وصايا قبل تناول دواء القلوب - (12) أنفق يُنفق عليك

منذ 2015-09-03

إذا وفَّقك الله لطاعته، وحفظك من مواطن الزلل، فاعلم أن لهذه النعمة تبعات، وهذه التبعات هي شكر هذه النعمة، وهذا الشكر يتمثل في دعوة الآخرين للنجاة

إن كل دواء سيأتي ذكره في باب جرعات الدواء إذا صاحب تعاطيك له دعوة غيرك إلى تناوله والأخذ به؛ كان ذلك عاملاً مساعداً على تعظيم أثر الدواء على قلبك أيها الداعي ومضاعفة مفعوله وأثره، فإذا وفَّقك الله لطاعته، وحفظك من مواطن الزلل، فاعلم أن لهذه النعمة تبعات، وهذه التبعات هي شكر هذه النعمة، وهذا الشكر يتمثل في دعوة الآخرين للنجاة، أما كفر هذه النعمة فهو الاغترار بحالك، وعدم الاكتراث بنجاة من حولك، وعندها قد تنزع منك نعمة الهداية ، فرُبَّ جيد لا يليق به العقد فيُخلع، ورُبَّ أرض أجدبت بعد الزرع فتُهجر!

الدعوة كذلك تزيد مناعة الجسم الإيمانية وتحميه من السقوط في المستقبل، فيدعو الداعية نفسه وهو يدعو غيره، ويعظ قلبه مع قلوب مستمعيه، بل إن من أصابه المرض فترة تصبح فرصته أكبر في شفاء غيره وهدايته، وكيف لا وقد عرف الداء بنفسه وعانى منه بقلبه، ثم حافظ على جرعات الدواء ومر بكل مراحل الشفاء حتى برئ.

قال ابن القيِّم مبرهنا ومؤكِّداً: "يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطبيب الذي عرف المرض مباشرة وعرف دواءه وعلاجه أحذق وأخبر من الطبيب الذي إنما عرفه وصفًا؛ هذا في أمراض الأبدان وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها".

وهذا معنى قول بعض الصوفية  "اعرف الناس بالآفات أكثرهم آفات"، وقال عمر بن الخطاب: "إنما تُنقض عرى الإسلام عروةً عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهادًا لأعدائه، وتحذيراً من خلافه لكمال علمهم بضده، والمقصود أن من بُليّ بالآفات صار من أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه وعلى من استنصحه من الناس ومن لم يستنصحه ".

والتائب من الذنب أصدق لهجة في الدعوة وأقوى حجة في الإقناع لأن من ذاق الحلاوة كره المرارة، بل حذَّر غاية التحذير منها لأنه سبق وأن اكتوى بنارها من قبل؛ فصار يصيح في الطرقات يحذِّر الغافلين وينذر المغترين، وصدق سهل بن عبد الله حين جزم قاطعا بأنه: "لا يعرف الرياء إلا مخلص، ولا يعرف النفاق إلا مؤمن، ولا يعرف الجهل إلا عالم، ولا يعرف المعصية إلا مطيع".

العدو الصديق!
يا صاحب المروءة، يا أبيّاً لا يقبل الضيم، يا من استزله الشيطان ببعض ما كسب، ساعَدَك شيطانك من حيث أراد أن يغويك ، وهداك من حيث أراد أن يضلك، وثقَّل ميزان حسناتك من حيث قصد إثقال كفة السيئات، فإن "القلب يكون ذاهلاً عن عدوه معرضاً عنه مشتغلاً ببعض مهماته؛ فإذا أصابه سهم من عدوه استجمعت له قوته وحاسته وحميته، وطلب بثأره إن كان قلبه حراً كريماً؛ كالرجل الشجاع إذا جُرِح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجًا طالباً مقدامًا، والقلب الجبان المهين إذا جُرِح كالرجل الضعيف المهين إذا جُرِح ولّى هاربًا والجراحات في أكتافه، وكذلك الأسد إذا جُرِح فإنه لا يطاق، فلا خير فيمن لا مروءة له يطلب أخذ ثاره من أعدى عدوه، فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدو أعدى له من الشيطان، فإن كان قلبه من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جدَّ في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه".

وصدق محمد إقبال وهو يخلب الألباب بعباراته، ويُدمي القلوب بإشاراته ويقول:

كم عدوٍّ لك في الحق صديق *** أنت بالأعداء ذو غصن وريق
يوقِظ الخصم قواك الهاجدة *** مثل ما تُحيي المواتَ الراعدة

ومن هنا أتوجه بهذه النصيحة للكل، المرضى والأصحاء، والضعفاء قبل الأقوياء، والسائرين في بداية الطريق والبالغين منتهاه، والمتمتعين بالعافية الإيمانية والذين لا يزالون يتعثرون في حبائل الشيطان، وأدعوهم جميعًا للبذل والعطاء والكرم والسخاء، وآمرهم بما أمرهم به ابن عطاء الله السكندري حين قال: "لينفق ذو سعة من سعته: الواصلون إليه، ومن قُدِر عليه رزقه: السائرون إليه".

رحم الله ابن عطاء، فكلماته كالقمر في الضياء، لكن الشمس أضوأ، والشمس هنا هي حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم: «بلِّغوا عني ولو آية».

أخي .. كن ذكياً وأقبل على ما ينفعك واعتبر هذه الوصية دعوة إلى تكثير أجرائك من إخوانك اليوم، ليعملوا لك ولحسابك لتحصد أنت من ورائهم الخير والثواب والربح والجنة.

قال أحمد بن حرب: "مثل الذي يعلِّم الناس الخير ويرشدهم إليه مثل من استأجر أجراء يعملون له بأبدانهم وأموالهم الليل والنهار في حياته وبعد مماته".

وهل تاجر أخروي ورابح رباني مثل العالم المجاهد عبد الله بن المبارك؟! الذي لم يضيِّع لحظة واحدة في غير خير وبر، ولا خير مثل الدعوة إلى الله، ولا بر أبرَّ من إنقاذ الناس من الضلال، وذلك لما حضرت الوفاة عبد الله بن المبارك جعل رجل يُلقِّنه: قل: "لا إله إلا الله"، فأكثر عليه، فقال: "إنك ليس تُحسن، وأخاف أن تؤذي بها رجلاً مسلماً بعدي، إذا لقنتني فقلتُ: لا إله إلا الله، ثم لم أُحدِث كلامًا بعدها فدعني، فإذا أحدثتُ كلامًا بعدها فلقِّنّي حتى تكون آخر كلامي".

وتذكر أنك:
"إن لم تُزِل الفخ سقطت فيه" ؛ بمعنى أنك إن لم تُزِل أسباب التعثر وقعت، وإن لم تقطع أسباب الهلاك هلكت، وإن لم تسع في القضاء على موارد العَطَب .. أُخِذتَ ، وإن سمحت للمنكرات أن تنتشر حولك فسيعم الوباء الذي سينالك رذاذه يومًا ما ولا بد.

المصدر: كتاب جرعات الدواء

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 0
  • 0
  • 2,337
المقال السابق
(11) السر الدفين
المقال التالي
(13) دواء الملول

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً