انتفاضة السكاكين حد يضع الحد
خلال أسبوعين مرا حتى الآن على اندلاع انتفاضة السكاكين، التي غلبت من بعد شيوع مقاومة الدهس للمغتصبين المعتدين، كانت فيهما الحصيلة كما يلي: مقتل 7 صهاينة، وإصابة 140، بالإضافة إلى 860 حادث القاء حجارة، و31 حادث إطلاق نار في عشرة أيام، و35 عملية طعن نجح منها 19 على الأقل، في مقابل ارتقاء 30 شهيدًا، وإصابة 4300 فلسطينيًا، وحصول 213 حالة اعتداء من قبل المغتصبين (المستوطنين)، بالإضافة إلى 460 معتقلًا حتى الآن.
انحبست الأنفاس، وشخصت الأبصار، وضع الصغار والكبار أيديهم على قلوبهم؛ فالخطوات باتجاه هدم الأقصى تسير متسارعة، ولا يبدو في الأفق أي ممانعة لها، سوى نزرًا قليلًا من مرابطين ثابتين، يؤدون ما عليهم، لكن ماذا عساهم أن يفعلوا في ظل طغيان الصهاينة وقمعهم وتحركهم بوجه مكشوف، والظروف المحلية والإقليمية والعالمية تخدمهم، والدنيا -كما يقال- فرص، وليس من العقل لدى الصهاينة أن يضيعوها.
تسارعت وتيرة الاقتحامات، وزادت الوقاحة، قطعانُ مغتصبين، سياحٌ مبتذلون، ثم اعتداءات، ثم تقسيم قسري، زمني ومكاني للأقصى ما بين المسلمين واليهود، وأمام الرفض من قبل أبطال المرابطين، كان الضرب والاعتقال والإبعاد، ثم طغت الوقاحة بإشعال النار مرة من بعد مرة بالمصلى القبلي، نار محدودة في البداية، لكنها كبيرة في معناها ومنتهاها، فمعظم النار من مستصغر الشرر، والمزعج أن النيران أشعلت بالأمس أكثر من مرة من قِبل جنود الاحتلال أنفسهم؛ فلم يعد الكيان الصهيوني بحاجة إلى أن يلصقها بمجنون غائب العقل مثلما فعل في حريق الأقصى 1969م، إذ لا غضاضة في أن تصل الرسالة للمسلمين جميعًا "نعم، نحن من نحرق الأقصى بأنفسنا".
الصورة كانت قاتمة تمامًا، فبضع عشرات من المرابطين لن يفعلوا الكثير في تأجيل مخطط الهدم أو الحرق، وهو الذي يعد هدفًا ثابتًا للسياسة الصهيونية لن تحيد عنه ما لم تجد مقاومة معقولة، تستأهل أن توقف مشروعًا كهذا بوسعه إن تم أن يقصم ظهر المسلمين، لكنها وجدتها حقًا.
خلال أسبوعين مرا حتى الآن على اندلاع انتفاضة السكاكين، التي غلبت من بعد شيوع مقاومة الدهس للمغتصبين المعتدين، كانت فيهما الحصيلة كما يلي: مقتل 7 صهاينة، وإصابة 140، بالإضافة إلى 860 حادث القاء حجارة، و31 حادث إطلاق نار في عشرة أيام، و35 عملية طعن نجح منها 19 على الأقل، في مقابل ارتقاء 30 شهيدًا، وإصابة 4300 فلسطينيًا، وحصول 213 حالة اعتداء من قبل المغتصبين (المستوطنين)، بالإضافة إلى 460 معتقلًا حتى الآن.
من المبكر جدًا، وضع نسبة حقيقية للخسائر عند الجانبين، الفلسطيني والصهيوني، لكنها حتى الآن إيجابية جدًا، ذاك أن من ارتقى شهيدًا من الجانب الفلسطيني قد نجح في تحقيق أهداف محققة، ليس على المستوى الشخصي، إذ نحسب أرواحهم جميعًا في حواصل طير خضر في قناديل معلقة بعرش الرحمن -ولا نزكيهم على الله عز وجل- وذلك الفوز العظيم، لكن أعني على صعيد تحقيق أهداف تلك الانتفاضة، انتفاضة السكاكين.
عضو المكتب السياسي في "حركة المقاومة الإسلامية - حماس" الدكتور موسى أبو مرزوق قال إن "انتفاضة القدس لها من العمر سنة"، و"هدفها الأساسي حماية المسجد الأقصى، وتطهير الأرض الفلسطينية، ونيل الفلسطينيين لحريتهم، واسترداد كرامتهم، وجمع شملهم بعودة اللاجئين"، لكن هذه أهداف بعيدة المدى، لا تملك تلك الانتفاضة تحقيقها على مداها القصير، وإنما تبدو أهداف المنتفضين واندفاعتهم تتلخص بالأساس في وقف الاعتداءات المتنامية على الأقصى، وتغول المغتصبين، ومحاولة سلطات الاحتلال فرض تقسيم الأقصى زمانيًا ومكانيًا.
في هذا الإطار وحده، يمكننا الجزم، بأن انتفاضة السكاكين قد حققت نتائج مبهرة، وأنجزت في أسبوعين ما لم تنجزه مظاهرات هنا أو هناك، إذ أوقفت إلى حد بعيد فكرة الاسترسال في تجريب صبر الفلسطينيين وعشقهم لمسرى النبي صلى الله عليه وسلم.
المخطط الصهيوني يكاد يكون معلومًا للجميع، وهو أنهم سيهدمون الأقصى حقيقة حينما يأمنون رد الفعل، ولضمان هذا الأمان تجري العديد من الإجراءات، من تهويد المدينة القديمة، وتهجير للفلسطينيين، وتعويد البقية على الاعتداء على الأقصى، وقتل روح الصمود لدى المقدسيين، وتأمين الضفة/ الخطر الأكبر بالنسبة للكيان الصهيوني، إلى الاطمئنان لردود الفعل الإقليمية والعالمية، وقد جرى اختبار تأثيرات التغريبات عليها وعملية إبعاد المسلمين عن الارتباط بمقدساتهم حول العالم، بإجراءات مثل شارل إيبدو وغيرها، وفي خضم المشاكل الداخلية في سوريا واليمن ومصر والعراق وليبيا وتونس، يصبح احتمال الاطمئنان إلى انخفاض مستويات الغضب حال تعرض الأقصى لمكروه كبيرًا.
في ظل هذا المناخ تتضاعف أهمية انتفاضة السكاكين، وتصبح الدماء التي تسفح سخية من الفلسطينين مؤثرة وفاعلة، لاسيما أنها أحدثت نكاية في أعداء فلسطين، الصهاينة "الإسرائيليين" والعرب على حد سواء، ويغدو ثمنها مقدرًا بالنظر إلى كونها تسد ثغرة بل فجوة واسعة جدًا تسمح بمرور مخطط هدم الأقصى، وبناء الهيكل المزعوم مكانه.
ولذا؛ فإن جدلية ديمومة انتفاضة السكاكين، أو اقتصارها على أسابيع قليلة لم تعد مجدية؛ فلقد تحقق بالفعل قدر من الردع يسمح للفلسطينيين بالبناء عليه، ويحول دون استرسال الصهاينة في غيهم مطمئنين إلى غياب رد الفعل الإسلامي.
هذا الردع هو بالغ الأهمية لقضية الأقصى، وهو لحسن القدر ليس مقتصرًا على قضيته وحده؛ فدونه امتيازات أخرى تحققت، فغليان الضفة بعد برود طويل جدًا، استمر مارًا بأكثر من عدوان صهيوني على غزة، نجحت فيه استحكامات نظام محمود عباس الاستبدادي في حماية أمن الكيان الصهيوني، في وأد أي محاولة لإطلاق انتفاضة أو تخفيف الضغوط على غزة حين شن الحروب المتوالية عليها، هو مكسب كبير بحد ذاته، وهو مؤذن ببدء مرحلة تنتهي فيها سلطوية السلطة الفلسطينية الغاشمة، الموالية لـ"إسرائيل".
إنه مما ينبغي التوقف طويلًا أمامه، هو ميلاد جيل في الضفة والقدس، ولدوا ما بعد أوسلو لكنهم كافرين بها، معظمهم لم يألفوا احتكاكًا عنيفًا مع الكيان الصهيوني على النحو الذي ألفه آباؤهم؛ فمذ نأى عباس بالضفة على الانتفاضة في وجه "إسرائيل"، وتحقق فيها قدر من الهدوء الاستسلامي ناجمًا عن لجم حركات المقاومة كحماس والجهاد وغيرها، وإيقاف نضال حركة فتح وأذرعتها العسكرية المختلفة لمدة طويلة، نشأ جيل لم يحظ بأنصبة سابقيه من التربية والثقافة النضالية، بما جعلت كثيرًا منه يركن إلى حياة وادعة آمنة ذليلة في مبدئها ومنتهاها، لكن حيث جاءت انتفاضة السكاكين؛ فإن هذا الجيل قد كشف عن جينات وراثية تنزع به نحو نضال وجهاد الآباء والأجداد، ولربما لا يصلح معه كل قمع عباس وجلاوزة نظامه القمعي.
هذا المكتسب يظهر نظيره في القدس أيضًا؛ حيث يعيش الفلسطينيون أوضاعًا مادية وأمنية أفضل من نظرائهم في الضفة، وقد اطمأن الكيان الصهيوني إلى أن "تعايش" معظمهم مع الأوضاع الاحتلالية، والقمع المتصاعد المتدرج في أكناف بيت المقدس كفيلان بأن يميتا قدرة المقدسيين على الممانعة ومجابهة مشروع الهدم في طوره الاقتحامي والتقسيمي الراهن. لكن بدا أن ذلك محض وهم سرعان ما بددته انتفاضة السكاكين التي تنوعت صورها من طعن بالسكاكين ودهس بالسيارات وإحراق بالمولوتوف وإلقاء للحجارة وأخيرًا تصدٍ جسدي بطولي على أعتاب الأقصى الشريف.
هذا كله رائع، لكن، كما عودنا الفلسطينيون المبدعون دومًا، والسابقون دائمًا، والكيان يلهث خلف إبداعاتهم؛ فإنهم، لا، بل كل المسلمين مدعوون إلى إنضاج وسائل أخرى نضالية توفر قدرًا من الدماء الزكي النازف في تلك البقعة المباركة، المطلوب أخيرًا إبداع يحقق ردعًا أعلى بكلفة أقل، فمن يضع للطريق الجديد منائره؟
- التصنيف:
- المصدر: