غـزة والسخاء
عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
"ابتُلينا بزمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أخلاق
ذي المروءة" [1].
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
"ابتُلينا بزمان ليس فيه آداب
الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أخلاق ذي المروءة" [1].
هذه المقالة التي سطَّرها أبو بكر الواسطي (ت 321هـ) تحكي واقع العرب تجاه أحداث غزة؛ فأخلاق الإسلام قد اندرست، وعفتْ آثارها، ومروءات العرب قد تصرَّمت إلا من الأشعار.
لقد كان عرب هذا الزمان - قبل عقود - "ظاهرة صوتية"، تسمع جعجعة ولا ترى طحناً، ثم انحدروا إلى الصمت المريب والسكوت المطبق، وسوء الختام - فــي هذه الأيام -: التواطؤ المكشوف مع العدو المحتل، والتعاون على العدوان على أهل غزة، "والاستمتاع" بين الفريقين: اليهود وأشباههم من المنافقين.
وكان مشركو العرب - رغم شركهم - أرباب مروءات، فهم أصحاب "حِلْف الفضول" ومنهم من نقض صحيفة حصار المسلمين في شِعْب أبي طالب..، وفيهم أَنَفَة وإباء الضيم، وأما عرب اليوم فهم على النقيض من ذلك:
أرانب غير أنهُمُ "رؤوسٌ" *** مفتحة عيونهُمُ نِيامُ
بأجسام يحرُّ القتل فيها *** وما أسيافُها إلا الطعامُ
ومع حمأة هذه الفواجع والمصائب، وتتابع الشدائد والبليَّات؛ إلا أن بعضهم يتلفَّع بالصمت، ويؤثر التقاعس، ويتدثَّر بالعقل والتأنِّي، والتظاهر بالرزانة والثقل، ويحيد عن الحلول العملية الواضحة والعاجلة تجاه هذه النازلة الفادحة... قال الله - عز وجل -: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14-15].
وأحسن حالاً من أولئك مَنْ سلك موقفاً تجاه نصرة قضية غزة - وأشباهها - فاجتهدوا في الدعاء والقنوت لهم، لكنهم اقتصروا على ذلك، وتركوا أسباباً عظيمة للنصرة؛ كالإمداد والدعم بالمال، والعتاد، وتبنِّـي قضية فلسطين - عموماً - والاحتفاء والانشغال بها.
ومن المعلوم بداهة أن في الدعاء فضلاً ونفعاً وأثراً، لكن من الحَيْدة وإيثار السلامة أن نتغافل عمَّا في مقدورنا مما يحتاجه إخواننا من المناصرة بالمال وتجهيز الغزاة وإيصال الغذاء والدواء إلى عقر دارهم، ونحو ذلك من المواقف والواجبات التي لها آثارها وتبعاتها، وإن أقلقتْ عرباً، أو أسخطتْ غرباً.
يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -: "لكن نفراً من الناكصين على أعقابهم في الميادين الراكضة أبوا إلا أن يَدَعوا هذا المجال "المدافعة".. ووجد (الأذكياء) عوضاً عن الحقيقة التي يجب أن يواجهوها؛ فإذا جهاد النفس يحلُّ محلَّ جهاد العدو، ودروس التصوف العالي تسدُّ مسدَّ الهجوم على الخونة والمغيرين". إلى أن قال: "إذا كنتَ مديناً وجاءك الغريم يتقاضاك حقه، فما معنى أن تلويه عن غرضه بمحاضرة مسهبة في الزهد والتجرد؟" [2].
وها هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما قدم عليه قوم من قبيلة مضر، وكانوا حفاةً عراةً.. فتمعَّر وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لِـمَا رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً - رضي الله عنه - فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب فقال: «{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ..} [النساء: ١]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره»، حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: «ولو بشقِّ تمرة»، قال جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - [راوي الحديث]: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال:
ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلَّل كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده..» الحديث [3].
قال النووي: "وأما سبب سروره - صلى الله عليه وسلم - ففرحاً بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض..." [4].
ومما ينبغي تجليته ما كان عليه المسلمون الأوائل من اتخاذ الأوقاف والأحباس، وجعل رَيْعها وغَلَّتها لأهل الرباط والثغور، وسائر نفقات الجهاد في سبيل الله تعالى. ومن ذلك: أن مسلمي الأندلس اعتادوا أن يجعلوا نصيباً من أحباسهم لتمويل مرافق الجهاد الحربي ضد النصارى [5]، ومثال ذلك: أن أحدهم أوصى أن يُحْبَسَ على ثغر من ثغور الأندلس الفندقان اللذان له، تنفق غَلَّتهما هنالك ما دامت الدنيا [6].
وأفتى علماء الأندلس - ومعهم علماء المغرب - يوسف ابن تاشفين بجواز طلب المعونة من الناس؛ لتغطية نفقات الجيش المرابطي المجاهد في الأندلس، حينما قصَّرت عن ذلك أموال الدولة [7].
ومن طريف البذل والسخاء أن امرأة بذلت ضفائر شعرها في سبيل الله، وأرسلتها إلى الخليفة هارون الرشيد، ومعها كتاب فيه: إني امرأة من أهل البيوتات من العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وسمعتُ تحريضك الناس على الغزو، وترغيبك في ذلك، فعمدتُ إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتاي فقطعتهما وصررتُهما في هذه الخرقة المختومة، وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غازٍ في سبيل الله، فلعلَّ الله العظيم أن ينظر إليَّ على تلك الحال نظرةً فيرحمني بها.
فبكى الرشيد وأبكى الناس، وأمر أن يُنادَى بالنفير، فغزا بنفسه، فأنكى فيهم، وفتح الله عليهم [8].
ويقرِّر ابن تيمية عِظَم ملازمة الثغور فيقول: "إن السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علماً وعملاً، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام؛ وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"... - إلى أن قال -: "وأهل الشام ما زالوا مرابطين من أول الإسلام لمجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب".
وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثغور مثــل: (غزة)، و (عسقلان)، و (الإسكندرية)، و (قزوين)، ونحو ذلك» [9].
كم هو جميل حقاً تلك المشاعر الإيمانية، والعواطف الوجدانية التي أظهرها أهل الإسلام نحو إخوانهم في غزَّة؛ فمع تكالب عوامل الإفساد والتغريب، والقمع والتلبيس لأمة الإسلام؛ إلاّ أنَّ هذه الأمة المحرومة بذلت جهد المقل تجاه أهل غزة، فينبغي تحريك هذه العاطفة الدينية، وتقوية مشاعر "الأخوة الإيمانية"، وتوظيفها في مواقف إيجابية وبرامج عملية، ومن ثم لا مسوِّغ للإيغال فيما يسمى بـ "ضبط النفس"؛ إذ الأمة تكابد أنواعاً من التخدير والتخذيل، فالإغراق في ذلك الضبط لا يعقبه إلا القضاء على بقية هذه العواطف الجيَّاشة وإخمــادها، ولا يخلِّف إلا أكواماً من الجمود والبرود.
وقد يلحظ المشتغلون بالعلم والدعوة ما لدى الشبيبة من عاطفة متدفقة، وإقدام وبذل، وتستحوذ على هؤلاء الدعاة والمربِّين وقائع معينة أورثتْ مفاسد وسلبيات؛ لأجل اندفاع الناشئة وشجاعتهم، فينهمكون في التزهيد من هذه العاطفة وتقليصها، والإفراط في التريُّث والحذر، فأعقب ذلك ضعف الغيرة، وغلبة البرود، واستيلاء الجُبْن!!
ويذكِّر هذا المسلك بما حكاه الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - عن المتصوفة حين قال: "إن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربُّون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة. فإذا رأوا أنفة في مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفُّع؛ جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة والمحافظة عليها؛ حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه، وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يجب!!، ولم يَدْر المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الشعوب وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها" [10].
وأخيراً: "لا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك" [11].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المنتظم لابن الجوزي، 13/331.
[2] في موكب الدعوة، ص 309.
[3] أخرجه مسلم رقم (1017).
[4] صحيح مسلم بشرح النووي، 7/103.
[5] جهود علماء الأندلس في الصراع مع النصارى، لمحمد أبا الخيل، ص 260.
[6] المرجع السابق، ص 261.
[7] المرجع السابق، ص 264.
[8] انظر: صفة الصفوة، 4/198، لابن الجوزي. ثم عقب ابن الجوزي قائلاً: «هذه امرأة حَسُن قصدها، وغلطت في فعلها؛ لأنها جهلت أن ما فعلتْ منهيٌّ عنه، فلينظر إلى قصدها».
[9] مسألة في المرابطة بالثغور، ص 50، 51، 59؛ باختصار.
[10] تأملات في الدين والحياة، ص 173.
[11] مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/291.
هذه المقالة التي سطَّرها أبو بكر الواسطي (ت 321هـ) تحكي واقع العرب تجاه أحداث غزة؛ فأخلاق الإسلام قد اندرست، وعفتْ آثارها، ومروءات العرب قد تصرَّمت إلا من الأشعار.
لقد كان عرب هذا الزمان - قبل عقود - "ظاهرة صوتية"، تسمع جعجعة ولا ترى طحناً، ثم انحدروا إلى الصمت المريب والسكوت المطبق، وسوء الختام - فــي هذه الأيام -: التواطؤ المكشوف مع العدو المحتل، والتعاون على العدوان على أهل غزة، "والاستمتاع" بين الفريقين: اليهود وأشباههم من المنافقين.
وكان مشركو العرب - رغم شركهم - أرباب مروءات، فهم أصحاب "حِلْف الفضول" ومنهم من نقض صحيفة حصار المسلمين في شِعْب أبي طالب..، وفيهم أَنَفَة وإباء الضيم، وأما عرب اليوم فهم على النقيض من ذلك:
أرانب غير أنهُمُ "رؤوسٌ" *** مفتحة عيونهُمُ نِيامُ
بأجسام يحرُّ القتل فيها *** وما أسيافُها إلا الطعامُ
ومع حمأة هذه الفواجع والمصائب، وتتابع الشدائد والبليَّات؛ إلا أن بعضهم يتلفَّع بالصمت، ويؤثر التقاعس، ويتدثَّر بالعقل والتأنِّي، والتظاهر بالرزانة والثقل، ويحيد عن الحلول العملية الواضحة والعاجلة تجاه هذه النازلة الفادحة... قال الله - عز وجل -: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14-15].
وأحسن حالاً من أولئك مَنْ سلك موقفاً تجاه نصرة قضية غزة - وأشباهها - فاجتهدوا في الدعاء والقنوت لهم، لكنهم اقتصروا على ذلك، وتركوا أسباباً عظيمة للنصرة؛ كالإمداد والدعم بالمال، والعتاد، وتبنِّـي قضية فلسطين - عموماً - والاحتفاء والانشغال بها.
ومن المعلوم بداهة أن في الدعاء فضلاً ونفعاً وأثراً، لكن من الحَيْدة وإيثار السلامة أن نتغافل عمَّا في مقدورنا مما يحتاجه إخواننا من المناصرة بالمال وتجهيز الغزاة وإيصال الغذاء والدواء إلى عقر دارهم، ونحو ذلك من المواقف والواجبات التي لها آثارها وتبعاتها، وإن أقلقتْ عرباً، أو أسخطتْ غرباً.
يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -: "لكن نفراً من الناكصين على أعقابهم في الميادين الراكضة أبوا إلا أن يَدَعوا هذا المجال "المدافعة".. ووجد (الأذكياء) عوضاً عن الحقيقة التي يجب أن يواجهوها؛ فإذا جهاد النفس يحلُّ محلَّ جهاد العدو، ودروس التصوف العالي تسدُّ مسدَّ الهجوم على الخونة والمغيرين". إلى أن قال: "إذا كنتَ مديناً وجاءك الغريم يتقاضاك حقه، فما معنى أن تلويه عن غرضه بمحاضرة مسهبة في الزهد والتجرد؟" [2].
وها هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما قدم عليه قوم من قبيلة مضر، وكانوا حفاةً عراةً.. فتمعَّر وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لِـمَا رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً - رضي الله عنه - فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب فقال: «{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ..} [النساء: ١]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره»، حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: «ولو بشقِّ تمرة»، قال جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - [راوي الحديث]: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال:
ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلَّل كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده..» الحديث [3].
قال النووي: "وأما سبب سروره - صلى الله عليه وسلم - ففرحاً بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض..." [4].
ومما ينبغي تجليته ما كان عليه المسلمون الأوائل من اتخاذ الأوقاف والأحباس، وجعل رَيْعها وغَلَّتها لأهل الرباط والثغور، وسائر نفقات الجهاد في سبيل الله تعالى. ومن ذلك: أن مسلمي الأندلس اعتادوا أن يجعلوا نصيباً من أحباسهم لتمويل مرافق الجهاد الحربي ضد النصارى [5]، ومثال ذلك: أن أحدهم أوصى أن يُحْبَسَ على ثغر من ثغور الأندلس الفندقان اللذان له، تنفق غَلَّتهما هنالك ما دامت الدنيا [6].
وأفتى علماء الأندلس - ومعهم علماء المغرب - يوسف ابن تاشفين بجواز طلب المعونة من الناس؛ لتغطية نفقات الجيش المرابطي المجاهد في الأندلس، حينما قصَّرت عن ذلك أموال الدولة [7].
ومن طريف البذل والسخاء أن امرأة بذلت ضفائر شعرها في سبيل الله، وأرسلتها إلى الخليفة هارون الرشيد، ومعها كتاب فيه: إني امرأة من أهل البيوتات من العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وسمعتُ تحريضك الناس على الغزو، وترغيبك في ذلك، فعمدتُ إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتاي فقطعتهما وصررتُهما في هذه الخرقة المختومة، وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غازٍ في سبيل الله، فلعلَّ الله العظيم أن ينظر إليَّ على تلك الحال نظرةً فيرحمني بها.
فبكى الرشيد وأبكى الناس، وأمر أن يُنادَى بالنفير، فغزا بنفسه، فأنكى فيهم، وفتح الله عليهم [8].
ويقرِّر ابن تيمية عِظَم ملازمة الثغور فيقول: "إن السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علماً وعملاً، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام؛ وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"... - إلى أن قال -: "وأهل الشام ما زالوا مرابطين من أول الإسلام لمجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب".
وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثغور مثــل: (غزة)، و (عسقلان)، و (الإسكندرية)، و (قزوين)، ونحو ذلك» [9].
كم هو جميل حقاً تلك المشاعر الإيمانية، والعواطف الوجدانية التي أظهرها أهل الإسلام نحو إخوانهم في غزَّة؛ فمع تكالب عوامل الإفساد والتغريب، والقمع والتلبيس لأمة الإسلام؛ إلاّ أنَّ هذه الأمة المحرومة بذلت جهد المقل تجاه أهل غزة، فينبغي تحريك هذه العاطفة الدينية، وتقوية مشاعر "الأخوة الإيمانية"، وتوظيفها في مواقف إيجابية وبرامج عملية، ومن ثم لا مسوِّغ للإيغال فيما يسمى بـ "ضبط النفس"؛ إذ الأمة تكابد أنواعاً من التخدير والتخذيل، فالإغراق في ذلك الضبط لا يعقبه إلا القضاء على بقية هذه العواطف الجيَّاشة وإخمــادها، ولا يخلِّف إلا أكواماً من الجمود والبرود.
وقد يلحظ المشتغلون بالعلم والدعوة ما لدى الشبيبة من عاطفة متدفقة، وإقدام وبذل، وتستحوذ على هؤلاء الدعاة والمربِّين وقائع معينة أورثتْ مفاسد وسلبيات؛ لأجل اندفاع الناشئة وشجاعتهم، فينهمكون في التزهيد من هذه العاطفة وتقليصها، والإفراط في التريُّث والحذر، فأعقب ذلك ضعف الغيرة، وغلبة البرود، واستيلاء الجُبْن!!
ويذكِّر هذا المسلك بما حكاه الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - عن المتصوفة حين قال: "إن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربُّون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة. فإذا رأوا أنفة في مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفُّع؛ جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة والمحافظة عليها؛ حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه، وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يجب!!، ولم يَدْر المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الشعوب وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها" [10].
وأخيراً: "لا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك" [11].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المنتظم لابن الجوزي، 13/331.
[2] في موكب الدعوة، ص 309.
[3] أخرجه مسلم رقم (1017).
[4] صحيح مسلم بشرح النووي، 7/103.
[5] جهود علماء الأندلس في الصراع مع النصارى، لمحمد أبا الخيل، ص 260.
[6] المرجع السابق، ص 261.
[7] المرجع السابق، ص 264.
[8] انظر: صفة الصفوة، 4/198، لابن الجوزي. ثم عقب ابن الجوزي قائلاً: «هذه امرأة حَسُن قصدها، وغلطت في فعلها؛ لأنها جهلت أن ما فعلتْ منهيٌّ عنه، فلينظر إلى قصدها».
[9] مسألة في المرابطة بالثغور، ص 50، 51، 59؛ باختصار.
[10] تأملات في الدين والحياة، ص 173.
[11] مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/291.
المصدر: موقع الشيخ عبدالعزيز محمد عبداللطيف