الفهم الصحيح للورع الزاهد
عبدالعزيز بن ناصر الجليل
جاء عن السلف عدَّة تعريفات للورع والزهد بعضها ذهب إلى مظهر أو نوع من أنواع الزهد والورع، وبعضها الآخر ذهب إلى مظهر أو نوع آخر، ولذلك فالاختلاف فيما بينها إنَّما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
- التصنيفات: الزهد والرقائق - تزكية النفس -
إنَّ من المفاهيم التي أصابها الخلل عند بعض المتنسِّكة مفهوم الورع والزهد حتى جاوزوا فيها منهج سلف الأمَّة المهديين وأتوا بتصوُّرات ومواقف عدُّوها من الزهد والورع وهي ليست منها في شيء؛ لأنَّها إمَّا جانحة إلى الغلو والزيادة أو إلى التقصير والتفريط والتلبيس، كما أنَّ الشيطان قد صوَّر لبعضهم بأنَّه من أهل الورع والزهد بتركه لبعض المباحات أو الشبهات مع أنَّه متلبِّس ببعض المحرَّمات الواضحة أو تارك لبعض الواجبات الصريحة، وهو يعلم بذلك أو لا يعلم، من أجل ذلك جاءت هذه المقالة السريعة في تحديد الفهم الصحيح للورع والزهد كما فهمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى، مع التحذير من نزغات الشيطان وتلبيسه في هذا الباب.
جاء عن السلف عدَّة تعريفات للورع والزهد بعضها ذهب إلى مظهر أو نوع من أنواع الزهد والورع، وبعضها الآخر ذهب إلى مظهر أو نوع آخر، ولذلك فالاختلاف فيما بينها إنَّما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد؛ لأنَّها تعود في جملتها إلى تعريف عام منضبط هو الذي اختاره الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى حيث يقول: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها"، وبالتأمل في هذين التعريفين للزهد والورع وبالتدقيق في مدلولهما نخرج بالفوائد التالية:
1- أنَّ مقام الزهد أعلى من مقام الورع؛ لأنَّ الزاهد لا تراه إلاّ محاسبًا لنفسه شحيحًا بوقته لا يضيع عمره في شيء لا يقرِّبه إلى الله عز وجل ولا ينفعه في الآخرة، وإنَّما ينظر إلى ما يقوله ويفعله، فإن كان ممّا ينفعه عند الله عز وجل أخذ به وعلق همّته به، وإن كان لا يرجو نفعه في الآخرة زهد فيه وتركه ولو لم يكن منه ضرر في الآخرة، ولا يعني هذا أنَّ الزاهد لا يتمتَّع بالمباحات، بل إنَّه يتمتّع بها من غير توسُّع وينوي بها التقوِّي على طاعة الله عز وجل، وبهذا تنفعه في الآخرة.
أمَّا الورع فصاحبه يتجنَّب ما يخاف ضرره في الآخرة، فإذا خلا من الضرر فقد يأخذ به ولو لم ينتفع به في الآخرة، أي أنَّه يتجنَّب الحرام وشبهه ويفعل الواجب وشبهه، وما سوى ذلك فهو متوسِّع فيه تركًا أو فعلاً من دون استحضار نيّة التعبُّد بذلك، وهذا مقام رفيع لكنّه دون مقام الزهد، وبذلك نستطيع القول بأنّ كل زاهد فهو ورع، وليس كلّ ورع زاهدًا.
2- بالفهم الصحيح للزهد والورع حسب التعريفات السابقة نتخلَّص من الفهم الخاطئ والغلط الذي قد يقع فيه بعض النَّاس في موضوع الزهد والورع، ولذلك صور، منها:
* قصر الزهد على مظاهر معيَّنة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، أو ترك الاكتساب والتفرُّغ للذكر والقرآن ونوافل العبادات... إلخ، ونسيان ما هو أهم من ذلك، وهو زهد القلب وميله إلى الآخرة ومحبَّته وتوكله على الله عز وجل وترك ما يضرَّه من الآثام الباطنة والظاهرة، ولذلك فأوَّل ما ينبغي أن ينصبّ إليه اهتمام الزاهد بحق: زهده في ما حرَّم الله عز وجل وقيامه بما أوجب الله عز وجل، ويلي ذلك زهده في مشتبهات الحرام وفعله لمشتبهات الواجب، ثمَّ يصل بعد ذلك إلى زهده في المباحات التي لا تنفعه في الآخرة، وإن أخذ بها نوى بها التقوِّي على طاعة الله سبحانه فتتحوَّل المباحات في حقِّه إلى عبادات ينتفع بها في الآخرة.
* اعتقاد بعض النَّاس أنَّ الزهد والورع يختصَّان بجانب التروك فقط، فلا يرون الورع أو الزهد إلاَّ في ترك الحرام أو مشتبهاته، لا في أداء الواجبات ومشتبهاتها، مع أنَّنا لو أمعنَّا النظر في مفهوم (الترك) الوارد في تعريف الزهد والورع لرأيناه يشمل ترك المحرَّم ومشتبهاته وفعل الواجب ومشتبهاته، ومن قام بذلك فقد ترك ما يخاف ضرره في الآخرة، ومن هذا الغلط تنشأ بعض الصور المتناقضة في حياة من يدَّعي الزهد أو الورع.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفصِّل هذه الحالة فيقول: "يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات:
أحدها: اعتقاد كثير من النَّاس أنَّه من باب الترك، فلا يرون الورع إلاَّ في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا ما ابتلي به كثيرٌ من المتدينة المتورِّعة، ترى أحدهم يتورَّع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورَّع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدُّنيا. ومع هذا يترك أمورًا واجبة عليه؛ إمَّا عينًا أو كفاية وقد تعيّنت عليه، من: صلة رحم، وحقِّ جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحقّ مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله.. إلى غير ذلك ممَّا فيه نفعٌ للخلق في دينهم ودنياهم ممَّا وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك".
* قيام بعض النَّاس ببعض الأعمال التي قد تكون محرَّمة أو بترك بعض الأعمال التي قد تكون واجبة، اعتقادًا منهم أنَّ ذلك من الورع. وهذا يحصل في العادة عند تعارض المصالح والفساد وعدم الموازنة لما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، ويشرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه المسألة فيقول: "وتمام الورع أن يتعلَّم الإنسان خير الخيرين، وشرّ الشرّين، ويعلم أنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلاّ فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرّمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة، أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصّادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحقّ الذي يجب سماعه من الورع".
* جهل بعض المتورِّعة أو المتزهِّدة بالكتاب والسنَّة، فيفعلون بعض الأفعال ظنًَّا منهم أنَّها واجبة أو شبه واجبة، ويتركون بعض الأعمال ظنًَّا منهم أنَّها محرَّمة أو شبه محرَّمة، ودافعهم إلى ذلك الورع والتديُّن، لكن جهلهم ببعض الحلال والحرام قد يؤدِّي بهم إلي فعل ما لم يدل الدليل علي وجوبه أو ترك ما لم يدلّ الدليل على أنَّه حرام أو مشتبه بالحرام، وإنَّما قد يكون هذا الورع مبنيًا على الظنّ أو الميل النفسي فحسب.
وعن هذا يتحدَّث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فيقول: "إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرّم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلّة الكتاب والسنّة، وبالعلم لا بالهوى، وإلاّ فكثير من النَّاس تنفر نفسه من أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك ممَّا يقوِّي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، ومن هذا الباب: الورع الذي ذمَّه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيح لما ترخّص في أشياء فبلغه أنَّ أقوامًا تنزَّهوا عنها، فقال: «الفتاوى[21/61]).
» (مجموعولهذا يحتاج المتديِّن المتورِّع إلى علم كثير بالكتاب والسنّة والفقه في الدين، وإلاّ فقد يفسد تورّعه الفاسد أكثر ممَّا يصلحه، كما فعله الكفَّار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم".
* إرادة الإنسان بورعه وزهده الدنيا من الشهرة أو الصدارة أو ثناء النّاس... إلخ.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "واعلم أنَّ الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص، أمّا الورع بفعل المأمور به فظاهر، فإنَّ الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وأمَّا ترك المنهيُّ عنه الذي يسمِّيه بعض الناس ورعًا فإنَّه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها، وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله أثيب عليها، ولا يكون ذلك إلاّ بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله، أو خشية عذابه".
إنَّ الزهد في الدُّنيا قد يكون لطلب الراحة ممَّا يلحق من ضررها، أو لعدم حصول المطلوب منها، وهذا كلَّه ليس من الزهد في شيء، وليس بمحمود عند الله عز وجل، وإنَّما المحمود مِن ترك الدُّنيا وذمّها ما كان دافعه إرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ولكون الدنيا تشغل عن ذلك، ولولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله عز وجل والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها، فلينتبه من يدِّعي الزهد إلى هذا الأمر وليفتِّش عن نيَّته ولا يلبس الحقّ بالباطل،
إنَّ قومًا زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرَّة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبَّات كمن ترك النساء وأكل اللحم ونحو ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم[1401]).
وقد يوقع زهدًا في فعل محظورات، كمن ترك تناول ما أُبيح له من المال والمنفعة، واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام، أو سأل النَّاس المسألة المحرَّمة، أو استشرف إليهم، والاستشراف مكروه.
ومن كان زهده زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدّار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإنَّ العبد إذا كان زاهدًا بطالًا فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة، فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خيرًا من زهده، ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرَّمات فهو من المقصِّرين أصحاب اليمين، ومن زهد فيما يشغله عن المستحبّات والدرجات فهو من المقرَّبين السابقين.