التشريع وتوحيد الربوبية (3/ 4)
إن الرَّب الذي يستحق بمقتضى ربوبيته أن يشرع ويحلل ويحرم هو العليم بما خلق، وبما يصلحهم فيبيحه لهم، وبما يضرهم فيمنعه عنهم، وبما يحتاجونه فيجعله في مقدورهم، فمَن مِن أهل الأرض يقدر على ذلك حتى يتربب على الناس ويتأله عليهم
دخول التشريع في توحيد الربوبية من حيث الاعتقاد، فمن آية التوبة أيضًا فإنه لمّا كان الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية سمى الله تعالى المتبوعين أربابا:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]، فقال: أربابًا، ولأن الربوبية هي التي تقتضي الألوهية، فإن من ليس بصفات الرب لا يصلح أن يكون إلهًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"وفى حديث عدى بن حاتم، وهو نصراني وكان قد قدم على النبي(صلى الله عليه وسلم)؛ فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له أنَّا لسنا نعبدهم قال:«أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه" قال فقلت بلى قال:"فتلك عبادتهم»، وكذلك قال أبو البختري أمَا أنهم لم يصلوا لهم ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكن أمروهم فجعلوا حلالَ الله حرامَه، وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية, وقال الربيع بن أنس: قلت لأبى العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أُمِروا به ونُهوا عنه؛ فقالوا لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم؛ فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم"(ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 7، 67.).
قال رشيد رضا-رحمه الله-:"معنى شرك الربوبية: هو إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم من غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلّغه عنه رسله"(رشيد رضا: تفسير المنار، 2، 55).
وقال ابن حزم-رحمه الله-: "لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرّم أحبارهم ورهبانهم ويحلون ما أحلوا كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة وقد دانوا بها وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أربابا من دون الله وعبادة وهذا هو الشرك بلا خلاف"(الفصل(3، 266)).
صفات الرب الحاكم
إن الرَّب الذي يستحق بمقتضى ربوبيته أن يشرع ويحلل ويحرم هو العليم بما خلق، وبما يصلحهم فيبيحه لهم، وبما يضرهم فيمنعه عنهم، وبما يحتاجونه فيجعله في مقدورهم، فمَن مِن أهل الأرض يقدر على ذلك حتى يتربب على الناس ويتأله عليهم.
قال تعالى: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]، إن الرَّب الذي من حقه أن يُعبِّد الناس له بإخضاعهم لتشريعه، هو الرب الخالق المالك المدبر، فمنذا من البشر له شيء من الخلق أو الملك أو التدبير أو التسخير، فمن ادَّعى أحقيته في التشريع أو صلاحيته لوضعه فقد ادَّعى صفات الربوبية، وإن لم يقل بلسانه كما قال سلفُهُ الطالح: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:24].
يقول العلّامة القرآني: " اعلم أن الله - جل وعلا - بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن -إن شاء الله- ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع، سبحان الله وتعالى عن ذلك. فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون - فليتبع تشريعهم.
وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها -تعالى- صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله، ثم قال مبينا صفات من له الحكم: ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} [ 10 - 12].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض - أي خالقهما ومخترعهما - على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله - تعالى -: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين }143] ، وأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ، وأنه {له مقاليد السماوات والأرض} ، وأنه هو الذي {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} - أي يضيقه على من يشاء - {وهو بكل شيء عليم} .
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل...)[الشنقيطي: أضواء البيان: 7/ 49]
سبقه:
التشريع وتوحيد الألوهية (1/ 4)
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: