سورة الإخلاص... الأثر النوراني
تمتاز العقيدة الإيمانية في دين الإسلام بشمولها وتعمقها للحياة كلها، وربطها بين طريق الحياة وطريق الآخرة ربطًا متينًا قويًا، واتخاذها التوحيد منطلقًا لكل حركاتها وسكناتها ورؤاها. إنها عقيدة تبث في نفس المؤمن التسليم الكامل لله ربه الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فحياة المؤمن مرتكزة على التوحيد، مستقيمة بالاستغفار، فالتوحيد يمحو أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه من المعاصي.
وسورة الإخلاص تجلي المنهج وتوضحه وتوظفه في قلب المؤمن وتثبت أركانه تثبيتًا تامًا، فمنهج حياتك أيها المؤمن هو توحيدك لربك الواحد الأحد، فالحياة كلها قائمة على التوحيد، والفلاح في الآخرة سببه التوحيد، ومسيرة الكون كله قائمة على التوحيد. والخسران كله، والارتكاس كله، والخيبة كلها سببها الشرك، فلا غفران له، وهو ضلال كامل، ونكوص تام عن الخير والهدى والصلاح والإصلاح.
فهو سبحانه الله "أحد"، المتفرد بالألوهية لا يشاركه أحد فيها، وهو سبحانه ليس كمثله شيء في السموات والأرض، وهو سبحانه المستحق للعبادة وحده، فالقلوب له مصغية، والسر عنده علانية، والحلال ما أحل والحرام ما حرم، والدين ما شرع سبحانه. وهو الله الصمد والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات، وهو الذي ليس بأجوف فلا يحتاج الى أحد غيره، يقصده المؤمن في عباداته ورجاءاته ودعائه، ويقصده جميع الكون كله في حوائجه، فلا يقضى الأمر إلا بإذنه، فأهل السماء والأرض كلهم مفتقرون إليه سبحانه في كل شأن من شؤونهم تمام الافتقار، يدعونه ويرجونه، فالمعدوم مفتقر في وجوده إليه والموجود مفتقر في شؤونه إليه، إذ له سبحانه الكمال التام والقدرة المطلقة والقيومية الدائمة على خلقه.
"لم يلد ولم يولد"، تبرؤ تام من مناهج المغضوب عليهم الذين قالوا "عزير بن الله" ولا الضالين، الذين قالوا: "المسيح ابن الله"، فليس له سبحانه ولد ولا والد ولا صاحبة.
"ولم يكن له كفوًا أحد"، لا في أسمائه ولا في صفاته، ولا في أفعاله، تبارك وتعالى وتقدس. إنها سورة إذن توجه القلب والعقل والنفس والروح له سبحانه ولعبادته والتسليم له عز وجل.
وتبث الثقة التامة في قلب المؤمن أنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه، وبأن الكون كله لايملك من أمره شيء إلا بإذن الله. وأن الاسباب كل الأسباب لابد أن ترد إلى مشيئة الله سبحانه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فهل لقلب بعد ذلك أن يقلق أو يضطرب؟ وهل لنفس بعد ذلك أن تلفت مسارها لغير ربها، أو أن توجه رغبتها أو رهبتها لغير وعده سبحانه وموعوده؟! وهل لعقل بعد ذلك أن يبحث عن منهج غير منهج الله عز وجل، أو شريعة غير شريعته، أو قيم ومبادىء غير تلك التي أرسلها مع رسوله؟!
ما أبأس تلك المناهج المنحرفة، تلك التي يبحث فيها المرء عن فلاحه عن طريق طقوس مخترعة، وعبادات منبتّة، فهذا يبحث عن خلاصه في صومعة، وذاك يبحث عن فلاحه في رهبانية، وثالث يرهن نفسه لصنم مصنوع، ورابع تائه يبحث عن لاشيء!!
ألم تبد لهم الحقائق الجلية في كل خلق من حولهم؟! ألا ينطق الكون كله بوحدانية الله وألوهيته، ألا يدلون بأنفسهم على من خلقهم؟! {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، ألا تدل السموات والأرض وما فيهن على لزوم عبادته والتوكل عليه والإنابة له سبحانه وتعالى؟!
إن حياة المؤمن الحقة قائمة على معرفة ربه سبحانه بألوهيته، فلا تصير الحياة حياة إلا بعبوديتها له، وتوكلها عليه، وإنابتها له، ومن خسر ذلك فقد خسر معنى الحياة بأسرها، مهما ظن أنه كسب بعض المتاع الزائل العاجل.
لا عجب بعد ذلك أن نعلم انها سورة توجب الجنة لقارئها (1)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم بأنها تعدل ثلث القرآن (2)، وأن حبها يدخل الجنة (3)، وان من قرأها عشر مرات بني له بيت في الجنة (4).
______________
[1]- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ « » قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَبَتْ قَالَ « » ( رواه الإمام أحمد).
[2]- في الحديث: « » (رواه البخاري).
[3]- عن أنس بن مالك قال "كان رجلٌ من الأنصارِ يؤمهم في مسجد قباءَ، وكان كلما افتتح سورةً يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورةً أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعةٍ، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورةَ، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأَ بأخرى، فأما أن تقرأ بها وأما أن تدَعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركِها، إن أحببتُم أن أؤمَّكم بذلك فعلتُ، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلِهم وكرهوا أن يؤمهم غيرُه، فلما أتاهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أخبروه الخبرَ، فقال « » فقال: إني أحبُّها، فقال: « »" (صحيح البخاري).
[4]- قال صلى الله عليه وسلم: « {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ». (صحيح الجامع الصغير).
د. خالد رُوشه
15/1/1437 هـ
- التصنيف:
- المصدر: