جرعات دواء القلوب - (3) الجوع الشافي

منذ 2015-09-03

فوائد الصوم العلاجية وأهمية في تزكية النفس وتطهيرها وكيفية الثبات عليه.

فوائد الصوم العلاجية:
ومن أعظم آثار الصوم شأناً وأنصعها برهانًا وأعلاها خطرًا:

1-الحرية:
أفضل ما في الصوم أنه يحرِّر الإنسان من سلطان غرائزه وقيود شهواته، ويتيح له أن ينطلق من سجن جسده، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويلتحق بالملائكة في السمو إلى المستوى الإيماني الرفيع، وصون حواسه عن الشرور والآثام، إنه كسر القيد الثقيل وتنسم نسائم الحرية، وهل الحرية إلا حرية القلب!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنَّ أسْرَ القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعْبِد بدنُه واستُرِقَّ وأُسِر لا يبالي إذا كان قلبُه مستريحاً من ذلك مطمئناَ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص؛ وأما إذا كان القلب -الذي هو مَلِك الجسم- رقيقاً مستعبداً متيَّماً لغير الله؛ فهذا هو الذلُّ، والأسرُ المَحْض، والعبودية الذليلة لما استعْبد القلب، ولو كان في الظاهر ملكَ الناس؛ فالحريةُ حرية القلب، والعبودية عبودية القلب".

فلينزل هذا الدواء على قلبك نزول الماء من الظمآن كما أوصاك بذلك رسول الله: «ألا أُخبِركم بما يذهب وَحَر الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر».

ووَحر الصدر: غِشُّه ووساوِسُه، وقيل: الحِقْد والغَيْظ والعَداوَة، وقيل: أشدُّ الغَضَب، وهي كلها أمراض قلوب يقضي عليها الصوم كما أخبر بذلك الحبيب.

ويُقال إِن أَصل هذه الكلمة من الدُّوَيْبَّة التي يقال لها الوَحَرَة ، فشبَّه النبي العداوة والغلَّ ولصوقها بالصدر بالتصاق الوَحَرَةِ بالأَرض، ومع هذا يقضي الصوم على كل هذا، وذلك في ثلاثة أيام فقط إذا حافظت عليها.

وأشار إلى فاعلية هذا الدواء مقارنة بغيره من الأدوية في قوله لأبي أمامة: «عليك بالصوم ، فإنه لا مِثْل له» وفي رواية: «لا عدل له».‏ ‌إنه قطع الطريق على الشيطان ومباغتته وإتيانه من حيث لا يحتسب.

أما عن سِرِّ فاعلية الدواء وسبب قوته فقد أوجزها أبو قدامة في سطرين اثنين فحسب حين قال: "أنه قهر لعدو الله، لأن وسيلة العدو الشهوات، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب، وما دامت أرض الشهوات مخصبة، فالشياطين يتردَّدون إلى ذلك المرعى، وبترك الشهوات تضيق عليهم المسالك".

وهذا ما شاهده أحمد بن أبي الحوارى أمام عينيه حين قال: خرجت مع أبي سليمان الداراني، فمررنا على زرع، وإذا طائران يلقتطان الحب، فلما شبعا أراد الذكر الأنثى، فقال: "يا أحمد .. انظر فيما كان؛ لما شبعا دعته بطنه إلى ما ترى".

ولأن الروح سماوية علوية ، والجسد أرضي سفلي، وكانت منافذ الروح تُغلق بالشبع وملء البطون، وتُفتح بالصوم ومكابدة الجوع، ذلك أن الصوم يُضعف سيطرة البدن على الروح، فتتحرر تلك النفحة العلوية في الإنسان من براثن الجسد والشهوات المقيِّد، وتنتصر على ما كان يغلبها في الماضي، ولسان حال القلب يقول: "وانكسر القيد يا روحي وحانت ساعة النصر".

2- التدريب التربوي:
ومن آثار الصوم كذلك التغلب على نزعات الشهوة، واتخاذ الكف عن الطعام والشراب وسيلة تدريبية إلى كفِّ اللسان عن السب والشتم والصخب، وإلى كفِّ اليد عن الأذى والبطش، وإلى كفِّ البصر عن النظرة الخائنة، وإلى كفِّ السمع عن الإصغاء للغيبة والنميمة وأي قول يُرضي الشيطان ويغضب الرحم، ولهذا قيل: "إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلُّها".

إن من أهم فوائد الصوم كذلك تيقن المريض بإمكانية الشفاء وعدم استحالته، والاطمئنان إلى وجود القدرة النافذة والإرادة المُنجِزة طوال ساعات الصوم، مما يجعل الاستمرار على الاهتداء أسهل والمداومة ممكنة إذا وُجِدت النية.

يقول ابن القيِّم مبيِّنا الحقيقة السابقة: "وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات".

ولهذا جاء رمضان جرعة إجبارية سنوية يتناولها كل مسلم، لينال الجميع من هذه الجرعة الحد الأدنى والفائدة الأساسية المرتجاة فضلا من الله ونعمة.

3- صناعة النفس الذلول:
كما تجمح الدابة أحياناً فتهوي بصاحبها، كذا تجمح النفس أحيانًا كثيرة فتهوي بصاحبها إلى مهاوي سحيقة من غضب الله وسخطه، وتفور كما تفور القِدر إذا استجمعت غليانا، لذا ألزمنا الله سبحانه بالصوم حتى إذا جاع العاتي منا وظمئ ذلَّت نفسه، وتصدَّع كبره وفخره، وأحس أنه -مهما أوتي- فهو مسكين تُقعده اللقمة إذا فُقدت، وتُضعفه جرعة الماء إذا مُنعت، وهنالك ينزل من عليائه ويخفِّف من غلوائه، ويعترف بفضل الله عليه حتى في كسرة الخبز ورشفة الماء، ومتى عرف فضل الله تواضع، ومتى تواضع استقام، ومتى استقام شُفي مما عاناه من بغي وعتو واستطالة وعلو.

إنها القوة المكتسبة من الصوم ولو كنت في أدنى درجات القوة، وقهر الضعف ولو كنت غارقًا في لجّة الضعف، واسمع خبر إبراهيم بن هانىء أبي إسحاق النيسابوري واستنشق عبيره واملأ به صدرك؛ حيث نقل عن إمامنا مسائل كثيرة وكان ورعًا صالحًا صبورًا على الفقر قال ابنه إسحاق: "كان أحمد بن حنبل مختفياً ها هنا عندنا في الدار فقال لي : ليس أطيق ما يطيق أبوك يعني من العبادة!".

وداوم على هذا الدواء حتى لانت له واستسلمت على الدوام حتى وهو في أضعف حالاته وهو يحتضر، فقد زاره ملك الموت وهو صائم، فدعا إبنه إسحاق حين حضرته الوفاة فقال: "هل غربت الشمس؟" قال: "لا"، ثم قال: "يا أبت! رُخِّص لك في الإفطار في الفرض وأنت متطوع"، قال: "أمهل"، ثم قال: "لمثل هذا فيعمل العاملون"، ثم خرجت نفسه.

4- قتل بذور الشر:
قال ابن القيم: "وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارحَ إلى المعاصي، ويثقلُها عن الطاعات، وحسبك بهذين شرًا، فكم من معصية جَلَبها الشبعُ، وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونها؛ فمن وُقِي شرَّ بطنه؛ فقد وُقِي شراً عظيما، والشيطان أعظم ما يتحكَّم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام".

إلى أن قال رحمه الله: "ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز جل، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعةً واحدةً جَثَم عليه الشيطانُ، ووعده، ومنَّاه، وشهَّاه وهام به في كل وادٍ؛ فإن النفس إذا شبعت تحرَّكت، وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت".

لقد أثبت العلماء في أحدث أبحاثهم أن الصوم له دور فعال في كبح الرغبة الجنسية، وقد ثبت هبوط مستوى هرمون الذكورة هبوطاً كبيراً أثناء الصوم الدائم، بل وبعد إعادة التغذية بثلاثة أيام، ثم ارتفع المعدل عالياً بعد ذلك، مما يؤكِّد إعجاز السنة النبوية والتشريع الإلهي في عصر العلم.

إنها الحماية الأكيدة والدفاع المتين والوقاية من كيد الشيطان ، والتي بدورها تؤدي إلى الوقاية من النيران.
قال رسول الله: «الصيام جُنَّة، وهو حصن من حصون المؤمن».

أخي .. كيف تجمع مع النوم الشبع؟ إن لم يكن قيام فصيام، في متناول يديك شفيعان؛ إن فاتك الأول فعليك بالثاني، وإلا لم تجد من يقف بجوارك يوم لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه.

5- دواء الدنيا والآخرة:
قال مالك بن دينار لحوشب: "لا تبيتن وأنت شبعان، ودع الطعام وأنت تشتهيه"، فقال حوشب: "هذا وصف أطباء أهل الدنيا". قال: ومحمد بن واسع يستمع كلامهما ، فقال محمد: نعم ، ووصف أطباء طريق الآخرة، فقال مالك: "بخ بخ للدين والدنيا".

وقد كان أسلافنا الكبار ينهون عن كثرة الأكل؛ ويقولون: المعدة بيت الداء، وقد قال لقمان لابنه: "يا بني! إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة"، حتى حاتم الطائي قال وهو في الجاهلية:

فإنَّك إن أعطيتَ بطنك سؤله *** وفرجَك نالا منتهى الذمِّ أجمعا

وقد غدت السمنة داء العصر، وهي تنتج إما عن إسراف في تناول الطعام، أو الضغوط النفسية أو الاجتماعية مما يؤدي إلى الإصابة بالسمنة، والصوم يقضي على العاملين معا ويولد الاستقرار البدني والنفسي؛ نتيجة الجو الإيماني المحيط بالصائم والذكر والعبادة، وتهذيب النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقة النفسية توجيهاً إيجابياً نافعاً.

مضاعفات القوة
من أراد أن ينال من هذا الدواء أعلى درجات الشفاء وأن يسبق من تناول منه نفس الجرعات معه فعليه بالآتي:

1- الصوم في الحر الشديد:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي وابن رواحة".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف: "يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه"، فقال أبو موسى: "أخبرنا إن كنت مخبرًا"، قال: "إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش". قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حراً فيصومه.

إن المتسابق الفذ والمريض الذي يريد تحصيل أعلى درجات الشفاء هو الذي يقتدي بأبي موسى، فيختار اليوم شديد الحر فيصومه، لكي يسبق غيره ويفوق سواه، ولهذا سمى الحسن البصري أهل الصيام في أيام الحر: (الرعيل الأول) لأنهم تقدَّموا صفوف الأتقياء وسبقوا صفوة الأنقياء، فعن الحسن أنه عُرِض عليه طعام فقال: "إني صائم"، فقيل له: "في هذا الحر الشديد!" قال: "إني أحب أن أكون في الرعيل الأول".

بل كانوا يتمنون الحر الشديد ليحصدوا الثواب الجزيل المضاعف، ومن ذلك ما حدث مع عامر بن عبد قيس لما سار من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى ، فلما أكثر عليه قال: "حاجتي أن تَرُدَّ عليَّ من حَرِّ البصرة لعل الصوم أن يشتد عليَّ شيئاً، فإنه يخِفُّ عليَّ في بلادكم".

ومما يعين على هذا الصوم أن يفهم أنه يصبر على العطش فيه ليوم عطش أكبر، ويتحمَّل مشقته ليوم تشيب فيه الولدان، وليتعلم من الأعراب الذين صاروا أساتذة الدنيا بحسن صلتهم بالله وشدة يقينهم بوعده الذي لا يُخلَف وكرمه الذي لا يوصف، واسمع تقتدِ:
خرج الحجاج ذات يوم فأصحر وحضر غداؤه فقال: "اطلبوا من يتغدَّى معي"، فطلبوا، فإذا أعرابي في شملة، فأُتي به، فقال: "السلام عليكم". قال: "هلُمَّ أيها الأعرابي".
قال: "قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته".
قال: "ومن هو؟".
قال: "دعاني الله ربي إلى الصوم فأنا صائم".
قال: "وصومٌ في مثل هذا اليوم الحار!".
قال: "صمت ليوم هو أحرُّ منه".
قال: "فأفطر اليوم وصُمْ غداً".
قال: "ويضمن لي الأمير أني أعيش إلى غد؟".
قال: "ليس ذاك إليه".
قال: "فكيف تسألني عاجلاً بآجل ليس إليه سبيل؟".
قال: "إنه طعام طيب".
قال: "والله ما طيَّبه خبَّازك ولا طبَّاخك".
قال: "فمن طيَّبه؟" قال: "العافية".
قال الحجاج: "تالله ما رأيت كاليوم، أخرجوه عني".

فإن كان قلبك قاسياً ولم يرغِّبك ما سبق في تحمل حر هذه الأيام لم يبق في جعبتي إلا خبر مسروق الذي ذكَّرنا فيه بحر يوم القيامة، والطريق إلى تلطيف الجو فيه، فعن الشعبي قال: غَُشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم، فقالت له ابنته: "أفطر". قال: "ما أردت بي؟!" قالت: "الرفق". قال: "يا بنية إنما أطلب الرفق لنفسي في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة".

ومثل هذا الأعرابي في وفائه ومثل مسروق في صبره كان حسين بن رستم الأيلي الذي دخل على قوم وهو صائم فقالوا له: "أفطر"، فقال: "إني وعدت الله وعدًا، وأنا أكره أن أُخلِف الله ما وعدته!".

2- رفع عملك أثناء صومك:
إذا جمع المرء فضيلة الصوم في يوم شديد الحر مع فضيلة العمل الصالح، ولم تُقعِده شدة الحرارة ومكابدة العطش عن أعمال البر من ذكر ودعاء وسعي في حاجات الناس وصلة رحم، إذا حدث هذا رجحت كفة الصوم، وازداد صاحبه قربًا من الشفاء، وبعدًا عن الأسقام والوباء، وهذا هو سر صيام النبي ليومي الاثنين والخميس؛ حيث قال: «تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس ، فأُحِبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم».

وهو أيضا سر صيام النبي لشعبان حتى ورد عنه أنه كان يصوم شعبان كله، ولما سأله أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: "يا رسول الله! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان"، قال: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم».

3- صيام داود:
وإذا جمع العبد مع ما سبق صيام داود عليه السلام فقد نما أجره وفاض، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله: «أفضل الصوم صوم أخي داود: كان يصوم يومًا ويُفطر يوماً، ولا يَفِرُّ إذا لاقى».

فهو أفضل من صوم الدهر لأنه أشق على النفس بمصادفة مألوفها يوماً ومفارقته يوماً، فتتربى النفس على مخالفة النفس، وتشب على المجاهدة، وتصبح طوع أمر صاحبها، يوجهها إلى الخير فتلبي النداء.

قال الغزالي: "وسِرُّه أن من صام الدهر صار الصوم له عادة؛ فلا يُحِسُّ وقعه في نفسه بالانكسار، وفي قلبه بالصفاء، وفي شهواته بالضعف، فإن النفس إنما تتأثر بما يرد عليها لا بما تمرَّنت عليه، ألا ترى أن الأطباء نَهوا عن اعتياد شرب الدواء، وقالوا: من تعوَّده لم ينتفع به إذا مرض؛ لألف مزاجه له، فلا يتأثر به، وطب القلوب قريب من طب الأبدان".

ويلمح الإمام الخطابي سبباً آخر لأفضلية صوم يوم وإفطار يوم لمحه في آخر جملة من الحديث فيقول: "محصل قصة عبد الله بن عمرو أن الله تعالى لم يتعبَّد عبده بالصوم خاصة، بل تعبَّده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصَّر في غيره، فالأوْلى: الاقتصاد فيه ليستبقي بعض القوة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في داود عليه السلام: «ولا يَفِرُّ إذا لاقى»، لأنه كان يتقوَّى بالفطر لأجل الجهاد ".

فالغرض من الفِطر إذن: التقوِّي به على الطاعة لئلا يضعف الإنسان عن أعمال الخير، فلو أنه واصل الصوم ولم يفطر، فربما أضعف ذلك قوته وأنهك جسمه ولم يقوَ على قتال الأبطال، فصوم يوم وفطر يوم يجمع له بين الحسنيين وييسِّر له القربتين.

4- الصوم الحقيقي:
يا ركب الشفاء وقافلة المهتدين ..
ليس الصوم امتناعاً عن الطعام والشراب فحسب، بل صونا للجوارح عما حرَّم الله، وكل الصائمين يبحر في بحر الصوم لكن كم منهم يصل إلى شاطئ التقوى؟ كلهم يحرم نفسه الطعام والشراب لكن من ينال مقابل تعبه ومن يذهب حرمانه أدراج الرياح؟ فكل من جمع بين صوم البطن والفرج والجوارح فقد سبق غيره من الصائمين وغلبه، وإلا فما أرخص الصوم الزائف! قال ميمون بن مهران: "إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب".

ولو صام المسلمون حقاً لكان الحال غير ما نحن فيه اليوم، ولاختفت علامات الفحش وسوء الخلق والأثرة والاعتداء على الغير من مجتمعاتنا، ولرضي عنا ربنا فيسَّر لنا دنيانا وأكرمنا في آخرتنا، ولكننا قوم لا يصومون!

5- إخفاء الصوم:
وإذا أضاف المريض إلى ما سبق: إخفاء صومه؛ فقد عطَّر عمله بالإخلاص قبل أن يبعث به إلى ربه ليتقبله، والإخلاص أسمى العبادات القلبية، لذا يتضاعف ثواب الصائم الخفي أضعافا مضاعفة؛ حيث قال رسول الله: «وكل عمل لصاحبه إلا الصيام يقول الله: الصيام لي وأنا أجزي به».

والمعنى: أتولى الجزاء على الصوم بنفسي، فلا أكله إلى ملك مقرب ولا غيره، لأنه سِرٌّ بيني وبين عبدي، فلما كف نفسه عن شهواتها سراً وجهرًا كوفئ بتولي الله سبحانه الإحسان إليه بنفسه فضلاً وبراً، لذا حرص الصالحون على إخفاء صومهم، فعن علم الزهاد وبركة العصر معروف الكرخي أنه سأله رجل: "يا أبا محفوظ كيف تصوم؟ فبقي يغالطه ويقول: صوم نبينا كان كذا، وصوم داوود كان كذا، فألح عليه فقال: "أصبح دهري صائمًا، فمن دعاني أكلت، ولم أقل: إني صائم".

المصدر: كتاب جرعات الدواء

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 8
  • 0
  • 12,721
المقال السابق
(1) على عتبة هذا الباب
المقال التالي
(5) استراحة القلب

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً