفظ العلم ويدرسه، ويفهمه ويفقهه، ويعمل به في نفسه سرا وجهرا، ويعلّمه للخلق ويبثه بينهم، ويقوم به ويبينه في مواقف الفتن، فلا يرْغب الناس ولا يرْهبهم، ويدوم على هذا دالا على الله تعالى ومخرجا أمته من الفتن.. حتى يلقى الله تعالى، وحينئذ يكون إماما، وهذا معنى قوله تعالى: {وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

جاء في صحيح البخاري عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة»، فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: «يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة».
إنفاق المال واجب لمن يملكه حين يتعين عليه بفرض شرعي أو تعين طارئ لحاجة يجب عليه سدها.. وإعانة الغير بالبدن والجهد صدقة لمن يقدر عليه، والكلمة الطيبة صدقة، وهذه في متناول كل مخلوق عنده نعمة الكلام، وإزالة الأذى صدقة لمن قدر عليه..
هذه الأمور المنصوص عليها مطلوبة من جانب، وهي تنبيه على جنس ما يملك الإنسان من جانب آخر..
فكما أن هناك واجبا في المال والبدن واللسان، بل والكف عن الأذى والإمساك عن الشر.. فهناك واجب في الجاه.
وسواء كان الجاه بسبب العلم أو المنصب أو شهرة؛ فهذا مما يوجب على صاحبها حملا أعظم وواجبا أكبر، وموقفُه أمام أمتِّه أحرج وأمام ربه تعالى يوم القيامة أعظم ومسؤوليته أضخم..
فما يجب على الرجل العادي؛ غير ما يجب على العالِم أو المسؤول، وكلما عظم تأثير الشخص زادت مسؤوليته.
وهنا يجب أن يعلم العالِم أن صمته وقت وجوب البيان ليس نجاة..
ويجب أن يعلم أن من فتح له القلوب وأشاع في الناس ذِكره، وأدخل إلى قلوب الخلق حسن الظن به، وطوى عنهم مساوئه وأجرى له جاها بين الخلق ترمقه العيون؛ ويتأسى به الناس؛ ويجعلونه علامة دالة على الحق.. يحتجون به في الأفعال؛ ويشيرون أن جانبه هو ركن الحق قد التزمه ولولا أنه يعلم أنه الحق لما ركن اليه..
فعظّم تعالى مسؤوليته حيث جعل الناس يستدلون ـ لحسن ظنهم به ـ بموقفه على الحق وجانبه، بل ينتظر الناس بيانه، وتزن كلمته عند الناس كلمات الألوف من غيره.. وهي مسؤولية أثقل من الجبال.
فإن كان وراء الصمت خوف فلا يليق؛ إذ لو خاف على حياته على حساب الحق فلماذا حمل العلم؟ ومتى يعلم الناس وقد وصلتهم رسالة تدل على الحق في غير موضعه، فيضيع الحق بذلك ويحتمي بهم الباطل..!
أما لو كان المانع كِبر أو الْتواء أو ادعاء الحكمة والتعالي على الحق وأهله فالمسكين في خطر.. أما إن كان في انتظارٍ ليقوم بداهية ويدعم الظلم شراء أو خوفا؛ فيا للداهية.
فإن ترك حرب الدين  تمُّر، ويمر معها نشْر الإلحاد والتنصير والإباحية وتزوير التاريخ وقيام غلاة الشيوعيين والعلمانيين بتطوير وتزييف الخطاب الديني الشرعي ليصبح ـ كما يريد العدو ـ ملةً أخرى..
بينما من ينتظر منه الخلق كلمة الحق والموقف الجريء  وترجمة الخوف من الله وأداء الأمانة إلى واقع عملي، هو ساكت في الجانب الآخر فعندها يقال له كما قال هذا العالِم ينصح ابنه:

وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ .. فليْتك ثم ليتْك ما فهمتا

إن العالِم من يحفظ العلم ويدرسه، ويفهمه ويفقهه، ويعمل به في نفسه سرا وجهرا، ويعلّمه للخلق ويبثه بينهم، ويقوم به ويبينه في مواقف الفتن، فلا يرْغب الناس ولا يرْهبهم، ويدوم على هذا دالا على الله تعالى ومخرجا أمته من الفتن.. حتى يلقى الله تعالى، وحينئذ يكون إماما، وهذا معنى قوله تعالى: {وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
ولذلك فالعلماء قليلون والأئمة منهم أقل؛ فبهم يصلح الله تعالى آلاف الخلق، يستنير الناس بهم في ظلمة الفتن وضباب الشبهات وتلاطم الشهوات.
فإن ترخص عالِم خوفا فمتى يعلم الناس؟! أما إن باع فأي مصيبة تلك؟ وأما إن كان لا يفهم حقيقة الأمر وحكْم الله فيه؛ فالعيب على من ظنه عالما، والعيب عليه أن غرّ من نفسه وليس بعالِم؛ فأورد نفسه الموارد.
فليعلم امرؤ أعطاه الله تعالى جاها من العلم، وكذا من أعطاه جاها من منصب أو فنّ أو شعر أو منصب سياسي أو غيره أن الله تعالى عظّم مسؤوليته وسؤاله وحسابه، في قلوب الخلق في الدنيا وتوجيه اللوم والعتاب على الصمت أو التأخر، وكذلك في الآخرة يوم لقاء رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا يخادع امرؤ نفسه.
وفي الجانب الآخر فقد عظّم الله تعالى الأجر بقدر ما يُصلح صاحب الجاه، سواء في قلوب الخلق أوتعظيم الأثر بتقدمه لبيان الحق ورفض الظلم، ثم له أجره ونوره وشرفه يوم لقاء الله تعالى.
فكما أن هناك سؤالا عن المال ومصدره وإنفاقه، فللجاه سؤال عن سببه واستعماله.. ولن يحرك أحدا إلا الخوف من الله تعالى؛ وهو عندئذ المقياس، والموقف هو المؤشر عليه؛ فإن كان هناك خوف منه فستجد ما يسرّك، وإلا فاعلم أنه جعل فتنة الناس كعذاب الله.. والله المستعان.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 3,472

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً