جريمة حصار غزة في الفقه الإسلامي
منذ 2009-03-18
لم يشهد التاريخ البعيد أو القريب
مأساة كالتي يعيشها أهل غزة؛ إذ تداعى عليهم الجميع، القريب قبل
البعيد، فما أن توقَّفت المحرقة التي سيقوا إليها بتواطؤ مفضوح وعلني
مما يسمى بالمجتمع الدولي، وتحت غطاء ما يسمونه "الشرعية الدولية"،
حتى تحرَّكت كثير من العواصم، وعقدت قمم لإحكام الحصار عليهم، تارة
لمنع تهريب السلاح الذي لم يُتفق بعد على تعريفه، فقد يكون من جملة
السلاح: الأدوية، والطعام، ومواد البناء، ومستلزمات المدارس، وتارة
أخرى بمنع حماس من السيطرة على القطاع، وغير ذلك من الذرائع.
وهذه الحالة وإن كان أهلنا في غزة يعيشونها منذ أكثر من عامين، إلا أنَّ الجديد فيها هذه المرة هي مباركة ومشاركة كثير من الدول الأوروبية وغير الأوروبية فيها، وفق اتفاق دولي سعى إليه الكيان الصهيوني قبل وقف المحرقة بيوم واحد مع أمريكا، لتقوم الأخيرة بدور الشرطي في المنطقة؛ لحماية الكيان الصهيوني من الأدوية التي تدخل للمرضى، ومواد البناء التي تستخدم في إيواء المشرَّدين في الشوارع والمدارس، بعدما أقدم المحتل المتحضر والأكثر أخلاقية على دك البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، وبالمحرَّم من الأسلحة، وقد تطوَّعت بعض الدول الأوروبية للمشاركة في هذه الحملة.
وقد يتخيَّل البعض من المسلمين أنه ما دام القصف قد توقَّف، وهدأت الأمور بعض الشيء، وبدأت مفاوضات تثبيت ما أسموه "وقف إطلاق النار" فإنَّ الأمر يسير، وينبغي أن تهدأ نفوسنا، ونصير إلى همومنا، فيمكن لأهل غزة أن يعيشوا تحت أي ظروف كما كانوا يعيشون من قبل، ويمكنهم التغلب على إجراءات الحصار بطريقتهم الخاصة، بحفر الأنفاق تارة، وبما يتكرم به الصهاينة من فتات الطعام والشراب والوقود والدواء تارة أخرى، متجاهلين أنَّ الحصار في حد ذاته يعد عدوانًا مباشرًا على هذا الشعب، وهذا ما يجب أن يعيه المسلمون أولا حتى لا تُصوَّر الأمور تصويرًا خاطئًا، ويفهم أنه إن توقف القصف واستمر الحصار فلا داعي للمقاومة.
وهنا يلزم بيان الموقف الشرعي الصحيح من استمرار حالة الحصار الشامل على غزة، ومشاركة كثير من الدول في إحكامه، وسكوت البعض الآخر عليه، بل وربما تسويغه بمسوغات سياسية وغيرها، وهو ما نبرزه فيما يلي:
أولا: الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني؛ بمعنى حبس أهل غزة فيها، ومنعهم من الخروج منها، أو الدخول إليها، ومنع الحركة التجارية، بل ودخول المساعدات الإنسانية وغيرها، وما يترتَّب على ذلك من إلحاق الضرر الفادح بالناس أصحاء ومرضى بسبب نقص الطعام والشراب والدواء والوقود اللازم، وزيادة البطالة، كل ذلك عده الفقهاء من صور العدوان العمد، والذي يترتَّب عليه -إذا ترتب عليه- موت المحاصَر أن يقتص من المحاصِر.
قال الدسوقي الفقيه المالكي: "يقتص ممن منع الطعام والشراب ولو قصد بذلك التعذيب"... وقال نقلاً عن ابن عرفة المالكي: "من صور العمد... أنّ من منع فضل مائه مسافرًا -عالما بأنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم يسقه- قُتِل به وإن لم يل قتله بيده ا هـ فظاهره أنه يقتل به سواء قصد بمنعه قتله، أو تعذيبه "وفي الفروق" من حبس شخصًا، ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له".
وقال زكريا الأنصاري الشافعي: "لو حبسه ومنعه الطعام أو الشراب والطلب له مدة يموت مثله فيها غالبًا جوعًا أو عطشًا، ومات، لزمه القود؛ لكونه عمدًا، لظهور قصد الإهلاك به، وتختلف المدة باختلاف المحبوس قوَّة وضعفًا، والزمان حرًّا وبردًا، ففقد الماء في الحر ليس كهو في البرد، وكذا يلزمه القود إن سبق لهجوع أو عطش، وكانت المدتان تبلغان المدة القاتلة، وعلمه الحابس لما ذكر".
وقال ابن قدامة الحنبلي في صور القتل العمد الموجب للقود (القصاص): "الضرب الرابع: أن يحبسه في مكان، ويمنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها حتى يموت، فعليه القود".
فهذه نصوص الفقهاء تشهد بأن من منع الطعام والشراب عن شخص حتى مات، قاصدًا قتله أو تعذيبه، فهو قاتل مجرم، فكيف بمن منع الطعام والشراب والدواء عن مليون ونصف من المدنيين، وفرض حصارًا ظالمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا حتى أودى بحياة الكثيرين؟!، وهذه الجريمة التي ينفذها الصهاينة بحق شعب غزة تعد صورة من صور جرائم الإبادة الجماعية في نظر القانون الدولي المعاصر حسب ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، والتي اعتمدت، وعُرضت للتوقيع والتصديق، أو للانضمام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948، وكان بدء نفاذها في 12كانون الأول/يناير 1951حيث جاء في المادة الثانية من هذه الاتفاقية صور الإبادة الجماعية على الوجه التالي: "في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيًّا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية، بصفتها هذه:
أ) قتل أعضاء من الجماعة.
ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ج) إخضاع الجماعة -عمدًا- لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا.
د) فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
هـ) نقل أطفال من الجماعة -عنوة- إلى جماعة أخرى" فهذا النص بكامل صوره ينطبق على ما تقوم به إسرائيل في حق أهل غزة.
ثانيا: في الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني إذلال ومهانة للشعب الفلسطيني قد تكون أعظم مما يحدث في المواجهة العسكرية، فلنا أن نتصور أمَّة أو شعبًا يُمنع من الدخول إلى وطنه، أو الخروج منه إلى غيره، ويُمنع الطعام والشراب والدواء، بل ويُمنع الحديث معه، ويعيش كما يقول العدو "غزة لا حياة ولا موت"، فيسمح بين وقت وآخر بمرور بعض الضروريات كلما أشرفت غزة على الموت، وهذه هي المهانة والذل.
إن الله كرَّم بني آدم جميعًا، وكان من مظاهر تكريمهم أن حملهم في البر والبحر يتحركون بحريَّة، ويتنقلون من أرض لأرض طلبًا للطيب من الرزق، ويوم أن يحرم الإنسان من مظاهر التكريم التي منحها الله إياه، فيجب عليه أن يجاهد تحصيلاً لها.
ثالثا: الحصار المفروض على غزة هو من قِبَل عدو محتل غاصب للأرض، وذريعته في الحصار داحضة وسخيفة، فهو لا يريد رفع الحصار إلا إذا سقطت حكومة حماس، أو اعترفت بحق الكيان الصهيوني في اغتصاب الأرض، والاعتداء على الفلسطينيين في أي وقت، وأخيرًا فتح المعابر مقابل إطلاق سراح الجندي الصهيوني" شاليط" في الوقت الذي تعج فيه معتقلات العدو بآلاف الأسرى من الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم يدافعون عن حقهم في الحياة وطرد المغتصبين، فإن لم تذعن حماس لهذه الطلبات فهي ومن يوافقها من الحركات إرهابية، ولست أدري بأي منطق يرى البعض من الذين يسمون أنفسهم حكماء وعقلاء أن على حماس الإذعان لشروط الرباعية، وترك المغتصبين يتجولون بحرية في الأراضي التي اغتصبها العدو، بينما أصحابها يعيشون في ملاجئ في هذا البلد أو ذاك؟!
واجب الأمة في رفع الحصار:
نظرًا للآثار التي يخلفها الحصار على أي شعب محاصر، فقد اعتبر الفقهاء أن حصار أي بلد مسلم من الحالات التي يتعين فيها الجهاد؛ أي يصبح الجهاد فرض عين لا يحتاج إلى إذن أصحاب الإذن.
ومما ورد في ذلك ما قاله البهوتي الحنبلي في حالات فرضية الجهاد: "وَمَنْ حَضَرَ الصَّفَّ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، أَوْ حَصْرِ عَدُوٍّ، أَو ْحَصَرَ بَلَدَهُ عَدُوٌّ، أَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ بَعِيدٌ فِي الْجِهَاد، ِأَوْ تَقَابَلَ الزَّحْفَان الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، أَوْ اسْتَنْفَرَهُ مَنْ لَهُ اسْتِنْفَارُهُ، وَلاعُذْرَ- تَعَيَّنَ عَلَيْهِ َأيْ : صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ"، وفي نص آخر يظهر فيه سقوط إذن الوالد والدائن ونحوهما في حالة تعيُّن الجهاد: "إلا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ لِحُضُورِ الصَّفِّ، أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ، أَوْ اسْتِنْفَارِ الإِمَامِ لَهُ وَنَحْوِهِ فَيَسْقُطُ إذْنُهُمَا وَإِذْنُ غَرِيمٍ; لأَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ"، فالواضح من النص المتقدم: أن حالة حصار العدو لبلد لا تختلف في الحكم عن حالة الاحتلال، أو القتل ونحوهما من حالات العدوان التي يجب فيها الدفع.
وهذا النص يؤكد أن جميع ماتقوم به الفصائل الجهادية -من دفع للعدوان بأي وسيلة تراها مناسبة، وحسب ما يتيسَّر لها- هو حق شرعي أصيل، وفي مقابل ذلك يتعيَّن على الأمة كلِّها أن تشارك مشاركة إيجابية في مساندة ودعم الفصائل الجهادية؛ رفعًا للحصار، وإزالة للاحتلال كلِّه، وهذه المشاركة الإيجابية لا تنطلق من بواعث إنسانية فقط، بل قيامًا بالواجب الشرعي، وألخص بعضًا من صور هذه المشاركة الواجبة فيما يلي:
أولاً: وجوب تقديم الدعم المادي باختلاف صوره وأشكاله -بمافيها السلاح - للدفاع عن النفس، واسترداد الحقوق المسلوبة. وما يُقدَّم ليس من قبيل التعاطف الإنساني، بل من قبيل القيام بفرائض الدِّين، وهو فرض الجهاد بالمال الذيي أخذ نفس أحكام الجهاد بالنفس، كما قال الجصاص الفقيه الحنفي المعروف في قوله تعالى: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [سورة التوبة: 41]، فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعًا، فمن كان له مال وهو مريض، أو مقعد، أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله؛ بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما أنَّ من له قوَّة وجلد، وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه، وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه، ومن قوي على القتال، وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال، ومن كان عاجزًا بنفسه معدمًا فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة التوبة: 91].
وقال الزيلعي في (تبيين الحقائق): "وأحوال الناس مختلفة، فمنهم من يقدر على الجهاد بالنفس والمال، ومنهم من يقدر بأحدهما، وكل ذلك واجب؛ لقوله تعالى: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [سورة التوبة: 41]، وقوله: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [سورة التوبة: 111]، واستنكر ابن القيم تناقض البعض في أحكامهم، فيقول في هذا المعنى: "من أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه، ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير، فقوله ظاهر التناقض".
وفي (الموسوعة الفقهية) يجب على المسلمين أن لا يعطِّلوا الجهاد في سبيل الله، وأن يجهزوا لذلك الغزاة بما يلزمهم من عدَّة وعتاد وزاد، لقول الله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة: 195]، وقوله عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [سورة الأنفال: 60]، وتجهيز الغزاة واجب المسلمين جميعًا، حكَّامًا ومحكومين، وهو من أعظم القرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا» [رواه البخاري]، وإذا كان تقديم الدعم لأهل غزة المحاصرين ضربًا من ضروب الجهاد بالمال لدفع حالة الحصار، فإن ثمت واجبًا آخر يقع على عاتق الدول والشعوب المجاورة لغزة، وهو واجب القيام بحقوق الجوار، وكما أن للفرد جيرانًا، فللدول جيران، وللمدن جيران، وليس الجار هو الجار الأول، بل أوصله البعض إلى أربعين، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن جيران يتمتعون ويأكلون ويشربون ولهم جيران معدومون وهم يعلمون ذلك، فأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبيه» [صححه الألباني].
ثانيا: تقديم الدعم المعنوي، والمتمثِّل في تكثيف الاتصالات الشخصية بأهل غزة، والرسائل البريدية، والتلفزيونية، وكتابة المقالات، والدعاء، والمسيرات، وغير ذلك من هذه المظاهر التي ترفع من روحهم المعنوية، ويجب ألا نقلل من أثرها. وفي المقابل يجب الإنكار بالطرق الشرعية على بعض الكتاب والإعلاميين ونحوهم ممن يتفقون مع العدو الصهيوني في رؤيته وقراراته تصفية لحسابات سياسية، أو طلبًا لمغنم، أو خوفًا من أن تصيبهم دائرة، فلا نترك مقالة ولا خبرًا إلا ونعلّق عليها ردًّا لها، ودحضًا لما فيها من افتراءات، وهذا باب سهل ميسور لكل منصف إذا أراد أن يكون له دور فاعل في هذه الأزمة. ولا نقلِّل من قيمة الكلمة، فشطر الكلمة التي تعين على قتل مسلم تحجب صاحبها من رحمة الله، ففي المقابل من أعان على إحياء نفس بشطر كلمة شملته رحمة الله عز وجل.
ثالثا: عدم التردُّد في كسر الحصار بأي طريق يتيسر لتوصيل الاحتياجات اللازمة لأهل غزة ردًّا على إغلاق المعابر الرسمية، وإذا كان للتعليمات الرسمية للدول حرمة على مواطنيها فحرمة المسلم أعظم حرمة من هذه القرارات، فمع عظم حرمة الكعبة لكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر حرمة المؤمن أعظم، ففيما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَ حُرْمَتَك، وَمَا أَعْظَمَ حَقَّك، وَالْمُسْلِمُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْك، حَرَّمَ اللَّهُ مَالَهُ، وَحَرَّمَ دَمَهُ وَحَرَّمَ عِرْضَهُ وَأَذَاهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ سُوءٍ»، ولذلك فإنَّ الواجب الشرعي على أهل الثغور المتاخمة لغزة أن يبذلوا ما في وسعهم لتوصيل الاحتياجات اللازمة للقطاع، وهم مأجورون إن شاء الله.
رابعًا: فضح الكيان الصهيوني إعلاميًّا بتسليط الضوء على جرائمه وتوثيقها، ونشرها بين الجميع مسلمين وغير مسلمين، وترديدها بين الأولاد والناشئة، وفي الخطب والدروس، وفي المراكز الثقافية المختلفة، وإقامة الندوات والمؤتمرات مع استخدام المصطلحات الصحيحة، كما يجب فضحه قضائيًّا برفع الدعاوى القضائية أمام جهات الاختصاص المحلية والإقليمية والدولية، بغض النظر عن جدواها العملية، فقد تكون من باب تعبئة الرأي العام، وقيامًا بواجب النصرة للمظلوم، وفضحاً للأخلاقيات الصهيونية، فلربما نجحت بعض تلك الدعاوى في حصار مجرمي الصهاينة، فلا يستطيعون مغادرة فلسطين لأي بلد آخر خوفًا من قرارات اعتقال. وهذا الواجب من صور النصرة للمسلم الذي انتقص عرضه، وانتهكت حرمته، وقد أخرج البيهقي والطبراني بإسناد حسن عن جابر وأبي أيوب الأنصاري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه منحرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته. وما من امرئ ينصر مسلماً في موطن ينتقصفيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته».
خامساً: عدم التعامل مع العدو الصهيوني بأي وجه من وجوه التعامل، ومقاطعة الدول التي تشاركه وتدعمه، فلا يعقل شرعاً ولا عقلاً أن يقوم العدو الصهيوني بذبح أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، ويهدم بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا فوق رؤوسنا، ومع ذلك يصدر له الطعام والشراب، والوقود، وتمتلئ المحلات التجارية للدول الإسلامية ببضائعه من ملابس، وأجهزة كهربائية، وأغذية وغيرها، وهذا واجب يحتاج إلى تأصيل شرعي، وبراهين سنوضحها في مقالة أخرى إن شاء الله.
أسأل الله أن يكشف البلاء والكرب عن كل مكروب ومبتلى، إنَّه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وهذه الحالة وإن كان أهلنا في غزة يعيشونها منذ أكثر من عامين، إلا أنَّ الجديد فيها هذه المرة هي مباركة ومشاركة كثير من الدول الأوروبية وغير الأوروبية فيها، وفق اتفاق دولي سعى إليه الكيان الصهيوني قبل وقف المحرقة بيوم واحد مع أمريكا، لتقوم الأخيرة بدور الشرطي في المنطقة؛ لحماية الكيان الصهيوني من الأدوية التي تدخل للمرضى، ومواد البناء التي تستخدم في إيواء المشرَّدين في الشوارع والمدارس، بعدما أقدم المحتل المتحضر والأكثر أخلاقية على دك البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، وبالمحرَّم من الأسلحة، وقد تطوَّعت بعض الدول الأوروبية للمشاركة في هذه الحملة.
وقد يتخيَّل البعض من المسلمين أنه ما دام القصف قد توقَّف، وهدأت الأمور بعض الشيء، وبدأت مفاوضات تثبيت ما أسموه "وقف إطلاق النار" فإنَّ الأمر يسير، وينبغي أن تهدأ نفوسنا، ونصير إلى همومنا، فيمكن لأهل غزة أن يعيشوا تحت أي ظروف كما كانوا يعيشون من قبل، ويمكنهم التغلب على إجراءات الحصار بطريقتهم الخاصة، بحفر الأنفاق تارة، وبما يتكرم به الصهاينة من فتات الطعام والشراب والوقود والدواء تارة أخرى، متجاهلين أنَّ الحصار في حد ذاته يعد عدوانًا مباشرًا على هذا الشعب، وهذا ما يجب أن يعيه المسلمون أولا حتى لا تُصوَّر الأمور تصويرًا خاطئًا، ويفهم أنه إن توقف القصف واستمر الحصار فلا داعي للمقاومة.
وهنا يلزم بيان الموقف الشرعي الصحيح من استمرار حالة الحصار الشامل على غزة، ومشاركة كثير من الدول في إحكامه، وسكوت البعض الآخر عليه، بل وربما تسويغه بمسوغات سياسية وغيرها، وهو ما نبرزه فيما يلي:
أولا: الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني؛ بمعنى حبس أهل غزة فيها، ومنعهم من الخروج منها، أو الدخول إليها، ومنع الحركة التجارية، بل ودخول المساعدات الإنسانية وغيرها، وما يترتَّب على ذلك من إلحاق الضرر الفادح بالناس أصحاء ومرضى بسبب نقص الطعام والشراب والدواء والوقود اللازم، وزيادة البطالة، كل ذلك عده الفقهاء من صور العدوان العمد، والذي يترتَّب عليه -إذا ترتب عليه- موت المحاصَر أن يقتص من المحاصِر.
قال الدسوقي الفقيه المالكي: "يقتص ممن منع الطعام والشراب ولو قصد بذلك التعذيب"... وقال نقلاً عن ابن عرفة المالكي: "من صور العمد... أنّ من منع فضل مائه مسافرًا -عالما بأنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم يسقه- قُتِل به وإن لم يل قتله بيده ا هـ فظاهره أنه يقتل به سواء قصد بمنعه قتله، أو تعذيبه "وفي الفروق" من حبس شخصًا، ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له".
وقال زكريا الأنصاري الشافعي: "لو حبسه ومنعه الطعام أو الشراب والطلب له مدة يموت مثله فيها غالبًا جوعًا أو عطشًا، ومات، لزمه القود؛ لكونه عمدًا، لظهور قصد الإهلاك به، وتختلف المدة باختلاف المحبوس قوَّة وضعفًا، والزمان حرًّا وبردًا، ففقد الماء في الحر ليس كهو في البرد، وكذا يلزمه القود إن سبق لهجوع أو عطش، وكانت المدتان تبلغان المدة القاتلة، وعلمه الحابس لما ذكر".
وقال ابن قدامة الحنبلي في صور القتل العمد الموجب للقود (القصاص): "الضرب الرابع: أن يحبسه في مكان، ويمنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها حتى يموت، فعليه القود".
فهذه نصوص الفقهاء تشهد بأن من منع الطعام والشراب عن شخص حتى مات، قاصدًا قتله أو تعذيبه، فهو قاتل مجرم، فكيف بمن منع الطعام والشراب والدواء عن مليون ونصف من المدنيين، وفرض حصارًا ظالمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا حتى أودى بحياة الكثيرين؟!، وهذه الجريمة التي ينفذها الصهاينة بحق شعب غزة تعد صورة من صور جرائم الإبادة الجماعية في نظر القانون الدولي المعاصر حسب ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، والتي اعتمدت، وعُرضت للتوقيع والتصديق، أو للانضمام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948، وكان بدء نفاذها في 12كانون الأول/يناير 1951حيث جاء في المادة الثانية من هذه الاتفاقية صور الإبادة الجماعية على الوجه التالي: "في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيًّا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية، بصفتها هذه:
أ) قتل أعضاء من الجماعة.
ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ج) إخضاع الجماعة -عمدًا- لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا.
د) فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
هـ) نقل أطفال من الجماعة -عنوة- إلى جماعة أخرى" فهذا النص بكامل صوره ينطبق على ما تقوم به إسرائيل في حق أهل غزة.
ثانيا: في الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني إذلال ومهانة للشعب الفلسطيني قد تكون أعظم مما يحدث في المواجهة العسكرية، فلنا أن نتصور أمَّة أو شعبًا يُمنع من الدخول إلى وطنه، أو الخروج منه إلى غيره، ويُمنع الطعام والشراب والدواء، بل ويُمنع الحديث معه، ويعيش كما يقول العدو "غزة لا حياة ولا موت"، فيسمح بين وقت وآخر بمرور بعض الضروريات كلما أشرفت غزة على الموت، وهذه هي المهانة والذل.
إن الله كرَّم بني آدم جميعًا، وكان من مظاهر تكريمهم أن حملهم في البر والبحر يتحركون بحريَّة، ويتنقلون من أرض لأرض طلبًا للطيب من الرزق، ويوم أن يحرم الإنسان من مظاهر التكريم التي منحها الله إياه، فيجب عليه أن يجاهد تحصيلاً لها.
ثالثا: الحصار المفروض على غزة هو من قِبَل عدو محتل غاصب للأرض، وذريعته في الحصار داحضة وسخيفة، فهو لا يريد رفع الحصار إلا إذا سقطت حكومة حماس، أو اعترفت بحق الكيان الصهيوني في اغتصاب الأرض، والاعتداء على الفلسطينيين في أي وقت، وأخيرًا فتح المعابر مقابل إطلاق سراح الجندي الصهيوني" شاليط" في الوقت الذي تعج فيه معتقلات العدو بآلاف الأسرى من الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم يدافعون عن حقهم في الحياة وطرد المغتصبين، فإن لم تذعن حماس لهذه الطلبات فهي ومن يوافقها من الحركات إرهابية، ولست أدري بأي منطق يرى البعض من الذين يسمون أنفسهم حكماء وعقلاء أن على حماس الإذعان لشروط الرباعية، وترك المغتصبين يتجولون بحرية في الأراضي التي اغتصبها العدو، بينما أصحابها يعيشون في ملاجئ في هذا البلد أو ذاك؟!
واجب الأمة في رفع الحصار:
نظرًا للآثار التي يخلفها الحصار على أي شعب محاصر، فقد اعتبر الفقهاء أن حصار أي بلد مسلم من الحالات التي يتعين فيها الجهاد؛ أي يصبح الجهاد فرض عين لا يحتاج إلى إذن أصحاب الإذن.
ومما ورد في ذلك ما قاله البهوتي الحنبلي في حالات فرضية الجهاد: "وَمَنْ حَضَرَ الصَّفَّ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، أَوْ حَصْرِ عَدُوٍّ، أَو ْحَصَرَ بَلَدَهُ عَدُوٌّ، أَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ بَعِيدٌ فِي الْجِهَاد، ِأَوْ تَقَابَلَ الزَّحْفَان الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، أَوْ اسْتَنْفَرَهُ مَنْ لَهُ اسْتِنْفَارُهُ، وَلاعُذْرَ- تَعَيَّنَ عَلَيْهِ َأيْ : صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ"، وفي نص آخر يظهر فيه سقوط إذن الوالد والدائن ونحوهما في حالة تعيُّن الجهاد: "إلا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ لِحُضُورِ الصَّفِّ، أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ، أَوْ اسْتِنْفَارِ الإِمَامِ لَهُ وَنَحْوِهِ فَيَسْقُطُ إذْنُهُمَا وَإِذْنُ غَرِيمٍ; لأَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ"، فالواضح من النص المتقدم: أن حالة حصار العدو لبلد لا تختلف في الحكم عن حالة الاحتلال، أو القتل ونحوهما من حالات العدوان التي يجب فيها الدفع.
وهذا النص يؤكد أن جميع ماتقوم به الفصائل الجهادية -من دفع للعدوان بأي وسيلة تراها مناسبة، وحسب ما يتيسَّر لها- هو حق شرعي أصيل، وفي مقابل ذلك يتعيَّن على الأمة كلِّها أن تشارك مشاركة إيجابية في مساندة ودعم الفصائل الجهادية؛ رفعًا للحصار، وإزالة للاحتلال كلِّه، وهذه المشاركة الإيجابية لا تنطلق من بواعث إنسانية فقط، بل قيامًا بالواجب الشرعي، وألخص بعضًا من صور هذه المشاركة الواجبة فيما يلي:
أولاً: وجوب تقديم الدعم المادي باختلاف صوره وأشكاله -بمافيها السلاح - للدفاع عن النفس، واسترداد الحقوق المسلوبة. وما يُقدَّم ليس من قبيل التعاطف الإنساني، بل من قبيل القيام بفرائض الدِّين، وهو فرض الجهاد بالمال الذيي أخذ نفس أحكام الجهاد بالنفس، كما قال الجصاص الفقيه الحنفي المعروف في قوله تعالى: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [سورة التوبة: 41]، فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعًا، فمن كان له مال وهو مريض، أو مقعد، أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله؛ بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما أنَّ من له قوَّة وجلد، وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه، وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه، ومن قوي على القتال، وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال، ومن كان عاجزًا بنفسه معدمًا فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة التوبة: 91].
وقال الزيلعي في (تبيين الحقائق): "وأحوال الناس مختلفة، فمنهم من يقدر على الجهاد بالنفس والمال، ومنهم من يقدر بأحدهما، وكل ذلك واجب؛ لقوله تعالى: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [سورة التوبة: 41]، وقوله: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [سورة التوبة: 111]، واستنكر ابن القيم تناقض البعض في أحكامهم، فيقول في هذا المعنى: "من أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه، ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير، فقوله ظاهر التناقض".
وفي (الموسوعة الفقهية) يجب على المسلمين أن لا يعطِّلوا الجهاد في سبيل الله، وأن يجهزوا لذلك الغزاة بما يلزمهم من عدَّة وعتاد وزاد، لقول الله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة: 195]، وقوله عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [سورة الأنفال: 60]، وتجهيز الغزاة واجب المسلمين جميعًا، حكَّامًا ومحكومين، وهو من أعظم القرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا» [رواه البخاري]، وإذا كان تقديم الدعم لأهل غزة المحاصرين ضربًا من ضروب الجهاد بالمال لدفع حالة الحصار، فإن ثمت واجبًا آخر يقع على عاتق الدول والشعوب المجاورة لغزة، وهو واجب القيام بحقوق الجوار، وكما أن للفرد جيرانًا، فللدول جيران، وللمدن جيران، وليس الجار هو الجار الأول، بل أوصله البعض إلى أربعين، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن جيران يتمتعون ويأكلون ويشربون ولهم جيران معدومون وهم يعلمون ذلك، فأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبيه» [صححه الألباني].
ثانيا: تقديم الدعم المعنوي، والمتمثِّل في تكثيف الاتصالات الشخصية بأهل غزة، والرسائل البريدية، والتلفزيونية، وكتابة المقالات، والدعاء، والمسيرات، وغير ذلك من هذه المظاهر التي ترفع من روحهم المعنوية، ويجب ألا نقلل من أثرها. وفي المقابل يجب الإنكار بالطرق الشرعية على بعض الكتاب والإعلاميين ونحوهم ممن يتفقون مع العدو الصهيوني في رؤيته وقراراته تصفية لحسابات سياسية، أو طلبًا لمغنم، أو خوفًا من أن تصيبهم دائرة، فلا نترك مقالة ولا خبرًا إلا ونعلّق عليها ردًّا لها، ودحضًا لما فيها من افتراءات، وهذا باب سهل ميسور لكل منصف إذا أراد أن يكون له دور فاعل في هذه الأزمة. ولا نقلِّل من قيمة الكلمة، فشطر الكلمة التي تعين على قتل مسلم تحجب صاحبها من رحمة الله، ففي المقابل من أعان على إحياء نفس بشطر كلمة شملته رحمة الله عز وجل.
ثالثا: عدم التردُّد في كسر الحصار بأي طريق يتيسر لتوصيل الاحتياجات اللازمة لأهل غزة ردًّا على إغلاق المعابر الرسمية، وإذا كان للتعليمات الرسمية للدول حرمة على مواطنيها فحرمة المسلم أعظم حرمة من هذه القرارات، فمع عظم حرمة الكعبة لكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر حرمة المؤمن أعظم، ففيما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَ حُرْمَتَك، وَمَا أَعْظَمَ حَقَّك، وَالْمُسْلِمُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْك، حَرَّمَ اللَّهُ مَالَهُ، وَحَرَّمَ دَمَهُ وَحَرَّمَ عِرْضَهُ وَأَذَاهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ سُوءٍ»، ولذلك فإنَّ الواجب الشرعي على أهل الثغور المتاخمة لغزة أن يبذلوا ما في وسعهم لتوصيل الاحتياجات اللازمة للقطاع، وهم مأجورون إن شاء الله.
رابعًا: فضح الكيان الصهيوني إعلاميًّا بتسليط الضوء على جرائمه وتوثيقها، ونشرها بين الجميع مسلمين وغير مسلمين، وترديدها بين الأولاد والناشئة، وفي الخطب والدروس، وفي المراكز الثقافية المختلفة، وإقامة الندوات والمؤتمرات مع استخدام المصطلحات الصحيحة، كما يجب فضحه قضائيًّا برفع الدعاوى القضائية أمام جهات الاختصاص المحلية والإقليمية والدولية، بغض النظر عن جدواها العملية، فقد تكون من باب تعبئة الرأي العام، وقيامًا بواجب النصرة للمظلوم، وفضحاً للأخلاقيات الصهيونية، فلربما نجحت بعض تلك الدعاوى في حصار مجرمي الصهاينة، فلا يستطيعون مغادرة فلسطين لأي بلد آخر خوفًا من قرارات اعتقال. وهذا الواجب من صور النصرة للمسلم الذي انتقص عرضه، وانتهكت حرمته، وقد أخرج البيهقي والطبراني بإسناد حسن عن جابر وأبي أيوب الأنصاري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه منحرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته. وما من امرئ ينصر مسلماً في موطن ينتقصفيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته».
خامساً: عدم التعامل مع العدو الصهيوني بأي وجه من وجوه التعامل، ومقاطعة الدول التي تشاركه وتدعمه، فلا يعقل شرعاً ولا عقلاً أن يقوم العدو الصهيوني بذبح أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، ويهدم بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا فوق رؤوسنا، ومع ذلك يصدر له الطعام والشراب، والوقود، وتمتلئ المحلات التجارية للدول الإسلامية ببضائعه من ملابس، وأجهزة كهربائية، وأغذية وغيرها، وهذا واجب يحتاج إلى تأصيل شرعي، وبراهين سنوضحها في مقالة أخرى إن شاء الله.
أسأل الله أن يكشف البلاء والكرب عن كل مكروب ومبتلى، إنَّه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. عطية
فياض
المصدر: الإسلام اليوم
- التصنيف: