وقفة تأملية في مسمى العقل العلماني ودعواه
هل يعارض العلمانيون الجهل والخرافة ويقاومون الظلم ويتصدون للظلامية حقا؟ أو بمعنى آخر هل تقوم العلمانية على العقل والانتصار لمنتوجه الفكري المتعدي النفع والصلاحية؟
استفسار قد لا يحتاج عند الذين حصلت أو تحصلت لهم حسنة تحسس المواطن الحساسة والبارزة من الذات العلمانية إلى الكثير من الوقوف أو الوقت الإضافي للوصول إلى إجابة شافية كافية في هذا الخصوص مفادها أن العلمانية ومعها العلمانيون قد تجاوزوا مرحلة المهادنة للجهل والخرافة واستمراء الظلم ومصافحة الظلامية؛ إلى مرحلة الاحتضان والتبني والمنافحة ليتكسر زعمهم على صفوان واقع أحوال الجاهلية العائدة في ثوب الزيف ثوب دعاوى الحرية والحداثة والعدل والمساواة.
ففي مصر مثلا وحيث كان الظن قد لامس سقف الاعتقاد بكون العلمانية والعلمانيين هناك قد قطعوا أشواطا كبيرة من النضج الفكري على مستوى التنظيم والتأطير والتنظير في ظل اختيارهم الحر في دائرة الاستعباد أو الاستغراب الحائف، وباتوا قادرين على كسر الطوق الحديدي والاستبداد السياسي الذي مارسه ويمارسه عسكر الكنانة، ومن ثم تنفيذ برنامجهم الطوباوي أو حتى على أقل تقدير الاصطفاف إلى جانب القوى الحية التي لها وقعها في الشارع المصري أو الأغلبية كتعبير يستجيب لطرحهم الأيديولوجي، تلك القوى التي تشترك وإياهم في الظاهر مع اختلاف المرجعية في مقاومة العدوان والظلم الجاثم على غالبية الشعب المصري أو الطابور الضارب في الطول والعرض والذي ظل يستجدي ويتسوّل طيلة عقود رغيف يومه ولحم طيره في ذلة وصغار من مردة العسكر المتجبرين في علو واستكبار.
بَيْدَ أن واقع الحال كذب غطس المقال وشهد بالصوت والصورة والرائحة أن القوم قد رسبوا في أول محطة حيث التفوا في رمزية لها أكثر من دلالة حول رجل يملك السلاح وكل أدوات القمع والطمع لكنه لا يملك أن يركب في معرض خرجاته الإعلامية المتكررة في صلف وصفاقة جملة مفيدة تحيل على معنى في حجم اسمه ورسمه، ليتم تنصيبه في طقوس فرعونية عائدة متجددة كبديل عن مهندس دكتور سبق أن درّس في أكبر الجامعات الغربية، لم يشفع له لا رجاحة عقل عند رافعي لواء تربيب العقل وتأليهه، كما لم يشفع له حقيقة أنه وصل إلى سدة الحكم عبر صناديق آلية انتخاب مدنية لا بيعة شرعية.
فكل ذلك كان سيئة عندهم عجلت بالإطاحة برئيس لم يهنأ بلحظة تدبر طيلة سنة مكوثه على رأس هرم السلطة التنفيذية، ليتم الانقلاب العسكري الذي من خلاله داست «بيادة» العسكر على كل القيم والأفكار بما فيها ضجيج العلمانيين المتغول في خواء وتلون حرباء.
هذا وإن كان الدكتور البرادعي قد أخذته العزة عن إثمه فإنه فر ولم يعقب بإنشاء جبهة إنقاذ تتصدى لطغيان السيسي وبقي سكوته في معرض الحاجة إلى كلام طويل واستدراك جميل بيان على انحيازه إلى ما أسس من أجله جبهته العاتية وبالتالي لم تكتمل فصول ما يحسبه البعض توبة ورجوعا وتراجعا عن أخطاء الأمس.
ولربما لم يكن تماهيهم وانحناؤهم مستغربا وقد عُلم أنهم مستعدون أن يقدموا صكوك الولاء والطاعة المدنية حتى لحاكم بوذي أو مجوسي أو نصراني قبطي أو حتى يهودي متصهين النفْس والنَفَس، وليس شأنهم هذا خاصا بأرض الكنانة وإنما هو مطرد أينما وجدوا وكان لوجودهم ركز مسموع العواء، فشأنهم ومشترك مقصدهم تغييب الحكم الإسلامي وإقصاء وجوده وجعله بين الناس أسطورة أو خرافة تاريخية منقطعة السند مجرحة النقل وليكن بعد هذا الإقصاء كائن من يكون.
ومهم عندنا التنبيه على أن العلمانية التي تصارع اليوم وتنافح من أجل كسب ود الناس -والمرأة منهم خاصة- وصدهم عن ذكر الله وصرفهم عن منقبة التسليم لشرع الله الحنيف، هي علمانية لادينية تشن حربها بلا هوادة رغم تواري بعض روادها وراء زعم العلمانية المتسامحة أو المعتدلة من خلال رفضهم أو تأشيرهم من بعيد على عدم انخراطهم في المشروع اللاديني.
ذلك أنهم لم ينسوا وهم في الوراء خلف الأستار أن يتوجهوا بأغوار قلوبهم داعين متضرعين السداد والتوفيق والغلبة لشواكلهم على عدوهم المشترك وخصمهم الأوحد الإسلام كدين والمسلمين كملتزمين بهذا الدين.
وإنما سقنا المسلمين وعطفناهم على الدين للعلم بأن المجال الحضاري الذي يعمل أصحابهم معاولهم في صرحه هو مجال تحكم نسمته الثقافة والرؤية والفكر الإسلامي بامتياز وهذا أصل لا ننكر وجود استثناء عليه لكنه يبقى في الحجم الذي لا يحفل به التاريخ ولا يكترث به المنصف المتجرد للحق مهما كان طيفه.
ولعل المتتبع للمسار الذي قطعته العلمانية في بلاد الإسلام منذ نشأة نبتتها الضارة سيرى إن كان يتمتع بذاكرة ضابطة أن أُمنية إسقاط سلطة الدين ونسف هيمنة رمزيته لم تكن ابتداء بالمواجهة الصريحة وإخراج ما تخفيه الصدور الموبوءة أو ما يمكن تسميته في دائرة تحرير الاصطلاح «بالكفر البواح» كالاستدراك المتكرر على أنصبة الإرث والدفاع عن المشاعية والمثلية الجنسية…
وإنما كان أول ما كانت المهادنة والتسلل لواذا واختراق الحواجز الأدبية والتهيئ والتخطيط بعد ذلك لصناعة رمزية جديدة هي في الظاهر من جنس الدين لكنها تحمل بين ثنايا الفكر والسلوك كل مؤهلات الضلالة والإضلال القادر على جعل الدين غريبا مستغربا ثم ركنه نسيا منسيا في ركن رشيد.
ومن هنا يمكن للمتتبع اليوم والأمس القريب قبله تسجيل ملاحظته ذات الثقل الوازن بخصوص السكوت المريب للعلمانية بله احتضانها للفكر الظلامي، احتضان وصل حد شد الرحال من طرف أقطاب بعض التيارات التي كانت حتى الأمس القريب تتنفس الإلحاد وتتغذى على المروق وتكتسب صورة حداثتها من حجم خصومتها وتنكرها لهويتها إلى الزوايا قصد أخذ الورد والتبرك بشيوخ بعض الطرق الصوفية وعلى رأسها طبعا البودشيشية والتيجانية، في إشارة تغني عن ألف عبارة كما يقال، مع ما تنضح به أدبيات وطقوس كلا الطريقتين من سفه عقلي، وخرف فكري، وعته سلوكي، وضلالات تخاصم العقل في جفوة قبل النقل، بل تجعل حضور الدين في ضمير الأجيال الصاعدة ووجدان الأمة منهارا مترهلا، فتخاصمه الطباع وتأنفه النفوس -ومن حقها ذلك- وهي التي تربت في مناخ الذرة والثورة التكنولوجية الباهرة، لتساق في ضوء هذا الخفوت وذلك الانبهار إلى محافل العلمانية لتستمرئ الإلحاد وتنسلخ عن كل فضيلة، وتتحرر من القيد الثقيل ومكرهة الحلال والحرام.
وهذا عينه ما خلص له تقرير لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية المتخصصة في الشؤون الاستخبارية والعسكرية وهي تشخص مآلات الوضع في مصر بعد الانقلاب العسكري الذي ساهم فيه العلمانيون وصفقوا له طويلا حيث جاء فيه: "ولأول مرة منذ خمسين عاما بدأت المصريات في نزع الحجاب، ولا يعد ذلك هو العمل العلماني الوحيد الذي يكسب زخما بين المصريين، فعدد كبير من الشباب بدأ يناقش سرا بعض المحرمات مثل الإلحاد أو الهوية الجنسية، وأصبح كل مصري يعرف امرأة واحدة على الأقل في محيط عائلته أو دائرة أصدقائه، وجيل الشباب الثوري أصبح يصلي أقل من ذي قبل".
وربما احتجنا في نفس السياق التذكير بمساهمة العلمانية كفكر والعلمانيين كمفكرين في الترويج والتسويق لمشاريع إعادة الهيكلة الدينية والانقلاب على النصوص التي تعادي الحياة وتخاصم الآخر وتبث التطرف وتنشر الإرهاب كما هو الزعم القائم، وكذا الدفع بظاهرة الدعاة الجدد إلى الواجهة والنفخ فيهم إعلاميا وفتح كل المنابر أمام أقدامهم وأفمامهم وأقلامهم وأفهامهم.
وقد ربح البيع كما قيل وقد رأينا أو كان من أمر هؤلاء «المجددينات» كما يحب أن يسميهم الأديب الأريب كامل الكيلاني معلقا على هذه التسمية بالوسم اللغوي «جمع مخنث سالم»، كان من أمرهم أن وسم بعضهم السيسي بالنبوة، وأباح البعض الآخر قتل الركع السجود، وصفق آخرون منهم بكل حرارة لخطابات الكفر والمروق والترويج للإلحاد والتسويغ للردة، كما دخل الكثير من صنفهم إلى أوطانهم على ظهر الدبابة الأمريكية أو تحت غطاء القصف الجوي السوري.
ويبقى أن نشير إلى نقطة مهمة في ذيل هذا المحبور محاولين تنحية ذلك الشعور الغريب الأميل إلى التفجع منه إلى الإنكار كلما خرج علينا أحدهم ضاربا الثوابت وناسفا المعلوم من الدين بالضرورة، وهي النقطة التي تحيلنا على ماهية الصنم المعبود ونعني به وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالضبط ما جاء في مادته الأولى والتي ورد فيها بالحرف: "يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء".
ويهمنا من هذا السرد التنبيه على أن فعل «وُهبوا» جاء في السياق مبنيا للمجهول لمناسبة مقيدا بصراع في دائرة التركيبة المتنوعة المشارب للجنة التحضيرية بين فصيلين.
فصيل كان يرى أن من وهب هو الطبيعة، وفصيل كان يرى أن من وهب هو الله، وبقي الأمر معلقا وموقعا بالبناء للمجهول ولست هنا مضطرا إلى التصريح بقدر ما أنا في حاجة إلى التلميح بعبارة أن من اعوج أصله اعوج ظله، ومن استساغ أن تكون الطبيعة خالقة واهبة فانتظر منه أكثر من خرجات الاستدراك على نصوص الإرث، وإنما هي مسألة وقت ويستوعب الاستدراك كل أركان الدين وأحكامه وشريعته وشعائره نسفا ونسخا وإبطالا وتنحية.. وحبل المعطوفات طويل الذيل عريض المنكبين.
نسأل الله أن لا يؤاخذنا بما يفعله السفهاء منا..
آمين يا رب العالمين.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف:
- المصدر: