وليد سيف ساحر الفن والتاريخ
مقال عن تزييف التاريخ الإسلامي في الأعمال الدرامية.
لو كان يخلد قـوم بمجدهمو *** أو ما تقدم من أيامهم خلدوا
أو كان يقعد فوق الشمس من كرم *** قـوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
تحمل المسلسلات التاريخية طابعًا خاصًّا، فهي ليست قصة من الخيال؛ بل ولا لها "مجرد علاقة" بالواقع، إنما هي قصة حدثت بالفعل، ويصير نقلها إلى الدراما والحكاية المصورة تلفزيونيًّا أمرًا يتطلب -فوق صنعة الفن والسيناريو- أمانة علمية ومجهودًا بحثيًّا.
وبعد الأمانة العلمية والمجهود البحثي ستوجد عدة ثغرات تاريخية؛ فالكتابة عن أحداث وقعت قبل ألف سنة ليس كالكتابة عن أشخاص ماتوا قبل سنين، فالذي سيكتب فيلمًا أو مسلسلاً عن عبد الناصر أو السادات أو قاسم أمين أو أسمهان أو أم كلثوم يجد أيضًا ثغرات وفجوات تاريخية، ولكنه لن يعاني كمن يكتب عن القديم، فإن لكل الشخصيات الحديثة حواريين ومعجبين اجتهدوا بحثيًّا فملأوا تلك الثغرات بمجهود بحثي وأكاديمي، فصار على الكاتب مهمة نقل هذا التاريخ -المكتمل والمتناسق إلى حد كبير- إلى ساحة الدراما، ثم أضف إلى هذا قرب الزمان، ووجود المواد المصورة والفيلمية.
ليس هذا متيسرًا في حال الكتابة عن تاريخ قديم؛ ففضلاً عن أن كثيرًا من كنوز التراث الإسلامي أُغرقت أو أُحرقت أو أُتلفت على يد همج ليس لهم في الحضارة نصيب، في اجتياحات التتار أو حروب الصليبيين في المشرق، وخصوصًا حين طرد المسلمون من الأندلس -وهذا بدوره أضاع كتبًا كثيرة تحمل لا شك تفاصيل تاريخية مهمة عن التاريخ الإسلامي عمومًا، وتاريخ الأندلس خصوصًا- فضلاً عن هذا؛ فإن القدامى لم يكونوا مولعين بالتأريخ اليومي للحوادث، الذي بدأه -على حد علمي- الجبرتي في تاريخه؛ بل كانوا يؤرخون بالسنين، فطبيعة العصر وقتها لم تكن بالسرعة التي نعرفها الآن، ووصول الأخبار نفسها كان يستغرق أيامًا وربما شهورًا. قد تمسك بالكتاب القديم فلا تجد في بعض السنين من الحوادث المهمة شيئًا، أو قد يكون فيها حدثًا أو اثنين فقط يراهما المؤرخ مستحقين للتأريخ. وكان البعض من المؤرخين يؤرخون بـ"التراجم"، حيث يجعل الشخصية التاريخية هي المحور، فيؤرخ لها ويروي التاريخ من خلالها.
وكلما أردنا صناعة تاريخ متماسك ومتقصٍّ للتفاصيل؛ كانت حاجتنا إلى مجهود بحثي أكبر وأعظم. وقد قام بهذا كثير من المؤرخين المسلمين المُحْدَثين؛ فيمكننا أن نجد تاريخًا مفصّلاً للحروب الصليبية؛ مثلاً: في موسوعة الدكتور سهيل زكار (موسوعة الحروب الصليبية - طبعت في خمسين مجلدًا)، وكذلك نجد أفضل تأريخ لمرحلة الأندلس في موسوعة الدكتور محمد عبد الله عنان (دولة الإسلام في الأندلس). وهذه مجهودات بحثية ضخمة جمعت أشتات التاريخ المتفرق من المصادر العربية والأجنبية وجعلتها في كتاب واحد.
ولكنها -وحدها- لا تغني في رصد كل جوانب الحياة التاريخية، ومنها الجانب الأدبي مثلاً، وهو جانب لا يستغني عنه كاتب الدراما المجتهد؛ بل هي أيضًا لا تجيب عن كل الأسئلة إذا نظرنا إليها من منظور من سيحكي قصة مصورة، ففي التاريخ قد تختفي شخصيات فاعلة في خضم الأحداث ولا يعرف على وجه الدقة كيف كانت تلك النهاية، وكذلك تولد شخصيات فاعلة ولا يعرف على وجه الدقة كيف كانت البداية.
إذن.. رصد التاريخ القديم بشكل متماسك هو مجهود بحثي وحده.
ثم محاولات رصد الجوانب الأخرى التي لا علاقة لها -بشكل ما- بالتاريخ السياسي مجهود آخر، ويتطلب دون شك الرجوع إلى المصادر القديمة أو الدراسات الحديثة المتخصصة في هذه الجوانب.
ثم الإجابة على هذه الأسئلة التي لابد ستثار إذا انتقلت الحكاية إلى الصورة، ومن ثم لا بد من الإجابة عليها مجهود ضخم آخر، وهو هنا مجهود يتحمله كاتب القصة بالكامل -إن لم يكن في التاريخ إجابة واضحة- ويتحمل مجهودًا أكبر إن اختلفت الروايات التاريخية في بعض الإجابات، أو اختلفت تحليلات المؤرخين وإجاباتهم؛ هنا يوضع الكاتب على محك كبير.
فإما أن يهرب من الحادثة أساسًا، وهذا كالذي خرج من الدنيا لا له ولا عليه، وإما أن يبذل مجهودًا عقليًّا وبحثيًّا في اختيار وتفسير أقرب الروايات إلى رؤيته لتلك الفترة، وهنا يصير مجهوده هو الحاكم عليه؛ فسيرضى عن اجتهاده بعض الناس وسيغضب آخرون، وهذا طالما التزم بالصحيح من التاريخ وتحركت تفسيراته في إطار ما هو ثابت يكون أفضل الحالات، وإما أن يدع كل هذا جميعًا ويبحث عن "حبكة" درامية ولو خرجت عن إطار "التأريخ" إلى إطار "التأليف" (وهو في الحقيقة تزوير وتزييف)؛ وهذا أسوأ الجميع، وغالبًا ما تكون هذه المسلسلات فضيحة علمية. وشخصيًّا أرى أنه لا يجب أن يسمح بعرضها، لا من قبيل تقييد الإبداع؛ بل من قبيل احترام المنهج العلمي.
فإذا دخلنا إلى تفاصيل القصة التاريخية، سيجد الكاتب نفسه على محك آخر، وهو تحليل وتفسير الشخصيات الفاعلة، شخصيات الأبطال، وشخصيات الأقزام، وكذلك شخصيات الخونة.
والبشر ليسوا خيرًا خالصًا، وليسوا شرًّا خالصًا كذلك. ومنهم من ينتقل من البطولة إلى الخيانة، ومنهم من ينتقل من الخيانة إلى البطولة. وقد صار مملاًّ وكئيبًا وفضائحيًّا أن تتحول المسلسلات التاريخية إلى شخصيات هي إما خيرٌ مصفى أو شرٌّ مكثف؛ فإذا وجدت شخصية من كان بطلاً ثم تحول إلى الخيانة فلابد حينئذ أن تفسر على أنه كان متآمرًا منذ أول لحظة ويصطنع البطولة، كما تفسر شخصية الخائن الذي تحول للبطولة بأنه بطل منذ أول لحظة، ولكنه "بذكائه" كان يقف منحازًا للعدو ثم سيختار اللحظة المناسبة للانقلاب عليه.
حياة البشر ليست بهذه السذاجة والسطحية، ولم تكن كذلك يومًا.
وهذا ما يجعلنا نُصِرُُّ ونؤكد على أن يُكتب التاريخ كما نقلته المصادر التاريخية التي تَوَفَّر عليها باحثون مجتهدون، فقدموا أفضل ما استطاعوا من مجهود لاحتواء تفاصيل الفترة التاريخية، وألا يُترك هذا لكاتب يجتهد وحده دون امتلاك الأدوات، فإن كان يمتلك الأدوات البحثية فربما اضطرته ظروف الإنتاج إلى "سلق" المسلسل (وهذا لا يغفر له).
وخلاصة القول: أنك ترى تاريخًا حيًّا نابضًا، ورسمًا بديعًا للشخصيات بعيدًا عن حدية الأبيض والأسود، وحدية الخير والشر، وحدية البطولة والخيانة، وهذه النقطة تحديدًا -في نظري- أكبر مزية في مسلسلات الدكتور وليد سيف عن غيرها، حتى إننا كثيرًا ما نختلف في التقييم -أصدقائي وأنا- لبعض الشخصيات، تمامًا مثلما نختلف -في الواقع- في تقييم شخصيات معاصرة. ذلك أننا رأينا تاريخًا يقدم صورة أقرب إلى المتكاملة وأقرب إلى البشرية؛ حيث الأخطاء لها أسباب ولها مبررات ولها تفسيرات، وكذلك البطولة قد تكون سمعة ومفخرة وليست عملاً خالصًا لوجه الله والأمة.
القصد أن يقدم التاريخ كما هو، لا تاريخ المناقب ولا تاريخ المثالب، حتى نعمق بطولاتنا ونستفيد من أخطائنا، وهي بطولات بشرية ولهذا تستحق التعظيم، وهي كذلك أخطاء بشرية؛ ولذا تستحق التقويم. ويظل التاريخ الإسلامي أفضل تاريخ بشري، ويظل المسلمون حقًّا وصدقًا أعظم أمة صنعت حضارة إنسانية أخلاقية لم تتكرر حتى يومنا هذا، فالمنهج العلمي النزيه هو من يحكم بهذا ويُصَدِّق عليه، وشهادة التاريخ هذه تُقَدَّم لمن لم يؤمن بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
-----------
الكاتب: المؤرخ: محمد إلهامي.
- التصنيف:
- المصدر: