جرعات دواء القلوب - (7) فرق الإنقاذ

منذ 2015-09-03

هنا خمس مضاعفات لقوة الأخوة.

بنى النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر أول ما بنى: المسجد وهو صرح الإيمان، ثم بنى الروابط والصلات بين المهاجرين والأنصار وهو صرح الأخوة، وهذان الصرحان كل منهما علامة على الآخر ولازم من لوازمه. فالبناء الرأسي: هو الإيمان وهو بناء الصلة مع الله، والبناء الأفقي: هو الأخوة وهو بناء الروابط مع أفراد المؤمنين، ولا بناء بدون أساس، وهو أمر تلمحه في قول الله تعالى: {إِنَّما المؤْمِنوْنَ إِخْوَةٌ} [الحجرات من الآية:10] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه ذاق بهن حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله» (صحيح مسلم [43]).

بل إن الإيمان إذا كان بغير أخوة ضاع وانهدم، وإن غياب أخلاق الأخوة الإيمانية سيؤدي حتمًا إلى هدم الصلة بالله والرابطة الإيمانية، فإن «فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» (سنن الترمذي [2509]).

لذا أعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأخوة قدرها وأوصى بها، فإذا به يقول: "إذا رزقكم الله عز وجل مودة امرئ مسلم فتشبَّثوا بها".

وقد فعلها عمر وطبَّق على نفسه ما دعانا إليه وتشبَّث بهذه الأخوة، فكان رضي الله عنه يذكر الرجل من إخوانه بالليل، فيقول: "يا طولها من ليلة"، فإذا صلى المكتوبة غدا إليه، فإذا التقيا عانقه، وقد كان رضي الله عنه صاحب عاطفة أخوية دفاقة عكس ما عُهِد فيه من شدة، فلما أتى الشام يومًا استقبله أبو عبيدة بن الجراح، فالتزمه عمر، وقبَّل يده، وجعلا يبكيان، وصدق الشاعر -رقيق المشاعر- حين قال : 

ما ذاقت النفس على شهوة *** ألذ من حُبِّ صديقٍ أمين
من فاته وُد أخٍ صالح *** فذلك المغبون حق اليقين

وقد أدرك الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قيمة نعمة الأخوة فكان إذا خرج إلى أصحابه قال: "أنتم جلاء حزني"، وورث جيل التابعين هذه التركة الثمينة وذاقوا طعمها فعدَّها الحسن البصري من حلاوة العيش لا في مطعم شهي أو مرقد دفي. قال رحمه الله: "لم يبق من العيش إلا ثلاث: أخ لك تصيب من عشرته خيرًا فإن زغت عن الطريق قوَّمك، وكفاف من عيش ليس لأحد عليك فيه تبعة، وصلاة في جُمَع تُكفى سهوها وتستوجب أجرها".

وهذه الحلاوة كان طعمها أحلى من العسل عند المحدِّث القارئ طلحة بن مصرف الذي كان إذا لقي مالك بن مغول يقول له: "لَلُقياك أحب إليَّ من العسل".

التآخي والاستشفاء
للأخوة دور عظيم في دورات الاستشفاء، وهذه بعض آثارها:
1. ابدأ وعينك على القمم

  • من فوائد ذكر الصالحين وضرب نماذج المتقين إبطال كيد الشيطان، وإغاظته، والنيل منه، وغزوه في عقر داره، والأمر كما قال الرافعي: "فإن أسماء الزُّهّاد والعُبَّاد والصالحين هي في تاريخ الشياطين: كأسماء المواقع التي تنهزم فيها الجيوش". 
  • ومن فوائدها كذلك معرفة قدر نفسك إن كان الغرور والعجب قد بدأ يتسلل إليك، فتقطع الطريق على الشيطان من البداية وتبطل كيده والغواية. 
  • ومن فوائدها الارتقاء إلى سماوات القدوات إن كانت الدنيا قد أظلمت من قلة الصالحين، وكثرة الرويبضات، والتطلع إلى اللآلئ الغالية، بدلاً من التحديق في الأصداف الخاوية، وعندها "يحق لمن رأى الراحلين إلى الحبيب وهو قاعد أن يبكي ، ولمن سمع بأخبار الواصلين وهو متباعد أن يقلق". 

كُن كالصحابة في زهدٍ وفي ورع *** القوم هُم ما لهم في الناس أشباهُ
عبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم *** كم عابدٍ دمعه في الخدِّ أجراه
 وأُسدُ غاب إذا نادى الجهاد بهم *** هبُّوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا *** يُشيِّدون لنا مجدا أضعـناه

وانظروا كيف حرص كل صالح -مهما بلغ من صلاحه- على صحبة من هو أفضل منه، وما لهذا المبدأ من أثر رائع لا يُتصوَّر؛ فسفيان الثوري الذي كان يُشبَّه في زمانه بأبي بكر وعمر في زمانهما يقول: "إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام".

لكن من هو عبد الله بن المبارك؟!
عبد الله بن المبارك إمام من أئمة السلف، ثري من أرباب الأموال، لكنه مع هذا زاهد مجاهد، عالم محدِّث حافظ، فضائله لا تُحصى، جمع خصائل الخير كلها وحاز من الفضل أعلاه، ويكفيك أن تعلم أنه حين اجتمع جماعة مثل: الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين، ومحمد بن النضر، قالوا: "تعالوا حتى نعُدَّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير"، فقالوا: "العلم ، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والشعر، والفصاحة، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه".

لذا وجب على سفيان مع جلال قدره وعلو شأنه أن يقتدي بهذه المنظومة الشمولية النادرة المتفرِّدة، لكن بمن كان يقتدي أمثال عبد الله بن المبارك إذا أصابهم الفتور وحلَّ عليه التعب من مواصلة السير؟!
قال ابن المبارك يومًا: "إذا نظرت إلى فضيل بن عياض جُدِّد لي الحزن ومقتُّ نفسي"، ثم بكى.

وكذلك كان الربيع بن خيثم يقارن نفسه دومًا بمن هو أعلى وأتقى، وهل هناك من هو أعلى من ذلك وأرقى؟! فيبكي حتى يبل لحيته من دموعه ويقول: "أدركنا قوما كنا في جنوبهم لصوصًا"، وإذا كان الربيع يرى نفسه لصًا في جنب هؤلاء فماذا أكون أنا وأنت؟

2. غيِّر وسطك تنطلق:
وهذا تفسير للمرض وليس بتبرير له، يعني أن هذا ليس عذرًا لك بل أنت مسؤول عن نفسك وعن تغيير نفسك، ولذلك ننادي دائمًا بأهمية الصحبة الصالحة والوسط الطيب كما قال الله تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].

تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم: «إن من الناس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر»  (صحيح الجامع [2223]). 

وعندما يتعرض المسلم لفتنة ويبتليه ربه ليمحصه، أو يضعف إيمانه إثر غارة من غارات الأبالسة من الجن والإنس؛ يكون من عوامل الثبات أن يقيِّض الله له رجلاً صالحاً يعظه ويثبته، فتكون كلماته مرهم الجروح وبلسم الشفاء. 

وهاك أخي هذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد رحمه الله، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقياً. 
يقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمد معه في المحنة: "ما رأيت أحدًا على حداثة سنه وقدر علمه، أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير". 

قال لي ذات يوم: "يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يُقتدى بك، قد مدَّ الخلق أعناقهم إليك، لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله"، فمات وصليت عليه ودفنته، ونِعْم الأخوة! 

كم من أخٍ لك لم يلده أبوكا *** وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا
صافِ الكرام إذا أردت إخاءهم *** واعلم بأن أخا الحفاظ أخوكا

كم إخوة لك لم يلدك أبوهم *** وكأنما آباءهم ولدوكا
لو كنت تحملهم على مكروهة *** تخشى الحتوف بها لما خذلوكا
وأقارب لو أبصروك مُعلَّقا *** بنياط قلبك ثم ما نصروكا

إن الأخ الصالح هو الجماعة ولو كان واحدًا، ولقد كان محمد بن أسلم الطوسي الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه حتى قال: "ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبًا فما مُكِّنتُ من ذلك"، فسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: «إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم» (ذخيرة الحفاظ [1/493])، فقال: "محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم". 

3. مرآة العيوب:

  • ومن فوائد الأخوة أنها مرآة العيوب، وجهاز الاكتشاف المبكِّر لأمراض القلوب، لذا كان بلال بن سعد يقول لأخيه: "بلغني أن المسلم مرآة أخيه، فهل تستريب من أمري شيئا؟!"، وروى جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قول ميمون له: "يا جعفر .. قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره".

أفهم أن يضل المسافر ساعة أو ساعتين، فإن طال غيابه فيومًا أو يومين، ثم يهتدي، فواعجباً مِن تائه طوال عمره ؛ ثم لا هو يهتدي ولا هو يسير مع المهتدين!!

يا من انحرف عن جادتهم كن فى أواخر الركب، ونم إذا نمت على الطريق، فالأمير يراعي الساقة، وقد قالت إمرأة فرعون من قبل: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فيْ الجَنَّةِ} [التحريم:11]، فقدَّمت الجار قبل الدار حين قالت {عِنْدَكَ}  قبل  {بَيْتا}، وقد قال الله تعالى عن بلقيس: {وَصَدَّها مَاْ كانتْ تَعْبُدُ مِنْ دوْنِ اللهِ إِنَّهَاْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافريْنَ} [النمل:43]، فقد تأثرت بمن أحاط بها رغم ذكائها ورجاحة عقلها.

4. تقليد الإصلاح:
وهي حقيقة بشرية، وخصلة إنسانية فطرية، كما قرَّر ذلك ابن تيمية: "فكم من الناس لم يُرِد خيرًا ولا شرًا حتى رأى غيره، لا سيما إن كان نظيره يفعله ففعله، فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، ولهذا كان المبتدئ بالخير وبالشر له مثل من تبعه من الأجر، وذلك لاشتراكهم في الحقيقة، وإن حكم الشيء حكم نظيره، وشبيه الشيء منجذب إليه".

وقد ورد في الأثر تشبيه الأخوين باليدين تغسل إحداهما الأخرى، لأن اليدين دائماً تتعاونان على غرض واحد، فكذا الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا ترافقا في مقصد واحد فكانا كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المواساة في السراء والضراء، والمشاركة في الحال والمآل، وغياب الأثرة والأنانية، وتبادل النصح والترحيب به، ولذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين". 

وما المرء إلا بإخوانه *** كما يقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكفِّ مقطوعة *** ولا خير في الساعد الأجذم

وكما أن عدوى الأمراض تنتشر فكذلك عافية الدواء تنتشر. قال ابن القيم: "مجالسة العارف تدعوك من ست إلى ست: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الطوية إلى النصيحة".

ويساعد على هذا الإصلاح اتهام الإنسان نفسه إذا أحس منها بالنفور من أهل الخير والصلاح. قال عليه الصلاة والسلام: «ما توادَّ اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام، ففُرِّق بينهما إلا بذنب يُحدِثه أحدهما» (السلسلة الصحيحة [637]).

ويؤكِّد هذا المعنى ابن الجوزي في معرض تعليقه على حديث «الأرواح جنود مجندة» (صحيح مسلم [2638]) فيقول: "ويُستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح، فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك، ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم". 

5. الأنس وعدم الوحشة:
وفي صحبة الصالحين إيناس لوحشة الروح، وتخلص من صعوبة التفرد، كما حكاه ابن القيم: "والقصد أن في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم، وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: اللهم اهدني فيمن هديت، أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقًا لهم ومعهم".

ولذا ذكر الله تعالى في القرآن نوعًا من العذاب في جهنم حين قال على لسان أهلها: {فَما لَنا مِنْ شَافِعيْنَ . وَلا صَديْقٍ حَميْمٍ} [الشعراء:100-101]، فعلَّمنا أن في النار عذاباً آخر غير الحرق والشواء ألا وهو عذاب الوحدة والتفرد وعدم المشاركة في تحمل الآلام.

ولذا قيل في المثل : "فَقْد الإخوان غُربة"، وهؤلاء الإخوان هم الذين يشبهونك خُلُقًا وروحًا، وإلا كنت غريبًا ولو كان حولك ألف صاحب لكنهم لا يشبهونك!! وبهذه التجربة مرَّ الإمام العلامة المحدِّث الرحَّال أبو سليمان الْخَطَّابي؛ وذلك حين شعر أنه غريب بين قومه وفي بلده "بست" حين لم يجد له شبيها في الهمة والهم والعزم والحزم، فانطلق شاكيا يقول:

وإني غريبٌ بين بُسْتَ وأهلها *** وإن كان فيها أُسْرَتِى وبها أهْلى
وما غُرْبَةُ الإنسان في غُرْبَةِ النَّوَى *** ولكنَّهَا والله في عَدَمِ الشكْلِ 

مضاعفات القوة
وأعني بها هنا ما يقوي روابط الأخوة ويجعل قطعها من المستحيلات، وأولها:
1. التماس العذر 
وإذا لم تقبل عذر إخوانك انفضوا من حولك وتركوك حائرًا، تظن بمن حولك الظنون وتوزع عليهم الاتهامات وما العيب إلا فيك. قال حمدون القصار: "إذا زلَّ أخ من إخونكم فاطلبو له سبعين عذرًا، فإن لم تقبله قلوبكم؛ فاعلموا أن المعيب أنفسكم، حيث ظهر لمسلم سبعون عذرًا فلم تقبلوه". 

إذا ما بدَتْ من صاحب لك زلة *** فكُنْ أنت محتالاً لزلَّتـه عذرا
أحب الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه *** كأنَّ به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطٌ أذى *** ولا مانعٌ خيرًا ولا قائلٌ هجرا

وجعله الفضيل بن عياض أصل الفتوة ليس بضخامة الجسم واستعراض العضلات حين قال: "الفتو : العفو عن عثرات الإخوان"، بل وهدَّد في نبرة جادة كل من أمسك بالمنظار المكبِّر ليفتش عن عيوب الإخوان ويُحصي زلاتهم فقال: "من طلب أخًا بلا عيب بقي بلا أخ"، لذا كان سلوك طريق المغفرة والتسامح هو سكة كل من يريد الإبقاء على إخوانه والمحافظة عليهم.

وكنت إذا الصديق أراد غيظي *** وشرَّقني على ظمإ بريقي
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي *** مخافة أن أعيش بلا صديق

إن التسامح والعفو كذلك علامة من علامات المروءة، وسمة من سمات الأصل الكريم والخلق السامي، كما عرَّف عمر بن عثمان المكي المروءة فقال: "المروءة التغافل عن زلل الإخوان"، وقد حفلت قصائد الشعراء بهذا المعنى، فالأبرش يخاطب صاحبه الذي جفاه:

هبني أسأت كما زعمتَ *** فأين عاطفةُ الأخوة
ولئن أسأتُ كما أسأتَ *** فأين فضلك والمروة

والأصمعي يستعطف أخاه المخاصم له بتذكيره بعطف الله حين يقول:

أتيتك تائباً من كل ذنب *** وخير الناس من أخطا فتابا
أليس الله يُستعفى فيعفو *** وقد ملك العقوبة والثوابا

والأمر أبعد من مجرد هذا، بل هو شرط من شروط الأخوة من حققها استحق أن ينضم إلى قافلة الإخوان، ومن فرَّط فيها ظل منزوياً في دائرة المعارف، وممن طبَّق هذا المبدأ بصرامة سفيان الثوري الذي كان يقول: "إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه، ثم دُسَّ عليه من يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيرًا وكتم سرَّك فاصحبه".

وأين هذا ممن يخاصم أخاً له صحبه دهرًا وذلك من أجل زلة لسان أو فورة في لحظة غضب؟! ثم يحسبها أخوة في الله ويطلب بها الاستظلال في ظل عرش الرحمن!!

ممنوع العتاب!!
ولأن العتاب مقدمة القطيعة وطليعة الفرقة، فقد اجتنبه الإخوان، ولما جرى بين أبي العباس محمد بن صبيح الكوفي الزاهد الشهير بابن السماك وبين أخ له خلاف أورث كدرًا في القلب، فقال له صديقه: "الميعاد غدًا نتعاتب"، فقال: "بل الميعاد غدا نتغافر".

وذلك لعظيم فقهه رحمه الله، ولإدراكه أن الأخوة الإيمانية تقوم أساسًا على محبة الخير للإخوان، والخير كل الخير في مسامحة أخيك واجتياز أبواب الجنة وأنت ممسك بيده، وكل ما يحول بينك وبين هذا فهو عائق لا بد لك من إزالته، وعقبة لابد من تحطيمها.

وأعظم هذه العوائق والعقبات: الذنوب، ومن هنا كان من الأجدر إذا جرى بينك وبين أخيك مشاحنة أن تكون عينك على ذنبك وذنبه، فيكون خوفك من أن يكون ملك السيئات قد خطَّ عليك أو عليه خطيئة، وحتى إن أساء عليك فعليك أن تحزن عليه لا منه، فتلتقي به في أول لقاء ترجو منه المغفرة وتناشده العفو (نتغافر)، لا أن يرمي كل منكما صاحبه بالتهم ويلقي عليه باللائمة (نتعاتب) كما يفعل أبناء الدنيا وإخوان المصالح، وعندئذ تبقى المحبة وتدوم، المحبة في الله وحدها هي التي تدوم.

وكل محبة في الله تبقى *** على الحالين من فرج وضيق
وكل محبة فيما سواه *** فكالأخشاب في لهب الحريق

2. الزيارة 
قال صلى الله عليه وسلم: «والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله في الجنة» (صحيح الجامع [2604]).

وقد سبق وأن طاب قلب رجل صالح فطاب ممشاه في زيارة إخوانه، ومتى صدقت نية المرء زالت كل عقبة ولو كانت الجبل، وبلغ المراد ولو كان السحاب.

قال عبد الله بن الإمام أحمد: "لما أُطلق أبي من المحنة خشي أن يجيء إليه إسحاق بن راهويه، فرحل أبي إليه، فلما بلغ الري دخل إلى مسجد، فجاء مطر كأفواه القِرَب، فلما كانت العتمة قالوا له: اخرج من المسجد، فإنا نريد أن نغلقه، فقال لهم: هذا مسجد الله وأنا عبد الله، فقيل له: أيهما أحب أن تخرج أو نجُرُّ رجلك. قال أحمد: فقلت سلامًا، فخرجت من المسجد والمطر والرعد والبرق، فلا أدري أين أضع رجلي ولا أين أتوجه، فإذا رجل قد خرج من داره، فقال لي: يا هذا!! أين تَمُرُّ في هذا الوقت؟! فقلت: لا أدري أين أمر، فقال لي: ادخل ، فأدخلني دارًا ونزع ثيابي وأعطوني ثيابًا جافة وتطهرت للصلاة، فدخلت إلى بيت فيه كانون فحم ولبُّود ومائدة منصوبة، فقيل لي: كُل، فأكلت معهم، فقال لي: من أين أتيت؟! فقلت: من بغداد ، فقال لي: تعرف رجلاً يقال له أحمد بن حنبل، فقلت: أنا أحمد بن حنبل، فقال لي: وأنا إسحاق بن راهويه". لسان الحال:

ولو قطعوا رجلي مشيت على العصا *** وإن قطعوا الأخرى حبوتُ حبوتُ
ولو دفنوني تحت ألفي قامة *** تخلخلت من بين التراب وجئتُ

والأخ في الله مشغول بألوان الطاعات، قد تشغله كثرة الواجبات، وقلة الأوقات عن كثرة الزيارات، وتبادل الصلات، لكن إن لم تلتقِ الأجساد وتباعدت البلاد فإن الأرواح متصلة وتتعانق، وهذه علامة فارقة من علامات الأخوة في الله، فأخو الدنيا يخاصمك إذا لم تصله وترد له الزيارة بمثلها، لكن أخا الدين يعذرك ويدعو لك بظهر الغيب أن يعينك الله على ما شُغِلت به من الخير.

أبلغ أخاك أخا الإحسان بي حُسنا *** إني وإن كنتُ لا ألقاه ألقاه
فإن طرفي موصولٌ برؤيته *** وإن تباعد عن مثواي مثواه

3. النصح
قال عمر بن عبد العزيز: "من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته وأدى واجب حقه، فاتقوا الله فإنها نصيحة لكم في دينكم فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها".

أم أننا كبرنا على النصح، وتخرجنا من جامعة الهداية، فلم نعد نقبل أن ينصحنا تلامذة الأمس وأبناء البارحة؟!، رغم أن كثرة النصح ودوامه والتماسه من الغير تسهِّل اكتشاف العيب فوق ظهوره، وتتيح للمرء أن يصححه على الفور، بعكس ما إذا طالت المدة واتسعت الخروق وكثرت العيوب، لذا كان المريض الذكي هو من يقصد إخوانه فيطلب منهم النصح لا أن ينتظرهم حتى ينصحوه.

وكان من الذكاء كذلك أن يدفن المريض نفسه وسط جموع الصالحين وكثرة من المتقين، ولذا كان العمل الجماعي أعظم بركة لكونه أسرع بيئة يُكتشف فيها الخطأ ويقوَّم فيها الزلل وفي الحال.

واعلم أنه ليس من علامات الأخوة الصادقة موافقة الأخ أخاه إذا خالف الحق، بل في مخالفته في ما ذهب إليه من الباطل، فقد كان الشافعي مؤاخياً لمحمد بن عبد الحكم وكان يقرِّبه ويُقبِل عليه ويقول ما يقيمني بمصر غيره، وظن الناس لصدق مودتهما أنه سيفوِّض أمر حلقته إليه بعد وفاته، فقيل للشافعي في علته التي مات فيها: "إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله"، فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه، فقال الشافعي: "سبحان الله!! أيُشك في هذا: أبو يعقوب البويطي، فانكسر لها محمد، ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمد بن عبد الحكم كان قد حمل عن الشافعي مذهبه كله، لكن البويطي كان أفضل وأقرب إلى الزهد والورع".

وحين يختفي النصح من دوائر الإخوان وينقلب سكوتا عن الإنحرافات والتجاوزات؛ عندها تكون الأخوة في الله قد لفظت أنفاسها الأخيرة وانتقلت إلى جوار ربها.

4. الأخوة الخاصة
والمقصود بها هنا: الاختيار والاصطفاء من بين زمرة الأصدقاء ليكون منهم خليلك وصفيك الذي تبثه نجواك، وتتعاون معه على مرضاة الله، وهو مع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فمع أخوة الإيمان العامة بين كل المؤمنين؛ فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، وبين عوف بن مالك وبين الصعب بن جثامة، وبين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وبين عتبة بن غزوان وعباد بن بشر، وبين حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت، وهكذا وجد كل مهاجر أخًا أنصاريًا خاصًا فضلاً عن أخوته مع جميع الصحابة.

وهذا الأمر في حاجة مع الاختيار إلى الاختبار، وبعد الاختبار إما النجاح والانضمام إلى قائمة الإخوان، أو السقوط والبقاء في دائرة الأصدقاء أو جملة المعارف، وهو منهج سار عليه سفيان الثوري حتى تمثل قول الشاعر:

ابلُ الرِّجال إذا أردت إخاءهم *** وتوسَّمن أمورهم وتفقَّدِ
فإذا وجدتَ أخا الأمانة والتُّقى *** فبه اليدين قريرَ عينٍ فاشْدُدِ

وكلما استكثر الواحد من هذه الأخوة كلما كانت فرصه في النجاة أوفر وإحرازه للفوز أرجى، لذا أوصى بعض السلف: "استكثروا من الإخوان، فإن لكل مؤمن شفاعة، فلعلك تدخل في شفاعة أخيك". 

5. الإعانة على الخير
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يوما ثم قال: «يا معاذ!! والله إني لأحبك»، فقال له معاذ: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك". قال: «أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى بها الصنابحي أبا عبد الرحمن، وأوصى بها أبو عبد الرحمن عقبة بن مسلم (صحيح بن حبان [2020]).

وكأنه عهد تتوارثه الأجيال ويناوله السابق إلى اللاحق، ثم تأمل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد معاذ تأكيدًا على أنه عقد محبة وبيعة مودة، وتعليمًا لنا أن المحبة لا تدوم ولا تثبت إلا في ظل التواصي بالخير، بل ولا تُميَّز أخوة الدين عن أخوة الدنيا إلا بمثل هذا، ولهذا كان الصحابة لا يفترقون إلا على سورة العصر مذكِّرين بعضهم بعضًا بشرط هام من شروط الأخوة الإيمانية: {وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].

وإذا كانت الأخوة عندهم كذلك فإن الدنيا لا تدخل في حسابات الأخوة بشيء، فلا يتنازعون عليها ولا يختلفون بسببها، وقد رُوي أنه كان رجلان متآخيان في الله، فطلب أحدهما من صاحبه شيئًا فمنعه، فلم يتغيَّر له عن حاله، فقال له: "يا أخي، سألتني حاجة فما قضيتُها فما تغيَّرت لي؟!" قال: "إنما أحببتك لأمر فلم تتغير عن الذي أحببتك من أجله، فأنا لا أتغيَّر لك وإن منعتني"، فقال الآخر: "إنما منعتك لأُجرِّبك، فمُدَّ يدك الآن إلى ما شئت من مالي فخذه، فما أنا بأحق به منك!!".

استشارة قلبية
إذا صاحبت الصالحين ومع ذلك لم تتغيَّر، ولم تتقدم خطوة في ميدان الطاعات، وأخذت هذا الدواء ولم تتعاف، فلابد لك من مراجعة طبيب حاذق، وأنا أوصيك أن تراجع مرة أخرى الطبيب القلبي البارع: ابن قيم الجوزية الذي قال:
"الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما اجتماع علي مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون علي أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات: 
إحداها: تزيُّن بعضهم لبعض.
الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.
الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود، وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح؛ إما للنفس الأمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من المَلَك، والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، وعكس ذلك".

المصدر: كتاب جرعات الدواء

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 1
  • 1
  • 12,824
المقال السابق
(6) قوة التحمل
المقال التالي
(9) النظرة الثاقبة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً