زل "حمار" العلم في الطين!!

منذ 2009-02-27
العلماء هم ورثة الأنبياء وهم قادة الأمة من الضلال إلى الهداية ومن الظلام إلى النور، وبصلاحهم تصلح الأمة وبفسادهم تفسد، وأكبر مصيبة تحل على الأمة إذا برز فيها علماء السوء الذين يلبسون على الناس دينهم، ويجعلون الحق باطلا والباطل حقا رغبة منهم في فتات الدنيا وحطامها.

وأسوأ اولئك العلماء من باتوا علماء لـ (السلاطين) يفتون لهم بما شاؤوا، يقتاتون على موائدهم ويترقبون عطاياهم، همهم الأكبر رضى (الحاكم) عنهم وإن كان بسخط (الرب) العظيم القهار، ومن قرأ سير علماء الأمة الربانيين من عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يومنا هذا علم أن العلماء المخلصين لم يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، بل صدعوا بالحق أمام كل سطان جائر، وإن كانوا خلفاء يحكمون بشرع الله، لا بقوانين وضعية!!، بل كان بعض هؤلاء الخلفاء يسيرون بالجيوش في سبيل الله ويحكمون بكتاب الله وسنة رسوله، ومع هذا لم يتزلف اليهم علماء الشريعة والدين، ولم يقبل الكثيرون عطاياهم، ولم يقبلوا بمجالستهم طمعا في الدنيا وزهرتها، وذلك لأنهم تعلموا العلم لله فزادهم الله خشية، وأورثهم غنى عما في أيدي الناس.

وهذه أمثلة قليلة جدا من مواقف علماء الأمة الصادقين المخلصين، الذين وإن لم يكفّروا الحكام ولم يدعوا الناس للخروج على حكامهم وولاتهم، لكنهم لم يجاملوهم على حساب الشريعة، ولم يطيعوهم في كل أمر، فمنهم من قتل ومنهم من جلد وعذب، ومنهم من سجن، ومنهم من نفي وطورد، لأنهم علماء دين لا علماء دنيا وأتباع السلاطين!!

مر (المهلب) وهو والي خراسان وكان مجاهدا مقاتلا في سبيل الله، على (مالك بن دينار) وهو يمشي، فرآه (مالك) يمشي متبخترا، فقال (مالك): "إنها مشية يكرهها الله الا بين الصفين!!"، فقال (المهلب): "أما تعرفني؟!"، قال (مالك): "بلى، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة!!".. فانكسر (المهلب) وقال: "الآن عرفتني حق المعرفة!!".

وهذا العالم الجليل، والتابعي الكبير (عطاء بن ابي رباح) دخل على الخليفة (عبدالله بن مروان) في الحج، فأخذ يذكّره بالله وينصحه ويوصيه بفقراء المسلمين وأهالي المجاهدين في سبيل الله، فلما انتهى قال الخليفة له: "إنما سألتنا حوائج غيرك وقد قضيناها، فما حاجتك؟!"، فقال (عطاء): "مالي إلى مخلوق حاجة!!"، ثم خرج!!، فعجب الخليفة منه وقال: "هذا وأبيك الشرف والسؤدد!!".

وهذا شيخ الإسلام (إبراهيم بن إسحاق الحربي) يأتيه رجل من أصحاب المعتضد بعشرة آلاف من أمير المؤمنين يطلب منه أن يفرقها للفقراء والمحتاجين، فرده (إبراهيم) وقال للرجل: "قل لأمير المؤمنين: هذا مال لم نشغل انفسنا بجمعه فلا نشغل بتفرقته!!، ثم قل له: إن تركتنا وإلا تحولنا من جوارك!!".

هكذا كانوا لا يقبلون العطايا والهدايا حتى لا تؤثر في نفوسهم وقلوبهم، بل كانوا لا يقبلونها حتى وإن كانت لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين!!، وإن كان الأمر ليس لجرم وقد فعلها غيرهم، لكنه الورع والبعد عن الشبهات الذي هو سمة علماء ذلك الزمان.

