الناعقون الجدد وكبير الطعن في الإمام البخاري
الإمام البخاري سيظل في وجدان الأمة هو أمير المؤمنين في الحديث وعلم الحفظ وإمام الدنيا في علم الرواية، وربما كفانا مؤنة الاسترسال والاستطراد قول الحافظ ابن حجر فيه: "لو فتحت باب الثناء عليه ممن تأخر عن عصره لفنى القرطاس ونفدت الأنفاس فذلك بحر لا ساحل له".
إذا كنا لا نستطيع أن نجادل في كون معظم المستشرقين وكل المبشرين هم الخصوم والأعداء الحقيقيين لهذا الدين، الذين جعلوا من هذه الخصومة والعداوة حرفة زاولوها بكل مهنية واحتراف ومارسوا من خلالها صنعة القدح وبث الشبهات وفن افتعال الضجة والتكسب من مناخها في الحال أو المآل.
هذا عن الأسياد المتبعون أما عن الصغراء الأغرار المتبعين فهم يقتفون أثر المسير من ورائهم وأغلبهم قد تشرب المخاصمة ومارس العداوة بوسيلتي السماع ثم التقليد، فقد آثروا وهذا واضح جلي من خلال ما راكمته تجربتهم في هذا السياق أن لا يعطوا لأذهانهم هامشا ليمارس إنصاف البحث وتميز الفهم، ولذلك جاءت خصومتهم للإسلام كذلك الوشم "الطوطمي" الذي اتخذه صاحبه كرمز يرشد به الناس على صوب الانتماء ووجهة الاستنصار والاستصراخ والاحتماء الدال على كنف الولاء المستقبل في حب وشهوة للوافد الصقيعي المتمثل فيما يدعو وينادي إليه من قبح هدام وفكر استعماري جذام رواد الاستعمار القديم المتجدد في غير وجهه السافر.
ولا شك أنها الحقيقة التي طالما أخفاها هؤلاء الصغراء وراء زعم البحث ودعوى الحجاج العقلاني وهم أبعد ما يكونون عن هذا بعد المشرقين، وإنما كانوا ولا يزالون ينعقون بما لا يسمعون إلا دعاء ونداء، يحركهم بمصادفة هوى في أنفسهم حقدهم على هذا الدين ومعاناتهم من نفوذ سلطانه بين الأسوياء وانتشار نوره بيسر وحسن انسياب، في مقابل ما يشهده ويعيشه الفكر المناهض من فقر حجة وشرخ برهان وفجوة عميقة بين طوباوية الفكرة وتسفل أصحابها في كل نوع نقيصة وجنس إثم وخطيئة.
مع واجب التنبيه عند هذا المنعطف على ملمح الفوارق بين الجيل القديم الذي تبنى الفكر الاستشراقي وكان قد أبلى البلاء المعتبر في وظيفة ومشروع إعادة التصنيع والتركيب العربي لقطع غيار التوفيد الاستشراقي، ولا شك أنه بلاء ظل وسيبقى بعيدا كل البعد عن ضجيج زمرة الناعقين الجدد من الذين ملأ الحقد أفئدتهم ومارسوا لعبة "خالفه تُعرف؛ وعارضه تتنعم وتُفتح أمامك الأفاق لتصول وتتكلم".
وكانوا كالذي بال في بئر زمزم -لا لينجسه فدونه خرط القتاد- وإنما ليذكر في الأسفار بالاسم والرسم فحالت بينه وبين أمنيته الحوائل وذهب ذكره جفاء، وكان جهد ما بلغوه ولا يزالون يكررون ذكره في اجترار مفلس بئيس عبارة عن خبط وخلط يقرره الواحد منهم ثم ما يلبث أن ينقضه غيره أو هو نفسه إذا ما اقتضت لوازم المصلحة ذلك.
وربما أجملنا فلسفة قضيتهم وأس وجودهم في حقيقة حقدهم على هذا الدين العظيم، فلو نهى الإسلام عن فت البعر لفتوه، ولو دعا إلى السفور لتحجبوا قبل معشر البالغات وواجهونا بغير رؤوس حاسرة، ولو دعا إلى البغاء والخنا وحاشاه لتبتلوا بحَصور أقرب ما يكون إلى رهبانية ابتدعوها ورعوها حق رعايتها، ولو نادى بواحدة لأحلوا فروج النساء رباع وخُماس وسُداس، ولو نادى بالسعي للأنثى لتبنوا أحكام الوقر في البيت بالنار والحديد، ولو أباح الخمر والمسكرات لرأيتهم يسعون بكل جهد إلى غلق الحانات وتشميع الخمارات، ولو دعا الإسلام وحاشاه إلى تشييد الماخورات لبنوا المعاهد والمساجد، ولو قامت دعوته على الشرك لرأيتهم يحملون المعاول ويهدمون النصب والقباب والمشاهد معظمين جناب التوحيد، ولو جاء في الوحي القسمة بـ«للأنثى مثل حظ الذكرين» لاستصرخوا بالمواثيق الدولية من أجل سوي القسمة ب«للذكر مثل حظ الأنثيين»، وقس على هذا الفصام والمتفاوتة واعطف عليها بسيل لا عنوان بداية له ولا نهاية، اللهم الوقوف على حقيقة أن القوم عداوتهم ليست كما قد يتوهم متوهم مع السلفيين ولا الخلفيين ولا الإخوان ولا أي طيف من أطياف الحركة الإسلامية، وإنما العداوة مع الدين نفسه والمقصود ضرب عراه وهدم صرحه والصد عن سبيله والانسلاخ من قيده قيد الحلال والحرام خدمة لجهات معلومة العين مقروءة الضمير مشهورة الأهداف.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار الحملة القديمة الجديدة المتجددة مع هؤلاء الصغراء ضد الإمام البخاري رحمه الله ليس المقصود منها إسقاط الإسم من قائمة الأعلام فحسب، ولا محو الذكرى من أذهان الأجيال المتلاحقة، وإنما المقصود أصالة قطع حبل المشيمة الموصل لميراث النبوة ونسف ما جمعه هذا العلم الأشم من هذه التركة المباركة، ولا شك أن الطعن في الناقل لا يقف على حدود عتبته بل يتعداها ليتحول إلى طعن وتشكيك صريح في المنقول نفسه.
غير أن الجديد المسجل في هذا الخصوص هو تداعي بعض الحدثاء الأسنان السفهاء الأحلام من أفراخ العلمانية ممن قل زادهم في العلم والعمل والفهم، وتجاسرهم على سلك المسالك الضيقة لعلم الرجال جرحا وتنكيلا وهو العلم الذي صان الله به حديث أشرف الخلق وسيد المرسلين من تحريف المبطلين وانتحال الغالين، وهو العلم العميق الغور المسبور الفهم الذي لا يحسن الخوض فيه إلا من اصطفاه الله وميّزه بالصدق والأمانة وسلامة القصد والطوية وقوة الحفظ وتميز ملكة الضبط كما قال العلامة المحدث المعلمي اليماني: "ليس نقد الرواة بالأمر الهين، فإن الناقد لابد أن يكون واسع الاطلاع على الأخبار المروية، عارفا بأحوال السابقين وطرق الرواية خبيرا بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب والموقعة في الخطأ، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الراوي... وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة...".
وقد أطال في سرد السمات المميزة والصفات المشروطة ثم وقع في ذيل فواصل معطوفاته بقوله: "وهذه مرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال لم يبلغها إلا الأفذاذ".
فيا ليت شعري أين هذا في هؤلاء ومن هؤلاء، وهم الذين ملأ ضجيجهم لفافات القرطاس المأجور، وأسمال الجرائد وأعمدتها المتسفلة في نقيصة الغيبة والبهتان ومهالك الجهالة المركبة والشهوات المردية، كما ملأ أرباض الحانات والخمارات فكم من محبور حُبر ورأس كاتبه يتسكع بين دروب الثمالة متأبطا شر بليته مع كل غاسق متى وقب، مع أن الكلام في الأعلام يحتاج إلى ورع تام وبراءة من كل هوى، مع إدمان الطلب وطول المذاكرة ربطا لليل بالنهار، وكثرة التردد على العلماء الربانيين جهابذة هذا العلم الذي ميّز به الله هذه الأمة عن سائر الأمم.
فإن جاءت المذمة حينئذ محفوفة بضوابط الشرع وقواعد الجرح والتعديل، وسلمت نية الناقد الذي حاز مفاوز هذا العلم النافع فإن العصمة لله ورسوله، وكل يؤخذ من كلامه ويرد، ومن ذا الذي يصيب ولا يخطئ بضابط أن من غلبت حسناته سيئاته لم تذكر مساوئه، ومن غلبت سيئاته حسناته لا تذكر محاسنه.
ويبقى أن نقول أن الإمام البخاري سيظل في وجدان الأمة هو أمير المؤمنين في الحديث وعلم الحفظ وإمام الدنيا في علم الرواية، وقد كان ـ كما جاء في كتب سير الرجال المعتبرة السند ـ غاية في الحياء والكرم والسخاء والعفة والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، فهذا الإمام مسلم كما روى الحاكم بسنده جاء إلى البخاري فقبله بين عينيه وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، وربما كفانا مؤنة الاسترسال والاستطراد قول الحافظ ابن حجر فيه: "لو فتحت باب الثناء عليه ممن تأخر عن عصره لفنى القرطاس ونفدت الأنفاس فذلك بحر لا ساحل له".
فأين أنتم من الإمام مسلم والحاكم ابن حجر في مقام الشهادة بشأن هذا الإمام العلم الأشم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِذْبَة البخاري، وقد علمنا من أخبار أفمامكم أن الكثير منكم قد فشل في إدارة مؤسسة أسرته الصغيرة، حيث انفصمت العروة في بداية الطريق ولم يبق من سوالف فجرها الكاذب إلا أطلال يتجدد البكاء على شفا جرفها الهاري كلما جن الليل وحُشر الرأس في عنق زجاجة المُدامة وغنى لثمالته جهلا وجهلا وجهلا في مناخ تعلوه ظلمة ويتنفس سوادا، ظلمات بعضها مركوم فوق بعض من أخرج يده لا يكاد يراها فكيف به أن يرى أيدي الناس، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
نسأل الله العفو والمعافاة.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف:
- المصدر: