صيد الأوراد (8): لا ريب فيه
والوقف على قوله تعالى: {لا ريب فيه} أولى للآية التي ذكرنا، ولأنه يصير قوله: {هدى} صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: {فيه هدى}.
يقول الله تعالى عن ذلــــلك الكتاب:
{ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، هنا تعانق حوالَيْ: {فيه}، تجده مُعَلَّمًا كما في بعض المصاحف بوضع ثلاث نقاط بعد باء {ريب}، وبعد هاء {فيه}، ومعناه: أنك إذا توقفت على الأول فلا تتوقف على الثانية، فيمكنك أن تقرأ: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ}؛ فتقف، ثم تقرأ: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، كمـــا يمكنك أن تقف على {فيه}؛ فتقرأ: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ}، فتقف، ثم تقرأ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، فما الفرق، وأيهما أولى؟!
والوقف على الأُولى: كما جاء عن بعض القراء كنافع وعاصم، حيث وقفا على {ريب}: ويعني أن ذلك الكتاب لا ريب ولا شك في أنه من الله تعالى، وأنه جاء بالحق لا شك فيه، وهو ينفي أن يكون الكتاب ريبًا، لا يدع منه شيئًا؛ لأنه نكرة منفية، مِن صيغ العموم؛ فتعم. وقد "طعن بعض الملاحدة فيه فقال: إن عنى أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه"[الرازي، مفاتيح الغيب:2/ 266].
لكن تبدأ بعدها بقراءة: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، يعني في هذا الكتاب هُدى، لا كما تدل القراءة الأخرى أنه كله هدى.
أمـــا الوقف على {فيه} وهو المشهور عند القُرَّاء، ويعني أنك تنفي الريب من الكتاب وعنه، فهو ليس فيه أدنى ريب، وإن وقع في الرّيب فيه أقوام، فالرَّيب فيهم لا فيه، لأنه لو وقف على: {لا ريب}، لقالوا كما قال الملاحدة: لا ريب عندك، ونحن نرتاب فيه، فبيَّن لهم أنه يقصد نفي الريب من كتابه لا مِن عقائدهم.
واعلم أن القراءة المشهورة بالوقف على {لا ريب فيه} توجب ارتفاع الريب بالكلية، وهي الموافقة لقوله تعالى: {الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} [السجدة: 1، 2].
ثم تقرأ: {هدى للمتقين}، يعني هذا الكتاب كله هُدى للمتقين، فكل ما فيه هُدًى: هدى في العقائد، وفي شرائع الفقه والإيمان، ومحاسن الأخلاق، ومناهج العلم والعمل، بل هدًى لأحسنها وأقومها في كل شيء، كما قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9].
قال ابن كثير: " والوقف على قوله تعالى: {لا ريب فيه} أولى للآية التي ذكرنا، ولأنه يصير قوله: {هدى} صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: {فيه هدى}"[التفسير: 1/ 162].
لأنه على هذه القراءة يكون الكتاب نفسه هدى، وكلّه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.
كل يوم وإلى آخر يوم من هذه الدنيا تثبت الأيام والتجارب البشرية الصادقة هذا القرآن لا ريب في أنه حقٌّ من عند الحق سبحانه، وأنه لا ريب فيه ولا تناقض ويشمل في كلماتهما يخالف فطرة بشرية، ولا أحكامه الشرعية ما يخالف مصالح العباد ونفعهم ودفع الفساد عنهم؛ في الدنيا والآخرة، ولا ما يناقض حقيقة علمية، وأن ما تُهِّم فيه المخالفة فالخطأ فيما ظنُّوه حقائق.
سبقه مقال: ذلك الكتاب
ويتبع إن شاء الله تعالى
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: