وصية نبوية للتربية الذاتية
إن الناس في هذه الوصية ينقسمون قسمين من حيث أهدافهم ومراد حياتهم ومعاشهم وسعيهم، قسم يسير في تلك الحياة باحثًا عن الفلاح والصلاح عبر سيره، فيستعين من الدنيا بما يجعله يفوز في الآخرة، ويبيع نفسه في تجارة رابحة لربه، فيشتري بها الجنة، فيعتقها، ومنهم من دعكته الدنيا ودارت به دورتها فأغفلته وألهاه زخرفها، وجذبته شهواتها، فاشترى الدنيا وباع الآخرة.
- التصنيفات: تربية النفس -
أصدق الوصايا هي وصايا المحبين، وأخلصها هي وصايا الصالحين، وأعلاها درجة هي وصايا العلماء الراسخين، ووصيتنا التي بين يدينا هي وصية من اجتمع فيه كل خصال الفضل، وهو الشفيق الرفيق بنا، صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128].
وعادة ما يتحير المؤمن، وتكثر تساؤلاته حول طرائق تزكيته لنفسه، وأساليب ذلك، وكيف يصل إلى الثبات على الصلاح والهدى، وكيف يزيد إيمانه ويظل في زيادة مطردة، وكيف يسيطر على نفسه أمام المعاصي، وغيرها من التساؤلات، وهذه الوصية التي جمع نبينا صلى الله عليه وسلم فيها أطراف الخير هي الجواب الأمثل والبيان الأوضح لكل تلك التساؤلات.
فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم [223]).
إن الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم هنا يصف وصفة من الطاعات تنتظم حال المؤمن، ظاهره وباطنه، عقله وقلبه، قوله وفعله، فيبين له سبيله، وينور له رؤيته. فالطهارة هي الباب الرئيس لولوج الطاعات، والحال اللائق بتنزل الرحمات، وهي الوصف الموصوف به عباد الله المخلصون الأنقياء، وهي شطران، طهارة الباطن وطهارة الظاهر.
فهم يعمدون إلى طهارة قلوبهم من الشبهات والشهوات، ويطهرونها من أمراضها التي علقت بها عبر حياتها بين الخلائق، ويطهرونها تجاه المؤمنين، فلا حقد ولاحسد ولا بغضاء، ولا خيانة ولا فحش ولا سوء طوية، ثم يطهرون أنفسهم من ظاهرها بالماء الطهور، فيعمدون إلى الماء قاصدين الطاعة والعبادة، مخلصين لربهم في عملهم، فيطيعونه فيما أمرهم به من وضوء وغسل، ومن طهارة الثوب والمكان.
فتتساقط عنهم الآثام كلما غسلوا عضوا من أعضائهم، كما تساقطت الآثام بالتوبة من قلوبهم، والإخلاص والإنابة، فعن عبد الله الصنابحي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « »أخرجه النسائي.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » أخرجه مسلم .
ثم المؤمن إذا طهر باطنه وظاهره، واستعد للعبادة والقربى، فإن أفضل تلك الطاعات هو ذكر الله سبحانه، كما قال سبحانه "ولذكر الله أكبر"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « » أخرجه الترمذي وأحمد .
وقد اختص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر كلمات، فالحمد لله تملأ الميزان يوم القيامة ؛ وذلك لما اشتملت عليه من الثناء على الله سبحانه وتعالى ثم إن الحمد والتسبيح يملآن ما بين السماء والأرض - بنص الحديث - ؛ والسرّ في ذلك : ما اجتمع فيهما من التنزيه للذات الإلهية ، والثناء عليها ، وما يقتضيه ذلك من الافتقار إلى الله ؛ وهذا ما جعل هاتين الكلمتين حبيبتين إلى الرحمن ، كما جاء في صحيح البخاري " ك « ». والتسبيح والحمد لا يداوم عليهما إلا مؤمن صالح، قد استشعر لذة الذكر والمناجاة، واستشعر قلبه حلاوة العبودية لله مولاه .
ثم إنه ليلتزم بالصلاة، التي هي عمود الإسلام، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي دليل الصلاح والفلاح، وقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنور ، وإذا كان الناس يستعينون على الظلمة بالنور ، كي تتضح لهم معالم الطريق ، ويهتدوا إلى وجهتهم ، فذلك شأن الصلاة أيضًا، فهي نور الهداية الذي يلتمسه العبد .
ونوافل الصلاة دليل على وقار محبة الله سبحانه في قلب المؤمن، وهي سبيل أيضًا لمحبة الله لعبده، كما في الحديث القدسي« » البخاري
وكثير من الناس يغفلون عن تطهير أموالهم التي تقوم عليها حياتهم، فيأكلون منها ويلبسون وينفقون على حياتهم، ويستعلون على بعضهم بها، وقد يغفلون عن الفقير والمسكين وذي الحاجة، فتحب نفسه الأموال، وتفضلها على ما دعي إليه ورغب فيه من الصدقة والنفقة، فلذلك كانت الصدقة برهانا على صدق العبد مع ربه في تلقي الأوامر، والنواهي، وبرهانا على نقاء قلبه تجاه المؤمنين .
ولما كان المؤمن عبر مسيرة حياته يلاقي المشاق والصعاب والبلايا والابتلاءات، ولم تكن حياته سهلة يسيرة مذللة، فكابد فيها الآلام ليحتفظ بدرجة إيمانه، كان يلزمه الخلق الأهم والوصف الأساس وهو وصف الصبر وخلقه وطبعه، فهو الذي يثبت المرء على سبيله مهما لاقى من مكابدة وتعب، فقد وصفه صلى الله عليه وسلم بكونه ضياء، وكأنه ينبثق من حرارة داخلية خرجت عبر المشقة وتحملها، فكانت نورا منبثقا من مصر حار، كالشمس في ضيائها، والحقيقة أن الصبر هو أمضى سلاح للمؤمنين، وأقوى الأسلحة في مواجهة الصعاب من المستضعفين
إذن هذا هو سبيل المؤمن في حياته، كما بين الحديث، طهارة وذكر لله، وصلاة وصدقة، وصبر عبر الطريق، ثم لزم المؤمن أن يكون له منهاج يصف له سبل الحياة الصحيحة، ويضع له الشرائع ويعلمه ما خفي عنه، فالمنهاج هو القرآن الكريم، وهو كلام الله سبحانه، يهدي به من يشاء إلى صراط مستقيم .
فمن استقام عليه نجا، ومن اهتدى به فاز، ومن استمسك به فلا خوف عليه في الدنيا وفي الآخرة، أما من هجره أو غفل عنه، فهو الخاسر الحقيقي، فهو إذن حجة لك أو عليك، يقول الله عزوجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [ الإسراء:82].
إن الناس في هذه الوصية ينقسمون قسمين من حيث أهدافهم ومراد حياتهم ومعاشهم وسعيهم، قسم يسير في تلك الحياة باحثًا عن الفلاح والصلاح عبر سيره، فيستعين من الدنيا بما يجعله يفوز في الآخرة، ويبيع نفسه في تجارة رابحة لربه، فيشتري بها الجنة، فيعتقها، ومنهم من دعكته الدنيا ودارت به دورتها فأغفلته وألهاه زخرفها، وجذبته شهواتها، فاشترى الدنيا وباع الآخرة. قال الله عزوجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:7-10].
------------
د. خالد رُوشه