ولهذا كتب (سفيان الثوري) رسالة إلى (عباد بن عباد) وجاء فيها: "..واياك والأمراء أن تدنو منهم وتخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تخدع فيقال لك: تشفع وتدرأ عن مظلوم، أو ترد مظلمة، فإن ذلك خديعة إبليس!!، وإنما اتخذها فجّار القراء سلّما، وكان يقال: اتقوا العابد الجاهل والعالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون".

إن الأمة الإسلامية ابتليت ومازالت بفئتين، فئة لا هم لها إلا (التكفير) و(الخروج) ولم يسلم منهم صاحب المعصية إلا وكفروه، وسلوا سيوفهم على أهل الإسلام وتركوا أهل الكفر والأوثان، وفئة (مرجئة) جعلوا الكفر بمنزلة الإيمان، لا هم لهم إلا الدفاع عن السلطان وتبرير خطاياه وإن كانت تؤدي بالأمة إلى هلاكها وضياعها، فبئس الفريقان!!

جاء سليمان بن عبدالملك مع ابنيه إلى (عطاء) ليسألوه عن بعض مسائل الحج، فأجابهم ولم يلتفت إليهم!!، فقال سليمان لابنيه: "اجتهدا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود"!!

وهذا (العباس) أمير الكوفة أرسل ألف درهم (للأعمش) فأرجعها إليه وكتب له الفاتحة، فكتب (الأمير) له: "أبلغك أنا لا نحسن القرآن؟!"، فأجابه الأعمش: "أبلغك منا أنا نبيع العلم؟!".

ولم يكن علماء الأمة يستهينون بالعلم الذي عندهم، فهذا الإمام (ربيعة الرأي) لما دخل على الوليد بن يزيد -وهو خليفة- قال: "يا ربيعة، حدثنا..."، قال (ربيعة): "ما أحدث شيئا!!"... فلما خرج ربيعة قال: "ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليّ كما يقترح على المغنية!! حدثنا يا ربيعة!!".

وبعث (محمد بن ابراهيم) والي مكة إلى سفيان الثوري بمائتي دينار فأبى سفيان أن يقبلها!!، فقال: "يا أبا عبدالله، كأنك لا تراها حلالا؟"، قال: "بلى، ولكن أكره أن أذل!!".

إن مواقف العلماء الصادقين من زمن الصحابة إلى يومنا هذا مع الخلفاء والأمراء والسلاطين لا يمكن عدها ولا حصرها، ومن قرأ سيرة سعيد بن جبير وابن المسيب وعطاء وعمر بن عبدالعزيز والعز بن عبدالسلام وسفيان الثوري والإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية والبخاري وغيرهم الكثير والكثير لعلم حقا أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وأنهم كانوا صادقين في عهدهم مع الله، ولهذا أصابهم ما أصابهم من البلاء ولكن حفظوا للأمة دينها وعقيدتها.

ولا تزال الأمة تحتفظ بعلمائها الصادقين الذين يدخلون في قول الله تعالى: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء: 59]، من الذين يصدعون بالحق ولا يخافون لومة لائم، أما أولئك الذين رضوا بأن يكونوا أدوات في يد السلطات، يستخدمونهم لإسكات المعارضين، ويستنطقونهم لإفتاء الملايين، بما يخالف الشريعة والدين، المهم عندهم هو بقاؤهم في المناصب وإغداق الملايين!!؛ فهؤلاء وغيرهم نذكرهم بالله جل وعلا فهو الغني وهو المتفضل، وهو أحق أن يخشى جل وعلا فليتقوا الله ربهم.

وما أجمل الأبيات التي كتبها (عبدالله بن المبارك) لما سمع أن صاحبه (ابن علية) ولي القضاء غضب عليه وكتب له شعرا طويلا قال في آخره:

أين رواياتك في سردها
لترك أبواب السلاطين

إن قلت أكرهت فهذا باطل
زل حمار العلم في الطين






المصدر: طريق الإيمان

نبيل بن علي العوضي

داعية مشارك في إدارة الوعظ والثقافة في وزارة الأوقاف الكويتية

  • 9
  • 3
  • 16,636
  • ايمن

      منذ
    [[أعجبني:]] the strength of the essay like a thunderboalt

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً