القراءة عمارة العقول (4)
أمين أمكاح
ظاهرة العزوف عن القراءة: أسبابها، آثارها، ومعالجتها.
- التصنيفات: دعوة المسلمين - الواقع المعاصر - طلب العلم -
إن الهجران والعزوف عن القراءة معضلة عويصة تواجهنا، خصوصا وأنها من بين الأسباب الرئيسية في تأخر الأمة، فلا شيء كالقراءة في الكتب الجيدة يساعدنا على تنمية عقولنا وزيادة ثروتنا المعرفية، لكن علينا أيضا أن نسأل: كيف يمكن أن نجعل ما تعلمناه سببا في إصلاح شأننا الخاص؛ وسببا في ارتقاء الحياة العامة وازدهارها؟ فنحن المسلمين نعتقد أن العلم للعمل، والوعي لترشيد الحركة اليومية، في حين أن فعـل القراءة يظل غائبا اليوم عن أمتنا، ويظهر ذلك جليا في نفور كثير منا من الكتب والمكتبـات، حـتى أصبحت هذه الظاهرة سمة واضحة علـى جيـل بأكمله، ولذلك لزم تشخيصها واقتراح حلول لعلاجها، وقبل أن نذكر العلاج نذكر الأسباب التي جعلت هذه الظاهرة متفشية بيننا وآثارها علينا.
أصبح الاهتمام بالقراءة في عصر التدفق المعرفي، والعولمة، والتغيرات السريعة، والعلم والتكنولوجيا، والحداثة، والغزو الثقافي، والمعلوماتية، ضرورة عصرية ينبغي أن يضعها التربويون في صدارة أهدافهم وعلى أولويات مهامهم.
إن هذا العزوف ليس نتيجة لسبب معين ولا وليد لحظة، ولكنه جزء من الأزمة الحضارية الشاملة، فالقراءة ظاهرة حضارية، وهي الوسيلة الأولى لاكتساب المعرفة، لذا سنقوم بذكر ما نراه أسباب رئيسية في حدوث الظاهرة وزيادة حدة تضخمها، ويمكن تعداد أهم العوامل فيما يلي:
- كثرة الملهيات بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وإقبال الناس عليها بشكل مبالغ.
- منافسة وسائل الإعلام المختلفة للكتاب وخاصة الفضائيات والإذاعات.
- الغزو الثقافي الغربي وترويج ثقافة اللامبالاة والأنانية.
- حالة الإحباط واليأس التي يعيشها الإنسان في مجتمعنا.
- اتباع سياسة فرض التخلف التعليمي على الشعوب للسيطرة والتحكم فيها.
- غياب تشجيع الأسرة على القراءة منذ الصغر.
- عدم حضور مفهوم التعليم والتثقيف الذاتي والتحفيز عند أفراد المجتمع.
- قلة الدعم المالي لإنشاء المكتبات العامة والعمل على جعل الكتاب في متناول الجميع.
يعيش الكتاب مرحلة التنافس مع وسائل التكنولوجية الجديدة في مجال حفظ وتداول ونشر المعلومات بعد أن تزايدت الأصوات التي تقول بانتهاء الكتاب في شكله التقليدي واتجاه القراءة عبر شاشات الكمبيوتر بأشكالها المختلفة ومع التطور التكنولوجي والتقدم والسرعة التي أصبحت سمة هذا العصر بدأ الاتجاه نحو القراءة يضعف وزاد إقبال الناس على الأجهزة الحديثة.
ويمكن أن نجمل أهم الآثار السلبية التي خلفتها هذه المعضلة في النقط الآتية:
- فراغ في المكتبات العامة يجعلها تبحث عن القراء، بسبب غزو تكنولوجيا الاتصال.
- قلة الوعي لدي عامة الناس وبروز السطحية والارتجالية، والتي لا تأهلنا إلى حل المشكلات التي تقع بالخصوص في وقت الأزمات.
- فقدان إرادة التغير، وذلك راجع إلى ضعف الزاد المعرفي الذي نحصل عليه بفعل القراءة، بحيث أننا لن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام ما لم ندرك أن المعرفة هي الأساس في عملية التغيير.
- نقص حاد في استهلاك المنتوج العلمي دليل على الاستمرار في التأخر، فالتدفق الهائل للمعلومات وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع, والنتيجة المباشرة لذلك هي تقادم ما بحوزتنا من معارف.
- تفشي البدع والمخالفات وغير ذلك مما يخالف الشرع في المجتمع، فشيوع الأمية الأبجدية والحضارية قد جلب على أمة الإسلام مشكلات هي أكبر مما نظن وليس ذلك علي صعيد المعيشة والإنتاج فحسب، وإنما علي صعيد فهم الإسلام أيضا، فالإسلام بما أنه بنية حضارية راقية لا يتجلى على نحو كامل إلا عبر تجربة معرفية وحضارية رائدة، مما يعني أن التخلف الذي نعاني منه قد حال بيننا وبين رؤية المنهج الرباني علي النحو المطلوب.
ينبغي أن نعترف قبل الخوض في كيفية علاج هذه الظاهرة، أنه ما لم تتظافر جهود العديد من الجهات من أجل العمل على إزالة الأسباب التي تؤدي إلى وقوع هذه المعضلة لن تسهل علينا عملية العلاج.
وإليكم بعض الحلول المقترحة لعلاج هذه الظاهرة على مستويات متعددة:
- اغتنام الأوقات وإدراك فوائد القراءة ومعرفة ثمارها في الرفع من المستوى الثقافي للفرد، بحيث تصبح القراءة هماً وهدفا، فالكتاب صديق لا يمل ورفيق يؤنس ويسلي.
- العمل على غرس القراءة لدى الطفل وتربيته وتعويده عليها منذ الصغر لتحبب إليه، بخلق جو أسري مليء بأنشطة القراءة والتشجيع عليها وتقديم حوافز لترسيخها في سلوك أفراد الأسرة.
- تأسيس نوادي وجمعيات مدنية تسهر على تقديم أنشطة متنوعة ومسابقات وندوات من أجل تكريس هذه القيمة مجتمعيا.
- ينبغي توفير البنية التحتية المناسبة وخلق بيئة ملائمة ومحفزة للقراءة، ليرتفع اهتمام الناس بها، وكذلك الاعتناء بالمكتبات العامة وتزويدها بالكتب.
- الحرص على تقديم برامج ومنتوج جيد وفي المستوى، ومحاولة تسليط الضوء على الأشخاص المهتمين بهذا الموضوع وإجراء مقابلات معهم وبرامج توعوية خاصة.
لكن رغم هذا كله تظل فكرة جعل الناس يؤمنون بجدوى وضرورة القراءة سوف تجعلنا نحل أكثر من نصف المشكلة، وذلك لأن الإيمان والاعتقاد هما من أبرز محركات الفرد نحو العمل، فعندما يؤمن المرء بأن القراءة تمكنه من عمارة عقله وبناء شخصيته وجعلها قوية وفعالة بحيث تكون صمام أمان له في مواجهة مشاكل الحياة، فتصبح أي محاولة لمنعه عن القراءة سوف تكون فاشلة، وعندئذ سيضعف دور وسائل الإعلام وسوف تفشل كل الجهات في سعيها إلى عزل الإنسان عن القراءة.
لو اجتمعت الجهود وتضافرت جميع القوى القادرة على التأثير والتغيير، أليس بإمكانها أن تخلق حالة جديدة باستطاعتها أن تخرج الناس من الظلمات إلى النور، أو بتعبير آخر من حالة العزوف عن القراءة إلى حالة الولع بها.