حالقة الدِّين

منذ 2015-09-23

لقد أحدثت الألفاظ التي يتناقلها طلبة العلم عبر وسائل الإعلام المختلفة شرخاً في جسد الأمة جعلتها شيعاً وأحزاباً، بل قد تطور الأمر عند بعضهم وانتقلوا من القول إلى الفعل فإذا تلاقوا لا يسلم أحدهم على الآخر، وإذا مرض لا يَعُدْه، وإذا مات فرح بموته؛ فيهدم الحقوق التي ينبغي أداؤها لمن هو في دائرة الإسلام، بل تطور إلى أكثر من ذلك فاستحلوا دماء بعضهم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم واستنَّ بسنَّته واهتدى بهديهم إلى يوم الدين، أما بعد..

فإن محبة المسلمين كل المسلمين وعدم تفرقهم واجتماع أمرهم مطلب شرعي وركيزة كبرى في ديننا الإسلامي، يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة  رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال»، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا -عباد الله- إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (رواه الإمام أحمد وأصله في مسلم).

وفي البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

إنه لمن المؤسف أن يحضر أحدنا مجلساً لطلاب العلم، أو يقرأ في كتاب من كتب الردود، أو يتصفح الشبكة العنكبوتية، وكثيراً ما نسمع ونقرأ هذه العبارات (هذا زنديق)، (قاتله الله أنى يؤفك)، (جاهل متعالم)، (يحب الظهور)، (أضل من الدجال)، (يريد هدم الإسلام)، (الحمد لله الذي أراح الأمة منه)، تقال عند موته... إلخ.

والقائمة تطول بمثل هذه الألفاظ وما يشبهها، وعندما تعرف الرامي والمرمي بها والسبب الداعي لذلك يتملكك العجب؛ فالرامي طالب علم، والمرمي بها كذلك، والسبب خلاف علمي أو فقهي يسوغ فيه الاجتهاد.

لقد أحدثت هذه الألفاظ التي يتناقلها طلبة العلم عبر وسائل الإعلام المختلفة شرخاً في جسد الأمة جعلتها شيعاً وأحزاباً، بل قد تطور الأمر عند بعضهم وانتقلوا من القول إلى الفعل فإذا تلاقوا لا يسلم أحدهم على الآخر، وإذا مرض لا يَعُدْه، وإذا مات فرح بموته؛ فيهدم الحقوق التي ينبغي أداؤها لمن هو في دائرة الإسلام، بل تطور إلى أكثر من ذلك فاستحلوا دماء بعضهم، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك قضية إخواننا في الصومال، فقد كان الحاكم ومن معه ممن يسمون بالإسلاميين، ومعارضوه كذلك يطلق عليهم نفس الوصف المذكور، وتطور الخلاف بينهم حتى تقاطعوا وتهاجروا ثم تقاتلوا.

روى أبو داود عن أبي الدرداء، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"، قالوا: بلى، قال: "صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»، وفي رواية خرجها الإمام أحمد وغيره "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء، والبغضاء هي: الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده، لا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم".

إن ترك المجال لطلبة العلم في التنابز بمثل هذه الألقاب والاستمرار عليها وتكرارها ليل نهار خاصة من خلال وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي دون الأخذ على أيديهم من قبل العلماء والموجهين والمربين من شأنه أن يحدث نوعاً من التراكم النفسي لديهم تجاه الدعاة والمصلحين، ويصبح لكثرة ما يسمع عن هذا الداعية أو ذاك إذا رآه كأنه شيطان يمشي على الأرض.

ولعلني لا أكتمكم سراً أن هذا المقال كتبته بعد أن حصلت لي قصة طريفة ومؤلمة في نفس الوقت، حيث دعاني أحد أصدقائي لمنزله لمشاركته في وجبة العشاء مع ضيوفه من طلبة العلم القادمين من فرنسا، فلبيت الدعوة وحضرت إليه وقابلت ضيوفه وتحدثنا عن فرنسا والنشاط الإسلامي هناك، وكان من ضمن الضيوف طالب علم من فرنسا فلفت نظري أن صفته الخلقية تشبه صفة أحد الدعاة المشهورين فقلت له ممازحاً: "سبحان الله أن تشبه الداعية الفلاني"، فنظر إليّ وكأنني صفعته على وجهه وقال على الفور: "أعوذ بالله"، فابتسمت له وقلت له: "لماذا يا هذا؟ هل تعرف الرجل؟"، قال: "نعم، إنه ضال مُضِل ولا يشرفني أن يكون شبهي مثله"، فقلت: "هل رأيت الرجل وسبق أن التقيت به وسمعت منه؟"، قال: "لا!".

إنه بمقدار ما في هذه القصة من طرافة إلا أنها تبين مدى الهوة السحيقة التي وصل لها طلبة العلم في خلافاتهم، وغالب هذه الخلافت خلافات شخصية ألبست لبوساً دينياً، أو كلاماً ملفقاً، أو كلاماً فهم على غير مراد قائله، أو تم اجتزاؤه من سياقه وسباقه، أو بسبب تأثر التابع بالمتبوع ونحو ذلك.

إن الشرع المطهر يهتم باجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقهم حتى لو أدى ذلك إلى قتل زعيم من زعمائهم فضلاً عن آحادهم، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما»، وفي رواية عند مسلم أيضاً قال: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه».

إن هذه الأحاديث وإن كانت واردة في مجال الخلافة إلا أن دلالتها على اهتمام الشارع بالاجتماع وعدم الفرقة غير خافية، لقد أمر الشارع بقتل من يريد تفريق المسلمين؛ مع أن إراقة دم المسلم ليست بالأمر الهيِّن؛ فقد ورد في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم»، وذلك لأن مصلحة الاجتماع وعدم الفرقة أولى وأوجب.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن لا يُتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة أو خاصة، مثل قوله: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة"، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ويجمع شملهم ويؤلف فيما بينهم ويهديهم صراطه المستقيم ويعيذهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. إنه خير مسؤول. والحمد لله رب العالمين.

 

سعود بن نفيع السلمي

  • 3
  • 0
  • 5,802

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً