همسةٌ وخَبطةٌ ورَجّةٌ وزَلزلة!
قال لها أنها إذا خافت على ابنها أن تضعه في البحر ولا تقلق أو تخاف، وأن تعود لبيتها وتطْمئن وسيرجع إليها.. (!!)
من القائل؟ اللهُ عز وجل ولا أَصدقُ منه قِيلًا، في سورة القصص كما ورد نصًا من كلام الله: "فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ"..
ولمن الخطاب مُوجهٌ؟ لأمِّ النبي موسى عليه السلام..
ومع ذلك: {فَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا.. إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ "لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}!!
إذًا.. هي أُمٌّ مُثَبَّتٌ فُؤادُها بأقوى قوةٍ في الكون من كلام القويّ عز وجل... ومع ذلك هذا هو حال قلبها المسكين، كالمِرجَلِ المكبوتِ عن انفجارٍ وشيكٍ!..
فما بالنا بأمٍّ أُخرَى أقل إيمانًا بكثير، وقد قيلَ لها من البَشَر "ألقيه في اليم لينجو.. هيا هيا اقفزي"!... ولَمْ يُطمئنها أدنى نفر بأدنى شطر كلمة، بل كل الأقوياءِ ممن تحتمي هي بِهم تدورُ أعينُهم من هلعِ الفرارِ إلى هاويةٍ لا يُرَى قعرُها!.. بل هي قد رأتْ بعينها المئاتَ من القافزين في قوارب الغرق مثلهم كيف كان مآلُهم! بل إن زوجها بذاته يسأل قائدَ القارب بريبةٍ عن مثقال الأمان في هذا السفر، ويرتابُ في جوابه! أَفَتُلَبِّي هي النداءَ وتَلحقُ بقوافلِ الغَرقَى ببساطةٍ هكذا وتُسْلِمُ أبناءَها لموجٍ كالجبال!! تُرى كيف كان حالُ قلبِها حين حسمتِ الأمرَ كَرهًا؟ وَيحِي!.. أَوَيَحسِم المُكْرَهُ أمرًا..! بل قولوا كيف صار قلبها -تلك المضغةُ اللاهثةُ بين جنبيها- بعدما رأتْ كما رأينا جميعًا وليدَها الضاحكَ آنفًا غارقًا في سُباتِه الأبديّ، بَيْد أنه ليس بين أحضانها ولا في مهده الدافئ ولكن على شاطئِ بحرٍ باردٍ!!.. ولكنه بحرٌ ذو ضميرٍ أَوفرُ رحمةً من بعض الناس...
إن من رحمة الله بي وبها والله أنها غَرقتْ وتبعتْ ابنَها إلى عالمنا التالي بقدَر الله اللطيف...
تخيلوا معي وقد ركِبتْ القاربَ قهرًا، واستلمتْ مقعدَها الأخيرَ في الدنيا، وشردتْ ببصرها بعيدًا تنتظرُ الرَّدَى من كل حدبٍ وفي كل آنٍ... وكَما توقّعَتْ، جعلتِ الأمواجُ عالِيَ القاربِ سافِلَهُ.. وفي ثوانٍ تُحصَى على أناملَ كفٍّ واحدةٍتفلّتِتِ الكفوفُ وتباعدتِ المسافاتُ.. وتَفرَّقَ الشملُ الحبيبُ في اليمّبعد لَمّةِ بيتٍ واحدٍ ولقمةٍ واحدةٍ، وبعد طول تشابكٍللأيدي وتلاقٍللنظراتِ اللامعة بالهناء زمنًا جميلًا قد ولَّى.. فلم تعدِ الأذرعُ الحانيةُ قادرةٌ على ضمّ أحبّتها تحت جناحها لوقايتهم من الأخطار والأشرار أولِلَفْتِ وجوهِهم الغضّةِ إليها لنهل الأمل والسلوَى من البسمات الطيبة البريئة.. لم يعدْ في الإمكان بَعد... قد استقرّ الماءُ المالحُ في حُجُراتِ الأنفاسِ وقُضِي الأمرُ...
ضرَباتٌ متتاليةٌ من الأمّ لسطحِ الماء تتلمسُ بها آثارَ وليدِها بأيادٍ خائرةِ القوةِ كسيحةِ القدرةِ لعله قريبٌ غيرُ قاصٍ فترفعه عاليًا لنسماتِ الحياة بعيدًا عن مقابرِ الأمواج الفاغرةِ فاهها على أوسعِه.. لكن أيْناكَ أيْناكَ يا ولدي..! ثم ما لبثتْ أن هدأتْ صفحةُ الماء وانقطعتْ رشرشةُ الحياة.. وارتخت قسماتُ الوجه المتشنجة هَلَعًا وسكنتْ أخيرًا... وتمددتِ الأذرعُ والأرجلُ لكلٍّ منهم في موقعه بعيدًا عن الآخر فوقَ وجهِ اليمّ، في استسلامٍ للنومة الأخيرةِ كما قد سُطِرَ قبلُ في كتابِ الأقدار... ثم جمعهما سويًا مجددًا تَزَاوُرُ الأمواجِ بعد تِيهِ الأحبة المرير، فضمهما في موجة واحدة قبل أن يُقِلَّهُما لأحضانِ رمالِ شاطئِ المأوَى أخيرًا بعد طُول بحثٍ عن مأوىً وعن أحضانٍ... متجاوران ها هنا من جديد ولكن في عالم الجثث! بعد فراقِ الحراكِ للجسدِ.. وإن كنتُ أَجزمُ أنّ تلك الأمَّ كانت ستموتُ غارقةً في سيولُ مآقِيها لا غَرو إن كانت قد عاشتْ بدون فلذةِ كبدها الغريقِ أمام عينها، ذي الثلاث سنوات..
عسى من هبَّةٍ للروح بعد تلك النومةِ على ثغورِ الأحبةِ اللؤلُؤيةِ باسمةً من جديد في عالمِ دعةٍ وعدلٍ غيرِ عالمِنا، لا سلطانَ فيه علَى أحدٍ إلا لأرحمِ الراحمينَ ذي اللُّطفِ الكاملِ والرحماتِ...
أيَا أيّها الطفلُ المسكينُ المفارقُ عالَمنا غَرَقًا، ويا أمَّهُ ويا أخاه، ويا كل الغرقى والقتلى من أمتنا في زمن الوَهَن: نحن السابقون.... لا أنتم.. بالله..بل نحن الغَرقَىلا أنتم والله.. فما بين أمواج الذل وحب الدنيا وكراهية الموت، من يبقى حيّ القلبِ!..
صدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: « » . [صححه الألباني]
أيَا قرائيَ الكرام...
ليس الغرضُ من كلاميَ إصدارُ أحكامٍ على الفارِّين من أرض الشام أو غيرها، فأنا لا أعلم هل هم مهاجرون فارُّون من فتنة الدين فمأجورون، أم هم فارُّون من الزَّحف فمستحقون لسَخَطِ الله وعقابِه على الكبيرةِ الموبقةِ..وقد راسلتُ أهلَ العلم أستفتيهم فأنا صدقًا لا أعلم.. ولازلت أنتظر الجواب..
ولا غَرَضِي كذلك هو إثارةُ عَبَراتكم الحارّة لدقائق ثم تُولُّوا وجوهَكم مُتعَ الحياةِ من جديدٍ بقلوب لاهيةٍ بل أشدّ لهوًا من ذي قبل..
وليس أبدًا مأرَبي هو تعليقٌ سطحيٌّ على الواقعِ المرير الغائصِ في الضنك... وحتمًا فإن هدفي ليس فقط دقُّ جرسِ الجهادِ بدقاتٍ عرجاواتٍ لا تَبلغُ مَنْزِلًا مُؤَمَّلًا ولا تُدِلُّ الناسَ على التطبيقِ المَرجُوِّ له..
إنما مقصدي هو أربعٌ: همسةٌ وخَبطةٌ ورجةٌ وزلزلةٌ..
1----فأما الهمسةُ ففي أُذُنِ رُفقاءِ الصّراطِ المستقيمِ المُجِدّين في طَلبِه: أن ألقوا جناحَ البعوضةِ لأهلِها وانكبُّوا من الآن على تعلُّمِ دينِكُم الصحيحِ الذي ستحتاجون بيِّناتِه لاريبَ وقت حيرَتِكم في تعيينِ فسطاطِ الحقِّ من فسطاطِ الباطل وقت تَمايُزِ الخبيثِ من الطيبِ.. تَفقَّهُوا قبل نَزعِ العلمِ وفَقِّهُوا أبناءَكم وأهلِيكم كذلك.. روِّضُوهم على الخشونةِ والكفافِ والتخفُّفِ من الدنيا، والتبرؤ من كل الدُّنَى والدَّنايا، وبَذْلِ النَّفسِ والمالِ طوعًا في مصارِفِه بِلا أقلّ شُحٍّ، والصبرِ عند الشدائدِ ومخالفةِ الأهواءِ عندالنوازلِ، ودربوهم على تحمل الجوع والعطش والحرمان من الشهوات، ولقنوهم أخلاقَ الجهادِ لاسيما العدل الحقيقي الذي جاءَ به الإسلامُ ليميزوا عند الرشد بين رايات الجهاد الباطلة وراية الجهاد النبوية، واجعلوهم يشاهدوا معكم مشاهد الجهاد المعاصر بين كرٍّ وفَرٍّ مهما كانت قاسية، وأَشرِبُوا قلوبَهم بعقيدةِ الولاء والبراء رَوِيًّا.. وأصلحوا ذات بينكم فإنَّ تراصَّ صُفوفِ الملاحمِ قد اقتربَ ولن يَثبُتَ عندها إلا ذو علمٍ راسخٍ وإيمانٍ مُستَبصرٍ وخُلُقٍ نبويٍّ وجهادِ نفسٍ متصلٍ ليلَ نهارَ، وذو قدمين في القيام يعرفه السَّحَرُ.. فأعدُّوا العُدَّةَ والعَتادَ وتَجهَّزوا من الآن لذروة سنامِ الإسلامِ حتى لا تسقطوا في المُوبقَةِ عند لقاءِ العدوِّ أو عند امتحان الفرارِ بالدينِ وتركِ الغالي والنفيسِ إن كنتم صادقين، وتذكَّروا الدرة النَّبوية "أفلحَ إِنْ صَدَقَ"!.. هذا زادُ كل زمنٍ لاسيما القادم، فتزوَّدوا... وتلك كانت همستي لرفقاءِ المسيرِ مُبتغِي الطريق القويمة أسألُ الله أن يكتبَ اسمي فيهم برحمته...
2----وأما الخَبطَةُ ففي كَتف أصحابِ الهِمَمِ النَّاعسةِ: أنْ انتبهوا وكفاكم تَذبذبًا تارة بين هؤلاء المسارعين في الخيرات وتاراتٍ بين أولئكم أصحابِ الأهواءِ.. كفاكم زوغانَ الثعالبِ كما قال عُمَر! والحقوا برَكْبِ أهل السبيل المستقيم المهموسِ إليهم آنفًا، وارتقُوا معهم دَرجَ المعالي، فإنَّ مَن صَعُبَ عليه قِتالُ نفسِه في ميادينِ الهَوَى وشَقَّ عليه صَدُّ زُخرُفَ الدنيا عن فؤاده بجهادٍ متصلٍ، وَانْهَار يوميًّا أمام أمواج الفتور والعَجْزِ وكَسلِ القلب، فسيعجزُ حتمًا عن الصَّدِ في معاركِ آخر الزَّمان حيثُ الفتنُ حالقةٌ للدين، وتزلُّ قدمٌ بعدَ ثُبوتها دهرًا.. فعلامَ وَلِمَ نَقضُ الغزلِ بعد نَسْجٍ؟! هي دنيا فانيةٌ.. فلا تُفنيكُم.. بالله..
3----وأما الرَّجَّةُ فلأهلنا مُناصِري الباطلِ هداهم اللُه: أنْ كفاكمُ تهافتًا على الفتنِ المعروضةِ على الأمَّة كأعوادِ الحَصير وقد أُشرِبتموها عُودًا عُودًا، وانفُضُوا النُّكتَ السَّوداءِ عن قلوبكم فلازالتْ تَدُقّ بالحياة وما بَرِحتِ الشمسُ تطلعُ من مَشرِقِها فبادروا... وكفاكُم تكثيرًا لسوادِ الخَبَثِ مُهْلِكِنا جميعا وإن كان فينا صالحون على الصراط المستقيم، وهلموا سابقوا إلى صفوف الطيبين قبل فوات الأوان، فميادين الجهاد الحق لا مكان فيها لمنافق..
4----وأما الزلزلةُ فلكل أفراد أمتي، من أدناهم إسلامًا لأعلاهم إيمانًا، ولو كان طفلا أو شيخًا أو امرأة: أنَّ الجهادَ قادمٌ قادمٌ.. والسيوفُ مكتسحةٌ والخيلُ عاديةٌ والرِّماحُ عائدةٌ من جديد كزمن الصحابة والعَدوُّ مُصبِحِنا أو مُمسِينا بغارةٍ وشيكةٍ -نستجير بالله منها ولا نتمنى لقاء الخصوم لاريب ولكن ما أحوالُ جيراننا وإِخوةِ المِلَّةِ منَّا ببعيد- ولا عاصمَ من الفرارِ يومَ الزحف إلا الله.. ولا مُثبِّتًا إيانا في الفتن إلَّاهُ.. وهي ميتةٌ واحدةٌ فلتكن لهُ عز وجل.. ولا يضرنا على أيِّ جنبٍ في الله سنُصْرَعُ.. نسألُهُ الثباتَ والنجاةَ مع أهل الحق الذي يرضيه قبل أن تزلزل الأرض زلزالها.... والله المستعان.. وهو أعلى وأعلم وحسبنا ونعم الوكيل..
الهمّ واحد والجسد واحد، جسد الأمة الجريحة، فالحدود تراب.. وتداعِي الأممِ علينا لا يفرق بين مصري أو سوري أو ليبي أو عراقي أوفلسطيني أو بُورمي إلا بالدين والمنهج.. وأبناؤنا ليسوا أغلى من أبنائهم.. ومن لا يتحمل رؤية مقاطع الجهاد والقتلى والجرحى في صورة فليسأل نفسه متى سيتحمل! وكيف بمن هم في البلاء يوميا!... اخشوشنوا فالجهاد قادمٌ قادم.. والفتن تُعرَضُ عُودًا عُودًا..
اللهم اربط على قلوب الثكالى حتى لا تطيش..!
- التصنيف: