غربلة الناس
إن الحياة دار ابتلاء ومحن، منذ أن خلق الله آدم وأنزله إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة على الناس، إلا أن الفتن تزيد في زمن دون زمان، ومكان دون مكان، وإن من أشد أيام الفتنة وأزمنتها ما يكون في آخر الزمان، وهي الأزمنة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وحذر من فتنها ودعا الناس إلى الاعتصام بالحق، ومجانبة أهل الشر والكفر، وسوف نتطرق إلى حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحياة دار ابتلاء ومحن، منذ أن خلق الله آدم وأنزله إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة على الناس، إلا أن الفتن تزيد في زمن دون زمان، ومكان دون مكان، وإن من أشد أيام الفتنة وأزمنتها ما يكون في آخر الزمان، وهي الأزمنة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وحذر من فتنها ودعا الناس إلى الاعتصام بالحق، ومجانبة أهل الشر والكفر، وسوف نتطرق إلى حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع.
نص الحديث:عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « » (صحيح أبي داود[4342]).
معاني الألفاظ:
قوله: (يغربل الناس) أي يذهب خيارهم ويبقي أراذلهم، كتنقية الغربال للطحين وغيره.
قوله: (حثالة) هي ما سقط من قشر الشعير والأرز والتمر، والرديء من كل شيء، قال القرطبي: "عبارة عن موت الأخيار وبقاء الأشرار كما يبقى الغربال من حثالة ما يغربله، والحثالة: ما يسقط من قشر الشعير والأرز والتمر وكل ذي قشر إذا بقي، وحثالة الدهن تفله وكأنه الرديء من كل شيء، ويقال: حثالة وحفالة بالثاء و الفاء معًا"
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري[6434])، وقال: "يقال حفالة وحثالة". وهذا كناية عن خسة أولئك القوم ورذالتهم.
قوله (قد مَرِجت) أي اختلطت وفسدت. ومنه قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19]. أي خلط البحرين. ومنه قوله تعالى أيضًا: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق:5]، أي أمر مختلط. قال الطبري: "ويقال: مَرَجْت دابتك: أي خليتها تذهب حيث شاءت".
قوله: (عهودهم وأماناتهم) أي لا يكون أمرهم مستقيمًا، بل يكون كل واحد في كل لحظة على طبع وعلى عهد ينقضون العهود ويخونون الأمانات.
قوله: (واختلفوا فكانوا هكذا) وشبك بين أصابعه: أي يمزج بعضهم ببعض، وتلبس أمر دينهم فلا يعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر.
قوله: (ما تعرفون) أي ما تعرفون كونه حقًا.
قوله: (وتذرون ما تنكرون) أي تتركون ما ترون أنه باطل منكر. أو ما تنكرون أنه حق.
قوله: (وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم) أي الزم أمر نفسك واحفظ دينك واترك الناس ولا تتبعهم، قال صاحب عون المعبود: "وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار".
شرح الحديث:
في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي على الناس زمان غير محدد بوقت ولا بمكان، ويكون في ذلك الزمان غربلة للناس، فيذهب الصالحون كما يذهب الدقيق النقي إلى الصحن، وتبقى الحثالة والقشور في الغربال أو المُنخُل.
وهؤلاء الحثالة من الناس شرار فجار، لا يعرفون عهدًا ولا يؤدون أمانة، إذا عاهدوا غدروا وإذا ائتمنوا خانوا، قد اختلطت أمورهم ومرجت عهودهم وضاعت أماناتهم، فأي عيش يكون في زمان كهذا! نسأل الله ألا يكون ذلك الزمن زماننا، وإن كان فيه شيء كثير من ذلك.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم المخرج من ذلك فأرشد إلى لزوم الخير وتجنب الشر، ولا يكون ذلك إلا بالتزام كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسير على منهج السلف، الذي لا نجاة للأمة إلا به، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان إلى الاهتمام بخاصة نفسه، وترك أمر العامة، وخاصة عند عدم الاستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد دلت السنة النبوية على هذه المعاني كما في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: « » (صحيح البخاري[7084]).
قال ابن حجر نقلاً عن الطبري: "وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحدا في لفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح مسلم[1844]).
وفي هذا الحديث إرشاد إلى التمسك بالخير، وإظهار مكارم الأخلاق مع الناس، عند حلول الفتن، حيث قال صلى الله عليه وسلم: « » . وهذا يدل على أهمية الخلطة أيام الفتن إن استطاع الإنسان الصبر وتحمل الضيم وأمن على نفسه وعرضه ودينه، وسيأتي الكلام لاحقًا عن العزلة والخلط والتفصيل في ذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري[3601]).
ورواه مسلم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح مسلم[2887]).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري[7088])، قال ابن حجر: "والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه".
العزلة والخلطة أيهما أنسب للمسلم؟
لما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الموضوع هذا وهو قوله: « » وقوله: « » الحديث، وغيره من الأحاديث إلى العناية بخاصة النفس عند الفتن، تكلم العلماء رحمهم الله في هذه الأحاديث التي تأمر المسلم بالاعتزال عن الناس، وأخرى تأمره بالخلطة والصبر والأمر والنهي، وهل العزلة عن الناس وتركهم والفرار بالدين أسلم وأولى، أم الخلطة مع الصبر على الأذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
قال ابن حجر: "وقد اختلف السلف في أصل العزلة فقال الجمهور: الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك، وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين. وقد مضى طرف من ذلك في باب العزلة من كتاب الرقاق. وقال النووي: "المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى".
وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح وليس الكلام فيه بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عيناً وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور.
وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال:25]. ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضًا: « » (صحيح البخاري[6494])، وقد تقدم في باب العزلة من كتاب الرقاق حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه آنفا، « » (سنن الترمذي[1652])، وفيه (ورجل في غنيمة) الحديث، وكأنه ورد في أي الكسب أطيب فإن أخذ على عمومه دل على فضيلة العزلة لمن لا يتأتي له الجهاد في سبيل الله إلا أن يكون قيد بزمان وقوع الفتن. والله أعلم"
والذي ينبغي على المسلم فعله أيام الفتن أن يتقي الله تعالى ويتجنب الخوض فيها والمشاركة في إشعال فتيلها وخاصة ما يتعلق بالقتال بين المسلمين التي تسفك فيها الدماء المحرمة، والمسلم مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيام الفتن وغيرها، فإن كان يستجاب له وينصت لقوله فوجوده خير بينهم، وإن رآى أهواء متبعة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فليزم خاصة نفسه، حتى يأذن الله تعالى بتغيير الحال وإصلاح الفساد.
نسأل الله أن يمتعنا بحياة طيبة، وأن يميتنا على دينه ويحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجعل الجنة دارنا وقرارنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- التصنيف:
- المصدر: