الإعلام بين النزيف والتزييف
خالد سعد النجار
إن غياب الحقيقة والتضليل والإفك المتعمد -وإن طال أمده- سيأتي عليه يوما يدرك مدبروه أنهم قاموا بعملية انتحار مهني ليس له إلا مذبلة التاريخ، وفي الآخرة عند الله تجتمع الخصوم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
الروافد الإعلامية الرصينة تعتمد على الحقيقة ولغة الإقناع وتناول القضية من كافة زواياها المطروحة سواء المؤيدة أو المعارضة، لأن الحق في النهاية سيتضح، والباطل بطبعه زهوق. أما الإعلام الذي له أجندات خاصة فوسائله تختلف، فهو يجول ويصول في أروقة التكييف والترويض والبتر والإخضاع.
إن غياب الحقيقة والتضليل والإفك المتعمد -وإن طال أمده- سيأتي عليه يوما يدرك مدبروه أنهم قاموا بعملية انتحار مهني ليس له إلا مذبلة التاريخ، وفي الآخرة عند الله تجتمع الخصوم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]
قال -صلى الله عليه وسلم-: «
» (صحيح الجامع: 2846).. يعني كلمة (زعموا) أراد به النهي عن التكلم بكلام يسمعه من غيره ولا يعلم صحته أو عن اختراع القول بإسناده إلى من لا يعرف، فيقول: زعموا أنه قد كان كذا وكذا، فيتخذ قوله زعموا مطية يقطع بها أودية الإسهاب، وقيل سماه مطية لأنه يتوصل بهذا المقصود من إثبات شيء في المشيئة كما أنه يتوصل إلى موضع بواسطة المطية، وأكثر ما ورد في القرآن فهو في معرض الذم. قال الخطابي: وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا يثبت، قدم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من الحديث ما هذا سبيله وأمر بالتوثق فيما يحكي والتثبت فيه لا يرويه حتى يجده معزواً إلى ثبت. [فيض القدير للمناوي]تقول د. غدير سعادة: "في بعض البلدان العربية لا وجود سوى غير للصحافة الرسمية، التي هي في معظم الأحيان وسيلة عرفان وليس معرفة. والمواطن في هذه البلدان يفتقر الى المناعة، فيصدّق من لا يَصْدقه الكلام. وغالباً ما تتحول وسائل اعلامية عديدة الى ناطق رسمي باسم مالكها.
على الرغم من أنها الدافعة الى التنوير والتعقّل والوئام، إلاّ أن الأنظمة الإعلامية الوطنية، كثيراً ما تحاول أن تكون (الوكيلة الحصرية) في بعض الأحيان، لجماعات خاصة أو لبلدان، تتعارض مصالحها في كثير من الأحيان مع المصالح الوطنية".
ووسائل التضليل الإعلامي متشعبة تشعب الباطل نفسه، لكن نخص بالذكر منها «لغة التبرير» أو ما يحلو للبعض أن يسميها «النجومية»، كما قال الرئيس الأميركي السابق (جون كينيدي) بعد فشل الهجوم على كوبا في خليج الخنازير: "للنصر مائة أب، فيما الهزيمة يتيمة".
وفي عام 1917 أعلن (آرثر بلفور) وزير خارجية بريطانيا الوعد المشؤوم المشهور باسمه «وعد بلفور» بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منه جعل بلاد فلسطين ملك اليهود، بإنشاء وطن قومي لهم في قلب العالم الإسلامي وفي أرض الإسراء، فقال الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) في رسالته المشهورة إلى الرئيس الأمريكى (جون كينيدى) فى مايو سنة 1962م : "لقد أعطى من لا يملك، وعداً لمن لا يستحق، ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة وبالخديعة، أن يسلبا صاحب الحق الشرعى حقه، فيما يملكه وفيما يستحقه".
كلمات رنانة .. لكن تبقى في النهاية الهزيمة هزيمة، وتضخم إسرائيل مستمر، رغم تلك التصريحات النارية والبريق الإعلامي المطبل لها والمزمر.
ومن وسائل التضليل «الدعاية» التي هي في جوهرها عملية إقناع ممنهجة، وصارت ركنا ركينا من العملية الإعلامية، وتتبنى بالأساس الظهور بمظهر الصدق وإخلاص النصح –حتى ولو كانت تبطن الشر- من أجل كسب ثقة المتلقي والاستحواذ على فكره، وتلك سنة إبليسية، كما قال تعالى في شأن الملعون مع آدم وحواء: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] أي أقسم لهما بالله، وهو كاذب في هذا.
لقد أضحت الدعاية فننا له ثقله في العملية الإعلامية، وله قواعد وأسس تحكمه وتتحكم فيه مدارها على محاولة كسب تعاطف الجمهور بأي وسيلة شريفة كانت أم وضيعة، هذا مع مقومات أخرى مثل البساطة والتكرار لاختراق أذهان الناس، والولوج إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وكثرة، مع استخدام الرموز وضرب الأمثلة، فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن، وأن تستدعي الصور ذات الدلالة المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروثة أو المكتسبة.
يقول الأستاذ إبراهيم غرايبة: "ويكاد لا يكون ثمة فرق يذكر في وسائل العمل الدعائي بين الدول الديمقراطية والدكتاتورية، فقد لجأت جميعها إلى أساليب التأثير والعواطف وتحريك الحماس والحقد والكراهية والتمجيد، لا فرق في ذلك بين النازيين في الحرب العالمية الثانية أو الشيوعيين البلاشفة في مخاطبة العمال والمثقفين والفقراء، أو الرأسماليين الأمريكيين الذين يدعون إلى الليبرالية والحرية، أو الثوار الفرنسيين .. إنها دائما عند أصحابها وسيلة لتحقيق هدف، والعبرة بالمحصلة، ولا بأس بإخفاء الحقائق أو التدخل في تفسيرها أو حتى قلبها".
ومن أوجه التزييف الإعلامي (قلب المفاهيم) لتزييف الحقائق وطمس معالمها، ولو كلَّف ذلك لَيَّ أعناق المسلمات التاريخية، وتغيير مفاهيم وبديهيات ترسخت عند ذوي العقول السليمة:
فعبارات الاستعمار بدلا من الاحتلال، ومستوطنات بدلا من مغتصبات، والمستوطنين بدلا من المحتلين، والتوجيه المعنوي بدلا من غسيل الأدمغة، ووزارة الدفاع بدلا من وزارة الحربية، والتبشير بدلا من التنصير، ومشروبات روحية بدلا من خمور، والفوائد والأرباح بدلا من الربا.
وعموما يسعى التضليل الإعلامي إلى خلق واقع جديد لا علاقة له بالواقع المتحقق الفعلي، وذلك بهدف خدمة مصالح أو أغراض خاصة.
لكننا لا بد أن لا نسرف في تضخيم قدرات التضليل الإعلامي والتوهم أنه مارد لا قبل للمجتمعات به، أو الإيمان كلية بما يردده البعض من أمثال الكاتب الأمريكي (هربرت شيللر) حين قال في كتابه «المتلاعبون بالعقول»: "مَنْ يسيطر على وسائل الإعلام، يسيطر على العقول".
وذلك لأن العالم الآن بات قرية مفتوحة تتدفق فيها المعلومات والأخبار بصورة لم تعهدها البشرية من قبل، ومن السهل تتبع الخبر هنا أو هناك، على عكس الماضي الذي كانت الروافد الإعلامية تعاني من احتكار رسمي حكومي أو رأسمالي خصوصي.
أضف إلى ذلك وجود «الإعلام الجماهيري» الموازي الذي استعصى على التكميم أو التعتيم، حيث توافرت أجهزة المحمول بأيدي الناس والتي مكنتهم من تسجيل الحدث في أرضه ولحظة وقوعه، وحتى قبل أن تصله كاميرات الإعلاميين ومراسليهم، وباتت الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي طافحة بمليارات الفيديوهات والصور الحية والهشتاجات والتعليقات التي تستعصي على التضليل أو التزييف.
كل هذا دعا رعاة الضلال الإعلامي إلى تغيير استراتيجيتهم عن طريق نشر وجهة نظرهم المضللة تجاه حدث معين في أكثر من قناة وموقع إلكتروني لكي يتوهم البسطاء أنه "إجماع شعبي" وطوفان جماهيري لا قبل لهم به، وتبدأ بدواخلهم عملية الشك في ذواتهم وآرائهم واستنتاجاتهم .. في عملية يشار إليها بالمثل الدارج: "الكثرة تغلب الشجاعة".
أيضا يعتمد التضليل الإعلامي المعاصر على البرامج الحوارية التي تستضيف المفكر والمحلل والباحث والخبير والمتخصص ممن يدينون بدينهم ويقضون ساعات وساعات في عملية غسيل أدمغة بلا كلل ولا ملل، وكما يقولون في الأمثال الشعبية: "الزن على الأذن أشد من السحر".
وهكذا تظل الحرب الضروس بين الحق والباطل، تتغير فيها الموازين تارة، وتتبدل فيها مراكز القوى تارة أخرى، لكن تبقى المثل والقيم حاجة ضرورية لمن يخوض بحار الإعلام ويتحمل أمانة هذه المهنة العظيمة.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]