الموازنة بين متطلبات الروح والجسد في هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم
البحث المُقدم في مسابقة (انصر نبيك بقلمك لشهر جمادى الثاني 1434هـ).
الموازنة والإعتدال أمر ليس بالهين؛ ورغم ذلك تجدهم في روح ديننا الحنيف ورسالة نبينا –صلى الله عليه و سلم-؛ رسالة الوسطية والسماحة والتوازن الموافق للفطرة السليمة، ولقد كان كان هدي النبي –صلى الله عليه و سلم- دومًا الإعتدال في كل الأمور.
يقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]؛ ويقول الحق جلّ في علاه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
خلق الله تعالى الإنسان من روحٍ وجسدٍ، وديننا دين الاعتدال والتوازن، فلا غلو فيه ولا تغالي، ولا إفراط فيه ولا تفريط، فقد وازن الإسلام بين جانب الروح والمادة في الإنسان، فأعطى للبدن حقه، وللروح حقها، كما أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة؛ والله عزّ وجل أنكر على الذين يحرمون الطيبات مُعتقدين أن ذلك من الورع، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[ الأعراف:32] وقال تعالى: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِب الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:87].
عندما نتدبر في هدي النبي –صلى الله عليه و سلم- نجد أن الإعتدال سمته صلوات ربي عليه وسلامه، ورسالته كانت دومًا تحمل في طياتها الموازنة الحقيقية بين متطلبات الروح والجسد، ومن أمثلة ذلك من هدية –صلى الله عليه وسلم- كثير من القصص الدالة على هذا الأمر.
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا - أي رأوها قليلةً بالنسبة لما ينبغي لهم - فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا؛ وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ؛ وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: « » (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء؛ فرأى أم الدرداء متبذلة فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له: نم؛ فنام. ثم ذهب يقوم فقال له: نم؛ فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصليا جميعاً، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري).
ونهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من يبالغ في العبادة على حساب جسده وبيته وأهله وضيفه، فعن عبدالله بن عمرو قال: دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: « » قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: « »، قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: « »، قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: « »، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا كَانَ صِيَامُ دَاوُدَ ؟ قَالَ: « » (رواه البخاري).
وهكذا نجد أن الإسلام يراعي متطلبات الحياة، وها هو عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول في كل مرة: فشددت فشدد علي، وما ذاك إلا لأن الإسلام دين الوسط والسهولة، ليس فيه تنطع ولا تغليب لجانب على الآخر.
وكان من دعاء النبي –صلى الله عليه و سلم-: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه يقول: « » (رواه مسلم).
ومما سبق نجد سمات الموازنة بين متطلبات الروح والجسد في هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- تتلخص فيما يلي:
- جاء نبي الله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله بدينٍ موافقٍ للفطرة البشرية الطبيعية، يراعي حاجات الروح ومطالب الجسد، ويوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، يُهذب غرائز الإنسان، ولا يتجاهلها كما كان يحدث في كثير من الأمم السابقة والتي كانت غارقة في المثاليات المخالفة للفطرة البشرية مثل الرهبانية وغيرها.
- مما لا شك فيه أن الله جلّ في علاه هو خالق الناس أجمعين، عليم بما يصلح لهم، وما يوافق ما فطرهم عليه، ويعلم سبحانه أضرار عدم اشباع تلك الفطرة أو المبالغة اشباعها، وجعل الميزان هو الإعتدال فجاء هدي نبيه-صلى الله عليه وسلم- موافقًا لذلك.
- الإنسان مزيج من روح وجسد، بل تشكلت إنسانيته بالروح والبدن المادي ، فلا يجوز أن يطغى أحدهما على الآخر ، ولكل من الروح والجسد المادي حقوقه وخواصه ، وقد خلق الله سبحانه لكلٍ منهما حاجته وما يتناسب معه باعتدال.
- ينبغي للمسلم أن يعطي نفسه حقها من الراحة والمباحات، وألا تكون حياته كلها في العبادة، بمعنى أن يحقق الموازنة بين متطلبات الروح والجسد امتثالًا لأمر الله تعالى وهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-،وليس معنى ذلك أن يفعل حرامًا بحجة أنه يرتاح من عناء العبادة.
- نجد من مواقف النبي –صلى الله عليه وسلم- مع الصحابه -رضوان الله عليهم وسلامه-، أنه رَبىَّ الشباب التربية القائمة على الموازنة بين الروح والجسد، وهذا التوازن الدقيق هو المنهج السليم في التربية، وغلبة أحد الجوانب على حساب الجانب الآخر؛ سيؤدي إلى خللٍ في بناء الذات، وانحراف عن منهج الإسلام.
- على الإنسان أن يعرض كل شيء في حياته على الشريعة ثم على هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- فإن وجد توافقًا فهو خير وإن رأي اختلافًا فعليه أن يعيد حساباته ويمتثل لأمر ربه ويتبع هدي خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه وسلامه.
شيماء علي جمال الدين
طالبة علوم شرعية على أيدي الشيوخ سواء على شبكة الإنترنت أو في محافظة الإسكندرية مهتمة بمجال دراسة علوم القرآن والتفسير بشكل خاص. لها العديد من المقالات والأبحاث والقصص القصيرة المنشورة على الشبكة الإلكترونية.
- التصنيف:
- المصدر: