التشريع وتوحيد الأسماء والصفات (2/ 4)
يأتي من يعتبر السعي في إقامة شرع الله تعالى، وتحكيمه في دنيا الناس مجرد عمل خيري لا يستحق التضحيات الجسام، وأن الأمة بخير-حكاما ومحكومين- وإن لم يقيموا دولة الإسلام التي وظيفتها الأساسية سياسة الدنيا بالدين وتطبيق شريعة رب العالمين.. وبعضهم يعتبر صراع الإسلاميين مع العلمانيين لأجل هذا الأمر إنما هو صراع على الكراسي!! في حين أن مركز ثقل عقيدته ودروسه حول توحيد الأسماء والصفات
ويدخل التشريع في توحيد الأسماء والصفات، ذلك أن الله تعالى هو:"الحَكَم" وهو"الحكيم" وإليه"الحكم". كما في الحديث: «الألباني في الإرواء، [7/ 237])، وفي قوله تعالى: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[الأعراف:78]، والإيمان بهذا الاسم الشريف وما تضمنه من صفة لله- تعالى- يوجب إفراد الله- عز وجل- به عِلما وعَقدًا وعملا، وكون الإنسان يجعل من نفسه أو من بشر غيره مشرعًا بما لم يأذن به الله- عز وجل- أو حاكما بغير ما أنزل الله- تعالى- فإنما هو يصف نفسه أو غيره بصفة من صفات الله- تعالى-، وهي «الحَكَم» و«الحاكم» و«الحكيم» و«الرب السيد المطاع المتصرف، الذي له الأمر تبعا لما له من الخلق»، أو يخلع على نفسه اسم الله- تعالى-، وإن لم يقله قولا، فإنه يمارسه عملًا؛ وهذا من الإلحاد في أسماء الله- تعالى-، وهو القائل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[الأعراف:180].
» (صححه الشيخوتوحيد الأسماء والصفات ركن من أركان التوحيد، نقضه نقضٌ للتوحيد كله، و"ضده الإلحاد في أسماء الله وصفاته وآياته، ولا يقتصر الإلحاد على الصور القديمة، أو بالتفسيرات القديمة، مع تغير صور الحياة وممارساتها، كلها أو جلها، بل الأمر متعلق بحقائق الأمور وجواهرها، لا بمسمياتها فقط وظواهرها، لأن الممنوع هو الإلحاد، وليس اسم الإلحاد فقط!
و"الإلحاد هو الانحراف أو التحريف.. وقد حرف المشركون في الجزيرة أسماء الله الحسنى، فسموا بها آلهتهم المدعاة.. حرفوا اسم «الله » فسموا به «اللات». واسم « العزيز» فسموا به « العزى ».. فالآية تقرر أن هذه الأسماء الحسنى لله وحده. وتأمر أن يدعوه المؤمنون وحده بها، دون تحريف ولا ميل؛ وأن يدعوا المحرفين المنحرفين؛ فلا يحفلوهم ولا يأبهوا لما هم فيه من الإلحاد. فأمرهم موكول إلى الله؛ وهم ملاقون جزاءهم الذي ينتظرهم منه.. ويا له من وعيد!
وهذا الأمر بإهمال شأن الذين يلحدون في أسماء الله؛ لا يقتصر على تلك المناسبة التاريخية، ولا على الإلحاد في أسماء الله بتحريفها اللفظي إلى الآلهة المدعاة .. إنما هو ينسحب على كل ألوان الإلحاد في شتى صوره.. ينسحب على الذين يلحدون - أي يحرفون أو ينحرفون - في تصورهم لحقيقة الألوهية على الإطلاق. كالذين يدّعون له الولد. وكالذين يدّعون أن مشيئته- سبحانه- مقيدة بنواميس الطبيعة الكونية! وكالذين يدعون له كيفيات أعمال تشبه كيفيات أعمال البشر- وهو سبحانه ليس كمثله شيء- وكذلك من يدعون أنه سبحانه إله في السماء، وفي تصريف نظام الكون، وفي حساب الناس في الآخرة.
ولكنه ليس إلهًا في الأرض، ولا في حياة الناس، فليس له - في زعمهم- أن يشرع لحياة الناس؛ إنما الناس هم الذين يشرعون لأنفسهم بعقولهم وتجاربهم ومصالحهم - كما يرونها هم - فالناس - في هذا - هم آلهة أنفسهم. أو بعضهم آلهة بعض!.. وكله إلحاد في الله وصفاته وخصائص ألوهيته.. والمسلمون مأمورون بالإعراض عن هذا كله وإهماله، والملحدون موعدون بجزاء الله لهم على ما كانوا يعملون!"(سيد قطب، في ظلال القرآن، 3، 1402).
فإذا كان توحيد الحاكمية لله، واتِّباع شرعه يدخل في أنواع التوحيد الثلاثة، فإن الشرك فيه ينافي أنواع التوحيد الثلاثة أيضًا، فأي شركٍ أعظم من هذا الذي أمسك الشرك من أطرافه، واشتمل على أنواعه، وناقض التوحيد بأقسامه؟..
ثم يأتي من يعتبر السعي في إقامة شرع الله تعالى، وتحكيمه في دنيا الناس مجرد عمل خيري لا يستحق التضحيات الجسام، وأن الأمة بخير-حكاما ومحكومين- وإن لم يقيموا دولة الإسلام التي وظيفتها الأساسية سياسة الدنيا بالدين وتطبيق شريعة رب العالمين.. وبعضهم يعتبر صراع الإسلاميين مع العلمانيين لأجل هذا الأمر إنما هو صراع على الكراسي!!
في حين يعمد أناس آخرون يزعمون الانتساب إلى الإسلام وإلى طليعته الأولى، فيجعلون الساعين في إقامة دولة الإسلام التي تحكم بشريعته، مشابهين للروافض في طلبهم الإمامة! وإمامتهم شخصانية، تُمَكِّن للشخص، أمّا إمامة أهل السنة فربانية، تُمَكِّن للدين.
إن هذه الدعوة التي يرفع رايتَها بعضُ الناس تعلن حربًا على جانب من الحق، عادَوْه لمّا جهلوه، وهي تنطوي على مجموعة مخاطر منها:
إنه يعطي لأهل الزندقة ومردة الطواغيت ورَقةً يبررون بها ردّ شريعة الله تعالى والتهاون بها، بل الكفر بها في مأمن من التهمة لأنه ليس شركا!! أو هو شرك وكفر أصغران!
وفيه إيهام العامة وأنصاف المتعلمين والمقلِّدين بأن تحكيم الشريعة ليس من صميم الدين وأصل العقيدة، وخلافه ليس كفرًا، وبالتالي يتركونه والدعاة قائمين لأدنى رغبة أو رهبة أو لهوا أو تجارة يرونها.. فما دامت ليست قضية كفرٍ وإيمان فلماذا العراك ولماذا تحمل المشاقّ وتَكَبُّد الصِّعَاب.. ونحن بخير!
وفيه خدعة ماكرة، وغِشٌّ للناس! لأن بعض المنتسبين للعلم قالوا: هذا ليس كفرًا ولا شركًا.. فالخلاف عنه يسيرٌ وهي قضية معصية فقط. وبدلا من أن نخبرهم بالحقيقة حتى يستفيق البرآء منهم والمخلصون ويتعلم الجاهلون، فيقلعوا عن الشرك ويتوبوا إلى الله تعالى منه. فإذا بنا نقول لهم: لن تُراعوا ولا عليكم من الشرك والكفر، ولا من نار جهنم؛ فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.. لأنكم لا تعبدون الأوثان ولا تسجدون للأصنام ولا تطوفون بالقبور ولا تتكهنون أو يُتَكَهَّن لكم، وهذا هو الشرك وليس بعده شرك أكبر، أمَّا الذي أنتم فيه فهو معاصٍ فقط، ونحن لسنا خوارج فلا نُكَفِّر بالمعصية!!
سبقه مقال: التشريع وتوحيد اللوهية (1/ 4)
ويتبعه مقال: التشريع وتوحيد الربوبية (3/ 4)
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: