هل الدولة الكردية مُمْكِنَة؟
لقد نجحت المخططات الدولية في إنهاك الأكراد، وإضعافهم، والسيطرة عليهم من خلال النخبة التي تم صنعها لتختطف القضية الكردية من واقعها الإسلامي إلى ما وصلنا إليه الآن من تحالف قيادات الكرد مع الحلف الأمريكي الإسرائيلي، لكن هذا التغير لم يحدث فجأة، وإنما عبر مراحل تاريخية تلاعب فيها الغرب بالقضية الكردية حتى أوصل القيادات المتأخرة إلى الوقوع في الفخ الصهيوني، والتحالف مع اليهود؛ لإقامة دولة على أنقاض عدة دول، أو للدوران في الدورة الجهنمية للتقسيم والتفتيت.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
يبقى الأكراد من أهم الشواهد على المعاناة التي واجهتها الأمة بعد انهيار الخلافة العثمانية التي احتضنت القوميات والأعراق في إطار الحكم الإسلامي الذي لا يفرّق بين مسلم وآخر. ولعل أخطر ما أصاب الأمة بسبب أعمال التفتيت والتقسيم، كان ما أصاب الأكراد؛ إذ اختار المستعمرون لهم أن يتم توزيع وجودهم بين "دول متعددة"، صنعها المستعمر لتضخيم وتعميق المرارات، وتصعيد الخلافات إلى حد الصراع والاقتتال في داخل الدول، ولتحويل دور الأكراد من بناء حالة الأمة إلى الصراع مع الدولة التفتيتية؛ لإدخالها في مزيد من التفتيت والتقسيم.
لم تظهر المشكلة الكردية والنزعة القومية والرغبة في الانفصال إلا بعد الاحتلال البريطاني في بدايات القرن العشرين، حين أحيا الإنجليز التعصب العرقي، كما فعلوا في كل الأراضي التي احتلوها، فلم تكن هناك مشكلة كردية حتى نهاية الحكم العثماني، ولم يشهد التاريخ أي نزاع بين الكرد والخلافة، بل كان الأكراد جزءًا أصيلاً من الدولة الإسلامية، وكانوا جنودها الذين يدافعون عنها وظهر منهم زعماء قادوا حركة الأمة وصراعاتها عبر تاريخها في مواجهة المستعمرين.
ومن أبلغ الأدلة على التماسك الإسلامي الذي ذابت فيه الأعراق والقوميات أن مؤسس الحركة الإسلامية التركية بعد هدم الخلافة: هو الشيخ سعيد النورسي وهو رجل دين كردي، التف حوله الأتراك للحفاظ على دينهم أمام حملة التغريب التي قام بها مصطفى كمال أتاتورك، وكانت رسائل النور التي يكتبها النورسي داخل السجن، ويتم تهريبها يتلقفها الأتراك ويقومون بإعادة نسخها يدويًّا، ونشرها في كل أنحاء تركيا.
كانت التحركات الكردية المسلحة تحت رايات إسلامية؛ حيث كان قادة الكرد يعتزون بالرابطة الإسلامية، حتى تلك التي ظهرت في بدايات القرن التاسع عشر لإصلاح الخلافة كانت بدوافع إسلامية وليست قومية، وظلت قيادة الأكراد وزعماء حركات الاستقلال والسعي لإقامة كردستان الكبرى إسلامية حتى الحرب العالمية الثانية منتصف القرن العشرين.
لكن الأمور أخذت منحى آخر، بعد أن نجح الاستعمار في صناعة نخبة جديدة علمانية متشبعة بالتعصب القومي، وبعد أن لعب دوره في إزاحة علماء الدين عن القيادة، حتى أصبحت الأحزاب العلمانية واليسارية والشيوعية هي من يقود حركة المطالبة بالانفصال في المناطق الكردية، واستمر دعم القوى الدولية -على اختلاف مشاربها- قيادة اليساريين والعلمانيين لعزل الدين كمكون رئيس في الشخصية الكردية وكمحرك للقضية الكردية التي تحولت إلى التقسيم بدلاً من إصلاح أحوال الأمة، والسعي إلى إعادة توحيدها، مثلها مثل بقية النخب التي تحكمت في حركة الدول الأخرى التي قسمت الأمة، وصارت تدافع عن مصالح بقائها لا مصالح الشعوب.
لقد نجحت المخططات الدولية في إنهاك الأكراد، وإضعافهم، والسيطرة عليهم من خلال النخبة التي تم صنعها لتختطف القضية الكردية من واقعها الإسلامي إلى ما وصلنا إليه الآن من تحالف قيادات الكرد مع الحلف الأمريكي الإسرائيلي، لكن هذا التغير لم يحدث فجأة، وإنما عبر مراحل تاريخية تلاعب فيها الغرب بالقضية الكردية حتى أوصل القيادات المتأخرة إلى الوقوع في الفخ الصهيوني، والتحالف مع اليهود؛ لإقامة دولة على أنقاض عدة دول، أو للدوران في الدورة الجهنمية للتقسيم والتفتيت.
1- دور الغرب في التصدي لحركات الانفصال الكردية:
عبر التاريخ كان الغرب دومًا هو الخصم للأكراد، وقد تعاملت الدول الغربية مع القضية الكردية كورقة تستخدمها لتحقيق مصالحها، وتضحي بهم في كل المحطات الحاسمة؛ إذ كان يجري "بيعهم" في كل الأوقات دون اكتراث، بل وقصفهم بالطائرات ودعم جيوش الدول التي تحاربهم وتحرق مدنهم وقراهم، وتقتل زعماءهم إن خرجوا عن المرسوم لهم.
جرّب الأكراد العمل مع البريطانيين والفرنسيين فذاقوا الويلات، فلجئوا إلى الروس فخانوهم، ووقفت أمريكا التي جاءت للمنطقة بعد الحرب العالمية الثانية ضدهم، وكررت معهم ما فعله البريطانيون حتى احتاجت إليهم في بداية التسعينيات من القرن الماضي في المعركة ضد صدام حسين، فأنشأت لهم حكمًا ذاتيًّا محدودًا في شمال العراق؛ بشرط التحالف الاستراتيجي مع "إسرائيل"، وتستغلهم الآن كقوات برية، وكأنهم مرتزقة تقوم بالحرب بالوكالة وكوقود لمعاركها الحالية بالمنطقة.
التجربة التاريخية تؤكد أن الدول الغربية تتلاعب بالأكراد وأحلامهم في إقامة كردستان الكبرى المستقلة، وثبت خلال قرنين من الثورات والانتفاضات الكردية أن هناك (فيتو) غربيًّا ضد إقامة دولة موحدة للأكراد على حساب التقسيم الذي تم إعلانه في سايكس بيكو 1916م عقب الحرب العالمية الأولى. وإن هدف إجهاض تلك الأحلام "التفكيكية" لا يخرج عن إطار الدفع بهم طوال الوقت للصدام مع الدول القائمة لإضعافها.
ورغم التغيرات التي صاحبت الحرب العالمية الثانية؛ فإن الموقف الغربي من الأكراد وقضيتهم لم يتغير، وكان الثابت في كل المراحل هو حفاظ الغرب على حدود الدول القُطرية التي تم تأسيسها في تركيا وإيران والعراق، واعتبارها حائط الصد أمام الطموحات الروسية في الوصول إلى المياه الدافئة في منطقة الخليج والسواحل التركية.
هناك بُعد عقدي لا يمكن إغفاله في محددات استراتيجيات الدول الغربية، وهو أن الأكراد مسلمون سُنة، وجدهم صلاح الدين الأيوبي الذي أذاق الصليبيين الهزائم، وطردهم من بيت المقدس، فهذا الشعب المتمسك بدينه وقياداته التاريخية الإسلامية جعل دول الغرب تقف في الخندق الكاره لهم، والرافض لحصولهم على الاستقلال مهما قدموا من تنازلات، ومهما عرضوا من استعداد للدخول في بيت الطاعة الغربي.
كراهية قادة الغرب للأكراد تفوق كراهيتهم لأيّ شعب آخر، فقد سمحت بريطانيا ودول أوربا بانفصال شعوب وأعراق كانت تابعة للدولة العثمانية، في الشام والخليج، وشمال إفريقيا، والبلقان وشرق أوربا، وتم الاعتراف بها والقبول بانضمامها إلى عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة بعد ذلك، ولكنهم لم يقبلوا بتشكيل الكرد لأية دولة.
عاش الأكراد كجزء من الخلافة منذ ضم العثمانيون الإمارات الكردية في 1516م، ووقع أمراء الكرد اتفاقيات مع الدولة العثمانية؛ تم بموجبها ضم كل كردستان الكبرى سلميًّا مقابل احتفاظ الأكراد بإماراتهم والحكومات ذات الحكم الذاتي، واستمر هذا الوضع إلى أن انقلبت سياسة السلطنة بفعل نصائح الجواسيس الغربيين الذين تغلغلوا كمستشارين وخبراء لرسم السياسة للحكومة العثمانية.
امتاز الحكم العثماني في كردستان في الفترة الممتدة بين القرن السادس عشر والثامن عشر بوجود الإمارات الكردية المستقلة، وكان الأمراء الكرد يحكمون هذه الإمارات حكما مستقلا في أمورهم الداخلية وبطريقة وراثية. ولكن السلطان محمود الثاني، وتحت تأثير مستشاريه الغربيين وضمن خطة الإصلاحات قام بالقضاء على تلك الإمارات، ووضع إدارة عثمانية (معظم عناصرها من الموظفين الترك) محلها، كما ساهمت التنظيمات (الإصلاحات على الطراز الغربي) التي طبقت في الدولة العثمانية في الفترة 1839 - 1876 في تثبيت مركزية الدولة والقضاء على سلطة القيادة الكردية التقليدية. (1)
بدأ الغضب الكردي يظهر مع الفساد الذي بدأ يضرب الدولة العثمانية خاصة عندما استجاب السلطان محمود الثاني عام 1826م لنصائح المستشارين الغربيين الذين استعان بهم لإصلاح السلطنة، وأقنعوه باستبدال نظام الولايات القائم على اللامركزية إلى دولة قومية على الطراز الأوربي، وتقوية الحكم المركزي بتغيير الجيش العسكري التقليدي للخلافة، ودفعوه للإطاحة بالنظام المستقر، والحكم المباشر عبر الباشاوات والموظفين الأتراك؛ فقضى على 18 إمارة مستقرة موالية للسلطان كانت تحمي الحدود، وتوفر الدعم الاقتصادي، والعسكري وقت الحروب، فانهارت القوة العسكرية أمام بريطانيا وفرنسا من ناحية الغرب، وفتح الطريق أمام روسيا القيصرية من ناحية الشرق، فاجتاحوا الخلافة، واحتلوا الأراضي الخاضعة للحكم العثماني.
بدأ الأكراد ينتفضون ضد الإصلاحات الغربية وضد ما يرونه من فساد وضعف السلطان أمام الأوروبيين والروس، فكانت انتفاضة الأمير بدرخان (1842- 1847م) في شرق الأناضول، وانضمت لها القبائل الكردية في تركيا وإيران وشمال العراق، وقام بالإصلاحات في مناطق نفوذه، فطرد الموظفين الفاسدين، وطبّق الشريعة، وأعاد المظاهر الإسلامية، مع الارتباط بالخلافة.
انزعج الانجليز من التمرد الكردي، ولعبوا دورهم لمنع استقرار حكم بدرخان في كردستان؛ بتحريض المسيحيين الآشوريين من خلال المنصّرين الإنجليز والأمريكان البروتستانت؛ لإثارة الفتن الطائفية لإحراج الحكومة العثمانية، والضغط عليها لإجبارها على إخماد ثورة بدرخان، والقضاء على حكومته الكردية، وهدد الأوروبيون بتدخل الجيوش الغربية لوقف المذابح المزعومة ضد المسيحيين إذا لم تتحرك الحكومة العثمانية، فخضع الحاكم العثماني للتهديد، وسيّرت السلطنة جيشًا أسقط حكم بدرخان؛ خشية التدخل العسكري الأوربي المباشر!
لم يستسلم الأكراد للهيمنة الغربية وجاءت حركة الشيخ عبيد الله النهري (1880 – 1883م) التي تعد من أهم حركات الجهاد الكردية ضد الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح العالم الإسلامي، فالشيخ كان من العلماء الكبار، لبَّى الدعوة للجهاد ضد الروس، وشارك في الحرب ضد روسيا (1877 -1878م)، وعاد غاضبًا لما شاهده أثناء الحرب من ابتعاد القوات العثمانية عن القيم الإسلامية، ورأى أن الحكم العثماني انحرف وخضع لنفوذ السفارات الأجنبية التي تهيمن على مركز القرار في اسطنبول.
استفز الشيخ عبيد الله التنازلات التي قدمها السلطان العثماني للنصارى في كردستان؛ خضوعًا لضغط الإنجليز على حساب الأكراد، فبدأ حركته من كردستان إيران، ولكن الإنجليز والروس دعموا الجيش الإيراني للقضاء على الثورة، وضغطوا على الحكومة العثمانية لاعتقال الشيخ الذي لجأ إلى الأناضول، وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية، ولكنه تمكن من الهرب والعودة، فتم القبض عليه مجددًا ونفيه إلى مكة للعيش تحت الإقامة الجبرية، وهذا التعامل يُعد تكريمًا وليس عقوبة، ويوضح كيف أن الخليفة العثماني كان رفيقًا بالشيخ رغم تمرده بسبب ما تمر به السلطة من هيمنة خارجية.
ساندت بريطانيا إيران، وتقاطعت مصالحها هنا مع الدولة العثمانية؛ بهدف القضاء على حركة الشيخ عبيد الله؛ حيث كان محور الاستراتيجية البريطانية طوال القرن التاسع عشر هو الحفاظ على الدولة العثمانية ضعيفة تحت الهيمنة ومنع تفككها، لمنع روسيا من استغلال هذا التفكك للسيطرة على مضايق الخليج العربي والبوسفور والدردنيل.
مع وصول السلطان عبد الحميد (1876 – 1909م) الذي كان من دعاة بالإصلاح، أحيا فكرة الخلافة الإسلامية، وأعاد الاعتبار لقادة الأكراد، وأعيدت لهم صلاحياتهم التي نُزعت منهم في الإصلاحات الغربية، وأفسح المجال لقادة الأكراد لحكم أنفسهم، وخلصهم من الموظفين الأتراك الفاسدين وجباة الضرائب، واندفع الأكراد بكل حماس للانضمام للألوية الحميدية التي شكلها السلطان للدفاع عن الخلافة، والتصدي للتغول الروسي الذي كان يخطط لإقامة دولة أرمنية على أراضي كردستان في شرق تركيا، لكن السلطان عبد الحميد لم يستطع تنفيذ مشروعه ظالإصلاحي؛ إذ كان الاختراق الاستعماري قد وصل إلى العظم، وحيث كان الماسون اخترقوا كل القلاع، فحدث انقلاب الاتحاد والترقي في 1908م، وسيطر كمال أتاتورك على السلطة وخلع السلطان عبد الحميد في 1909م، ثم ألغى الخلافة عام 1924م.
غضب الأكراد لإسقاط الخلافة، وشهدت المنطقة الكردية انتفاضات مسلحة لإعادة السلطان عبد الحميد، قام بها قادة الألوية الحميدية، مثل ثورة الشيخ سعيد البرزنجي في 1909م، وثورة الملا سليم في خيزان، وثورة إبراهيم باشا، وكانت ثورة الشيخ سعيد بيران (1925م) من أكبر الانتفاضات الكردية الإسلامية في تركيا ضد الانقلاب الكمالي من أجل إعادة الخلافة، وقد قُوبلت بالقمع الشديد من الجيش التركي، وألقي القبض على الشيخ وأعدم هو وإخوانه في ديار بكر.
بدأ الدور البريطاني ضد الكرد يظهر بوضوح وليس من وراء ستار بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ سعى الإنجليز لاحتواء ثورات الأكراد بتقسيم كردستان بين تركيا والعراق، وإيران وسوريا، فعقد الإنجليز اتفاقيات بين الدول الثلاث الخاضعة للنفوذ البريطاني: تركيا والعراق وإيران؛ لحفظ أمن الحدود، ولحصار الأكراد ومنعهم من توحيد كردستان، وإذ ذاك كانت سوريا خاضعة للاستعمار الفرنسي.
ساند الإنجليز القوميين الأتراك، ودعموا أتاتورك لدوره في إلغاء الخلافة ومحاربة الشريعة والدين، ووقفوا ضد الكرد، وقاموا بدعم الحكومات العراقية التابعة لهم لإخماد ثورات الكرد بكل قسوة، ونفس السلوك فعلوه في إيران لمنع الأكراد الإيرانيين من الثورة، والتواصل مع أكراد تركيا والعراق.
قدم الإنجليز السلاح والدعم للحكومات التابعة لهم في الدول الثلاث، وساندوا جهودهم في التصدي ورفض أي حركة لاستقلال الكرد، واضطرت للتدخل بنفسها، واستخدام سلاح الجو الملكي لقصف الأكراد في العراق، وعلى الحدود الإيرانية العراقية أكثر من مرة، ورغم حرص قادة الثورات على تقديم التطمينات للإنجليز، وعروضهم بالتعاون مع بريطانيا، والتبعية لها؛ إلا أن العداء كان هو سيد الموقف، ورفضت بريطانيا كل تنازلاتهم، ولخص مسعود البارزاني موقف الإنجليز بقوله: إن "الاستعمار البريطاني لم يكن صادقًا أبدًا في وعوده بمنح كردستان الاستقلال". (2)
وقف البريطانيون ضد كل محاولات الانفصال عن العراق، وجاءوا بحكومة الشيخ محمود البرزنجي (1918-1920م) في السليمانية مضطرين لامتصاص ثورة الأكراد واحتوائهم، ولإكمال السيطرة على الموصل، وفصلها عن تركيا، لكنهم سرعان ما قرروا الخلاص منه عندما بدأ يتوسع ويزيد من رقعة سلطته لتحقيق ما يوصف بحلم كردستان الكبرى، فثار الشيخ محمود واعتقل جميع الموظفين البريطانيين في 20/5/1919م، لكنه وقع أسيرًا بيد القوات البريطانية بعد إصابته بجروح، وجرى نفيه إلى الهند.
وردًّا على تصلب الموقف التركي حيال قضية الموصل والضغط الجماهيري المتصاعد اضطر الاستعمار البريطاني إلى إعادة الشيخ محمود إلى السليمانية، والإعلان عن تتويجه ملكًا لكردستان في 14/9/1922م، واستخدموه مجددًا عندما احتاجوا إليه في الحكم المباشر، ولكن في الإطار المرسوم له، وتم ضربه عندما تمرد. (3)
ولامتصاص غضب الكرد، وإخماد ثورتهم؛ وعدت بريطانيا بإقامة دولة لهم في اتفاقية سيفر 1920م، وزعم المستعمرون أنهم جاءوا ليحرروا القوميات المضطهدة من الدولة العثمانية، ووعدوا بإقامة كيان قومي كردي، وحل المشكلة على مراحل، وألزموا الحكومة التركية بالاعتراف بذلك، وحصل الكرد -وللمرة الأولى في التاريخ- على الاعتراف العالمي بالدولة. (4)
ولكن بريطانيا تجاهلت هذا النص، وأخلفت الوعد، وتم التجاهل في اتفاقية لوزان 1923م التي لم تشرِ إلى حقوق الكرد لا من قريب ولا من بعيد، ولم يتضمن نص معاهدة الصلح في لوزان الموقَّعة في 24 تموز عام 1923م بين الحلفاء وتركيا أيّ ذكر للاستقلال الكردي أو الحكم الذاتي ولا للكرد وكردستان. (5)
تآمر البريطانيون ضد حركة برزان بقيادة الشيخ عبد السلام البرزاني، ثم ولده الشيخ أحمد البرزاني (1927 -1932م)، ووقفوا بكل قوة ضد حركة مصطفى البرزاني (1943- 1945م)، واستخدموا القوة الجوية البريطانية للقضاء على الثورة؛ بسبب قوة حركة البرزانيين، وصمودهم أمام الجيش العراقي الذي تكبد خسائر جسيمة أكثر من مرة.
ويمكن القول بأن ثمة عنوانًا واحدًا يجمع الثورات الكردية، وهو الانتصار للإسلام، فهناك الكثير من أوجه الشبه بين حركة إبراهيم باشا وحركة الملا سليم (1913م)، وحركة الشيخ عبد السلام البارزاني (1908-1914م)، وحركة الشيخ سعيد بيران (1925م) وحركة الملا خليل المنكوري، بكونهم جميعًا حركات جمعت بين الدفاع عن الشريعة ومظلومية الكرد، وكما كانت جميعها حركات قادها علماء الإسلام، وشيوخ الطرق الصوفية وبطريقة ارتجالية، وارتكزت جميعها على شخص القائد، فبانتهاء القائد انتهت تلك الحركات. (6)
ما فعلته بريطانيا مع أكراد إيران يزيد قليلاً؛ إذ تم التآمر عليهم مبكرًا، ووأد محاولتهم للانفصال منذ البداية عبر تأييد الإمبراطورية القاجارية في نهاية القرن التاسع عشر في قمع الأكراد، ثم دعمت بريطانيا الدولة البهلوية في بداية القرن العشرين على أنقاض الإمبراطورية القاجارية، وساندتها في حملات القمع ضد الأكراد في شمال غرب إيران، وفرض الإنجليز الحماية الدولية على ما ارتكبه الإيرانيون من مذابح في مناطق مهاباد وكرمنشاه، والمنطقة الغربية.
ومن اللافت للانتباه تجاهل كل الاتفاقيات المتعلقة بالمشكلة الكردية مناطق الكرد المقيمين داخل حدود إيران التي تفوق كردستان العراق في المساحة وفي عدد السكان.
ومع العداء البريطاني سعى الأكراد في إيران لنيل الدعم الروسي أملاً في أن يلقوا من روسيا ما لم يجدوه من بريطانيا، فأسس القائد الكردي إسماعيل آغا سمكو دولة في كردستان إيران (1920- 1926م)، لكن الفرس قضوا عليها بالتعاون مع الإنجليز؛ إذ نسّق الإنجليز مع رضا شاه أمر تصفية سمكو بدنيا. (7)
في الحرب العالمية الثانية دخل الروس شمال إيران، واحتلوا أراضي الأكراد في الشمال الغربي، ووافقوا على قيام جمهورية كردية ذات حكم ذاتي بقيادة القاضي محمد، أُعلنت في 21 يناير 1946م في مهاباد، ومنع الإنجليز الذين كانوا يحتلون جنوب إيران توسعها إلى سنندج وكرمنشاه، وسعى قاضي محمد للحصول على اعتراف دولي، ولكنه فشل، بل ولم تدم هذه الدولة الكردية أكثر من عام واحد؛ حيث انسحب الروس وتخلوا عن الأكراد فدخل الجيش الإيراني بتأييد الإنجليز أراضي الكرد في 17 ديسمبر 1946م، وأسقط الحكومة، وتم إعدام الرئيس وأفراد حكومته، وعلقوهم على المشانق في وسط مهاباد.
ورثت أمريكا بريطانيا، وسارت على نفس نهجها مع الكرد، وعندما تصاعدت الثورة الكردية في السبعينيات، وتوجهت الحكومة العراقية للتعاون مع الروس، تحرك الأمريكيون وقدموا الدعم بالمشاركة مع إيران للمقاتلين الأكراد، ولم تكن هذه المساعدات حبًّا في الكرد، وإنما للضغط على النظام العراقي وترويضه، فحقق الكرد انتصارات مهمة، وأحرزوا تقدمًا كبيرًا في مناطقهم، كاد أن يُوقع الهزيمة بالنظام في بغداد، عندها تدخل الأمريكيون واستغلوا الموقف وعقدوا اتفاق الجزائر عام 1975م بين العراق وإيران لوقف الدعم الإيراني للكرد، ومنعهم من فرض انتصارهم؛ حيث كان الدعم العسكري يأتي من الحدود الإيرانية التي تم إغلاقها بعد هذه الاتفاقية.
برصد سلوك الدول الغربية نجد أنه كلما سارت حكومات تركيا والعراق وإيران في طريق مصالح الدول الغربية القوية دافعت هذه الدول عن مشروعات حكومات هذه الدول الثلاث في المناطق الكردية. (8)
هذا الموقف الغربي ضد الأكراد ظل ثابتًا لم يتغير حتى حرب الخليج في 1991م حين حدث تغير جزئي متعلق بأكراد العراق، عندما قفز قادة الأكراد في أربيل والسليمانية إلى ما لم يكن متخيلاً، وهو التحالف مع إسرائيل والقبول بأن يتوافقوا مع عدو الأمة الإسلامية، والقبول بأن ينفصلوا عن محيطهم وأمتهم؛ كي يحصلوا على حكم ذاتي وحالة من الاستقلال للكيان الكردي.
الموقف الأمريكي تغير جزئيًّا وبشكل انتقائي في حرب الخليج 1991م؛ بسبب تغير القيادة الكردية، وتقبلها للتوظيف في خدمة الأطماع اليهودية، وبعد التحالف الاستراتيجي بين الكرد والإسرائيليين، فساندت أمريكا أكراد العراق، وفرضت منطقة الحظر الجوي بقرار من الأمم المتحدة لحمايتهم من طيران الجيش العراقي، ووفرت لهم الدعم المادي من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء، وأدار الإسرائيليون محطات وقواعد عسكرية واستخبارية ومراكز تدريب البشمرجة في كردستان حتى أطلق على كردستان "إسرائيل الثانية".
2- قيادات الكرد ودورهم في انحراف القضية:
مع فشل الانتفاضات الكردية المتعاقبة وسط التآمر الدولي والصدام مع الأنظمة، وجدت الدولة الصهيونية أن الفرصة باتت مواتية لاستغلال الغضب في كردستان العراق لبناء تحالف كردي إسرائيلي، وتحويل الأكراد –عبر قيادتهم المتعصبة- إلى طابور تابع يخدم اليهود، فاستمالوا القيادات الكردية التي تم تأهيلها ودعمها بالمال والسلاح، وتوفير الحماية الأمريكية؛ لفرض واقع جديد على القضية الكردية، وتحويلها من تبنّي فكرة الانفصال إلى العمل في إطار الإستراتيجية الصهيونية ضد المحيط العربي والإسلامي.
مع انهيار النظام العربي، وحالة التفكك التي ضربت المنطقة، إثر الغزو الأمريكي للمنطقة في حرب الخليج استطاع الصهاينة تأسيس حكم ذاتي، وتحويل كردستان إلى مستوطنة كبيرة ومحطة تجسس إسرائيلية متقدمة، وفرض الجيش الأمريكي حمايته على هذا الكيان الجديد، وصنع منه نموذجًا أمام الأكراد الآخرين في تركيا وسوريا، مغريًا إياهم بتكرار التجربة، ولكن بعد تقديم المقابل الذي وضعه المخططون الاستراتيجيون للحلف الأمريكي الصهيوني.
كانت عين الأكراد الانفصاليين في تركيا وسوريا على كردستان العراق، ومراقبة تطورات ما يحدث في ظل حكم مسعود البرزاني وجلال الطالباني، ولم يحدث تطور كبير أو بشكل معلن في مواقف الكرد السوريين الأتراك حتى قيام التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمنع مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية من دخول أربيل ودهوك، وإعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 7 أغسطس 2014م أن كردستان خط أحمر، هنا بدأ التغير في مواقف الكرد في سوريا وتركيا.
أعلنت الأحزاب الكردية اليسارية عن قبولها للعمل كمرتزقة للأمريكيين، وكانت البداية في كوباني، وانضممت قوات الحماية الكردية إلى ما يسمى "بركان الفرات"، وهي القوات البرية التي دربتها الولايات المتحدة للاستعانة بها في حربها لطرد "الدولة الإسلامية" من سوريا، ونفس الموقف تكرر في تركيا، واستجاب حزب العمال الكردستاني، واستأنف نشاطه المسلح، والعمل في إطار الحملة الصهيونية الدولية ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، ولإسقاط حزب العدالة والتنمية، وإبعاده من الحكم.
تهدف القيادات الكردية في سوريا إلى تأسيس كيان مشابه لما أقيم في العراق، ولذا تطوعوا لحل مشكلة القوات الأرضية للتحالف الأمريكي، فمن المعلوم أن الجيش الأمريكي منذ الانسحاب من العراق في 2011م وبسبب ما تكبده من الخسائر الجسيمة في القوات والمعدات؛ لا يستطيع إرسال قوات برية مرة أخرى، وهذا قرار متفق عليه بين الحزبين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي، وإذا كانت أمريكا قد وجدت جيوشًا برية متحالفة في العراق؛ من الشيعة والبشمرجة الكردية، فإن الأراضي السورية ليس بها قوة عسكرية مؤهلة يُعتمد عليها غير الميليشيات الكردية، خاصة مع فشل المحاولات في تجنيد قوات ما يُوصف بأنه المعارضة "المعتدلة"!
كانت كوباني هي البداية؛ حيث انخرطت قوات الحماية الكردية، وقوات حماية المرأة الكردية في "بركان الفرات"، وكانت سببًا في الهجوم المضاد، واشتعلت المعركة في كوباني، والتي دمرت بسبب القصف والاشتباكات، ولكن المجموعات العسكرية الكردية – بمساعدات من مجموعات وقوات غير نظامية من دول مساندة لهم - استعادوها في النهاية، وكان لزامًا على الأمريكيين أن يوفوا بالمقابل، فكان الهجوم الكردي من الحسكة بأقصى الشمال الشرقي بغطاء جوي أمريكي على تل أبيض التي تقطنها أغلبية عربية وتركمانية، لربطها مع كوباني، وتوحيد أراضي الشمال السوري تحت السيطرة الكردية؛ للتمهيد لإنشاء دولة الإقليم، وهنا ثارت ثائرة تركيا، وتغير الموقف التركي.
وفي تركيا كان حزب العمال الكردستاني قد عاد ليشعل معركة عسكرية ضد قوات الشرطة والجيش عبر القيام بأعمال إرهابية، رغم الاتفاقات السابقة وإعلان وقف القتال، ولم يعلن الحزب عن الهدف من هذه العمليات، والتي تتناقض مع ما تحقق من فوز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وتخطيه نسبة الـ 10% -التي ينص عليها الدستور التركي كشرط للتمثيل في البرلمان- في الانتخابات الأخيرة، ودخول البرلمان لأول مرة، وهذا التصعيد أدى إلى الحملة العسكرية التي أعلنها الرئيس التركي على قواعد حزب العمال، واستعادة السيناريو القديم، لكن هذه المرة بين القيادات اليسارية للشعب الكردي مع الحكومة الإسلامية للشعب التركي.
لقد تخلى حزب العمال الكردستاني PKK عن الاتفاق الذي أبرم في 2013م بين حزب العدالة والتنمية وعبد الله أوجلان، واندفع مقاتلو الحزب يتناغمون مع التوجهات الخارجية ضد أردوغان، وتواكب مع هذه العمليات تنكر القيادات السياسية الكردية الفائزة في الانتخابات لأردوغان، وتحقيق نتائج طيبة أحدثت حالة من التفاؤل المؤقت الذي لم يستمر طويلاً؛ حيث أعلن قادة حزب الشعوب الديمقراطي رفضهم التحالف مع العدالة والتنمية كباقي الأحزاب القومية والعلمانية مما عطّل تشكيل الحكومة وأدى إلى إعادة الانتخابات.
3- الحركة الإسلامية الكردية ودورها المعاصر:
في الوقت الذي تظهر فيه على السطح التيارات العلمانية واليسارية - في زمن ضعفت فيه قوة مثل تلك الحركات في العالم أجمع- فإن الحركة الإسلامية الكردية موجودة بقوتها داخل المجتمعات حسب الأوضاع السياسية، وطبيعة التدخل الدولي في كل دولة، فالوضع في تركيا أفضل منه في العراق، والوضع في إيران يختلف عنه في سوريا.
رغم الصراع المسلح بين الحكومة وحزب العمال تعتبر تركيا هي الأفضل بالنسبة للحركة الإسلامية في الوسط الكردي، ويعود هذا لأسباب تاريخية؛ إذ إن الحركة منذ انقلاب أتاتورك انصهرت فيها الأعراق والقوميات على أساس فكرة الأمة الإسلامية، فالشيخ سعيد النورسي الكردي قاد الشعب التركي للحفاظ على الدين، ومدرسته هي التي وقفت ضد العلمنة والتغريب، وتلاميذ الشيخ النورسي هم الذين يحكمون، وهم قادة العمل الإسلامي بكل ألوانه السياسي والاجتماعي، والخدمي والدعوي في تركيا اليوم.
والحركة النورسية والأحزاب السياسية - منذ أربكان وحتى أردوغان - تعيش على الوحدة الإسلامية، ولا تعرف الانحياز للعرق أو القومية، وهذا سبب قوة الحركة، وفشل أتاتورك والحكومات العلمانية في القضاء عليها رغم كل سياسات القمع والطغيان التي اتُّخِذت ضدها، وهذه المؤاخاة -التي حافظت عليها الحركة الإسلامية التركية- هي التي أسست مجتمعات قوية تقف أمام التحركات الانفصالية وتحجمها.
وفي العراق الوضع يختلف بعض الشيء؛ حيث يتراجع تأثير الإسلاميين لطبيعة الوضع القبلي، ولقوة التدخل الخارجي، فالقبيلة في كردستان العراق هي القوة التي يلتفّ حولها الأكراد، ويلعب زعماء القبائل الدور القيادي منذ بداية حركات الانفصال حتى الآن، والزعامة بالوراثة، وكل منطقة تخضع لنفوذ قبيلة بعينها، وهذا الوضع فرض نفسه على طبيعة الحركة السياسية، سواء كانت ليبرالية أو يسارية، أو حتى إسلامية، فالمكون القبَلي هو الأساس.
استطاع الإسلاميون أن يؤسسوا لهم كيانات فرضت نفسها في ظل الوضع الذي تديره الولايات المتحدة، رغم سطوة زعامة مسعود البارزاني في أربيل الذي يرأس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وجلال طالباني في السليمانية الذي يرأس الاتحاد الوطني الكردستاني، وفرض نظام سياسي موالٍ للغرب وإسرائيل، وحمايته بالقوة المسلحة.
أسس الإسلاميون حزب الاتحاد الإسلامي في كردستان الذي يمثل الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية التي خرجت من رحم الحركة الإسلامية، أو حركة الوحدة الإسلامية التي كانت عبارة عن اندماج الحركة الإسلامية وحركة النهضة الإسلامية، وتأسست جماعة أنصار الإسلام بزعامة الملا كريكار، والتي تراجعت قوتها بعد أن دخلت في صراعات مسلحة مع سلطة الحكم الذاتي بعد تحريض أمريكي ضدها.
وقد أعلنت الأحزاب الإسلامية عن تخلّيها عن حمل السلاح، والمشاركة في العمل السياسي وفق المتاح، وتجنُّب الدخول في صراعات مع الحزبين الرئيسين المتحالفين مع الولايات المتحدة واللذين يقتسمان السلطة في كردستان العراق.
في سوريا كان نظام الأسد متحالفًا مع الأحزاب اليسارية في قمع التوجهات الإسلامية، واستمر هذا الوضع حتى قيام الثورة السورية ضد بشار، ففي البداية تحالفت القيادات الكردية اليسارية المتصدرة مع النظام ودافعت عنه، فانخرط الإسلاميون في فصائل الثورة حسب المناطق والجهات، وانضموا إلى أحرار الشام، والجيش الحر، والدولة الإسلامية، وجبهة النصرة، وجيش الفتح، ويتنقل الإسلاميون الكرد بين الفصائل بشكل جهوي دفاعًا عن مناطقهم، ويرتبطون فيما بينهم بدوافع إسلامية، ولا يتحركون بدوافع قومية أو عرقية، وهذا يُعد مكونًا إيجابيًّا في الحراك الكردي يعرقل دعوات التحريض العرقي المدعوم من الغرب.
الوضع في إيران يختلف بسبب البعد الطائفي للحكم، والعدوانية الشديدة التي يتعامل بها الإيرانيون مع المعارضين الكرد وباقي الأقليات داخل حدود الدولة الفارسية، وتجنح الحركة الإسلامية إلى السرية بسبب الإعدامات والمطاردات الدائمة، لكن بسبب الطائفية المسيطرة؛ فإن الشعب الكردي في غرب إيران أكثر تمسكًا بدينه وهويته في مواجهة حملات التشيع والتفريس الإيراني.
لكن ثمة ملاحظة، وهي أن الحكومة الإيرانية تعمل على حصار الحركة الإسلامية الكردية في إيران بحصارها وتطويقها من الجانب العراقي؛ عبر مد جسور التعاون مع حكومة كردستان، وبالتعاون والمساندة من قبل الولايات المتحدة.
4- التحديات التي تواجه تشكيل الدولة الكردية:
الحلم الكردي لتحقيق الانفصال وبناء دولة كردستان الكبرى، صعب التحقق لذات الأسباب التي عرقلت الثورات والانتفاضات السابقة، فالقضية ليست في أيدي الكرد، وإنما تديرها الدول الغربية بقيادة بريطانيا سابقًا والولايات المتحدة الأمريكية حاليًا، والغرب لم تتغير مواقفه تجاه حل القضية الكردية بشكل كامل.
نعم هناك خطط أمريكية لإعادة تقسيم المنطقة، وما يحدث في العراق وسوريا جزء من هذه الخطط، وهناك تصورات لاستغلال الأكراد في عمليات التقسيم كما يتم توظيف إيران والشيعة، لكن ليس وفق الطموحات والآمال الكردية، فالفكر الاستعماري الذي منع آباء وأجداد قادة الكرد الحاليين لن يغير سلوكه طواعية، فالغرب يقف ضد منح أكراد إيران أيّ حقوق، ويساند الحكم الفارسي بشكل مطلق، وفي سوريا لن يستطيعوا المجاهرة بانفصال الأكراد في الشمال حتى لا يغضبوا تركيا، ولن يعلنوا صراحة تأييد التمرد الكردي في الأناضول، وإن استخدموه للضغط وابتزاز الحكم التركي، أي أن المساحة التي يتحركون فيها هي كردستان العراق.
إن الظهور المؤقت لإقليم كردستان، وإنشاء حكم ذاتي في منطقة تعصف بها تغيرات عسكرية وسياسية كبرى، ليست نموذجًا مثاليًّا قابلاً للحياة لفترة طويلة، فالقيادات الكردية التابعة للخارج، والمتحالفة مع إسرائيل والغرب، لا تمثل الشعب الكردي المسلم المتمسك بدينه وهويته، ولن تنجح محاولات علمنته وتهويده، وهذا الشعب هو أول مَن سينقلب على الارتباط بالكيان الصهيوني مع تغير الظروف التي فرضت هذا التوجه تحت الإكراه، فليس لدولة كردستان العراق مستقبل إن استمرت على تحالفها مع اليهود، فهذا النهج خارج سياق المنطق والجغرافيا، ويتناقض مع ثوابت الشعب الكردي المسلم.
ومع هذا فإن أجواء تأسيس كردستان العراق يصعب تكرارها في سوريا وفي تركيا، فأمريكا أرادت أن تسرق خلسة إقليمًا كرديًّا في سوريا بزعم مواجهة "الدولة الإسلامية"، ولكنها اصطدمت بالموقف التركي، فتراجعت وقبلت – مرغمة - التدخل التركي في شمال سوريا؛ لفرض منطقة آمنة هدفها وأد فكرة سيطرة المقاتلين الأكراد على الشمال السوري، ولن يستطيع الأمريكيون مساندة حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي بشكل علني - على الأقل في هذه المرحلة-؛ فاحتياج الغرب وحلف الناتو لتركيا من ثوابت الاستراتيجية الغربية منذ الحرب العالمية الأولى.
الموقف الدولي الذي رفض الاعتراف بانفصال وتشكيل كردستان الكبرى عندما كانت الفرصة سانحة في الفترة من1880 – 1925م وقت ضعف وانهيار الإمبراطوريتين العثمانية والقاجارية التي كانت تحكم إيران؛ لن يحقق الحلم الكردي، ويهدم الدول التي أسسها الاستعمار، ولا يزال يحميها إلا بتنفيذ سايكس بيكو الجديدة، وهذه ليست بالشكل الذي يتمناه قادة الأكراد.
وإذا نجحت القيادات الكردية في تخفيف حالة العداء الغربي لمشروع الانفصال عبر التحالف مع الكيان الصهيوني، مستغلين حالة الانزعاج والاضطراب الغربي من وضعية المقاومة والنهوض السني العربي، فماذا يفعلون مع المحيط في الدول القطرية، واستعدائه ضد الدولة الكردية، وماذا يفعلون مع التطور العسكري الجديد ضد الوجود العسكري الغربي بالعراق وسوريا الأكثر شراسة تجاه الغرب والدوائر الموالية له؟
إن اندفاع قادة الأكراد لمساندة الحملة الغربية، والتحالف الأمريكي الصهيوني بالمنطقة؛ طمعًا في تحقيق حلم الانفصال، يجعلهم في مواجهة أوسع مما تعودوا عليه، ويُدخلهم في صراع متعدد الطبقات مع حكومات العراق بوضعها الطائفي وإيران وتركيا والقوى الصاعدة في العراق وسوريا، بل وبسبب العلاقات مع إسرائيل سيحاط قادة الكرد بحائط شعبي خارجي وداخلي أيضًا يقلل من فرص بقاء الصورة الحالية لكردستان العراق.
5- الدور المطلوب للحفاظ على ارتباط الأكراد بمحيطهم الإسلامي:
إن مشكلة الكرد ليست مع العرب ولا مع الأتراك، كما عمل المستعمرون على تكييفها وتوصيفها، وإنما مع الحكومات المستبدة التي جاء بها الاستعمار ليحكم بها بشكل مباشر وغير مباشر، فالحكومات التابعة للإنجليز والفرنسيين كانت تعمل لصالح الاستعمار لا لصالح بلادهم وشعوبهم، كما أن الاستعمار هو الذي كرّس القومية كبديل للرابطة الإسلامية؛ ليقطع صلة الشعوب المسلمة بالرابطة الإسلامية، ويمنعهم من التفكير في استعادة الخلافة مرة أخرى.
الانفصال الذي تم بين مكونات الأمة والأكراد –وغيرهم في المنطقة العربية- كان نتيجة جهد منظم ومدروس قام به الاستعمار، فمنذ هجوم الجيوش الأوروبية على العالم الإسلامي، والسيطرة على الخلافة؛ فقد المسلمون وحدتهم وخسروا استقلالهم، وهيمن المستعمرون على كل شيء، ونهبوا الثروات واستعبدوا البشر، وصنعوا للمسلمين رءوسًا متغربة لا تنتمي إلى فكرة ومصالح الأمة وعقيدتها؛ وإنما تعمل لصالح من جاء بها.
وإذا كانت الأمة قد قصّرت في السابق بسبب التبعية للغرب، ونشر التغريب وتخريب الوعي، وإشاعة الانقسام داخل مكونات الأمة، وتمزيق النسيج الإسلامي؛ فإن المخاطر التي تهدد وجود الأمة بأعراقها ومكوناتها تقتضي تصحيح الأخطاء السابقة، وإعادة التواصل مع الأكراد، بما يعيد الروح الإسلامية للعلاقة التي تشوشت منذ القرن الماضي، ولقطع الطريق على خصوم الأمة الذين يعملون على تحويل الأكراد إلى الخندق المعادي واستخدامهم ضد أمتهم.
على القوى الحية في الأمة فتح قنوات الاتصال مع القوى الإسلامية والكيانات الكردية غير التابعة للخارج لتقوية العلاقات الأخوية، وإعادة بناء جسور التواصل التي تقطعت بفعل الاستعمار والحكومات التي اتخذت القومية شعارًا ودمّرت نفسها، وبفعل قوى كردية خارجة عن هويتها وكارهة لعقيدة الأمة.
من المهم توطيد العلاقات مع العلماء والدعاة من الأكراد؛ لتعميق ارتباطهم بأمتهم، فالدور الذي يقوم به العلماء هو الأكثر تأثيرًا، والأسرع في تحقيق الوحدة وقطع الطريق على دعاوى الكراهية والتعصب القومي التي ترددها الأحزاب اليسارية المتصدرة للمشهد الكردي داخليًّا وخارجيًّا.
أيضًا من المهم فتح مساحة في الإعلام الإسلامي للشخصيات الكردية العاقلة والحكيمة؛ لنشر صورة حقيقية من الداخل الكردي، تساهم في تصور أفضل، وطرح رؤى واقعية تعبّر عن مصالح الأمة والإسلام.
وكما نطالب الأمة باستعادة الأمة الكردية؛ فعلى الأكراد هم أيضًا واجبات، فالأكراد شعب مسلم لن يقبل أن يكون ضد أمته، ويجب أن تكون الرغبة في الاستقلال مرتبطة بحركة الأمة مجتمعة للتخلص من الهيمنة الغربية، فالغرب هو خصم الكرد، وهو الذي يسحقهم ويستغلهم لتحقيق أهدافه، ودول الغرب هي التي وضعت الحدود لتفتيت الأمة، ولتفتيت الكرد أنفسهم؛ انتقامًا من تاريخهم الإسلامي المشرّف.
لن تُحل المشكلة الكردية المزمنة بتحقيق انفصال جزئي مرتبط بالعرق، ولن يتحقق انفصال إلا بتشكيل كيان يسقط الهيمنة الغربية التي هي أصل البلاء، ولن يتحقق الاستقلال بالاستناد إلى الحماية العسكرية الأجنبية، بل ولن تتوفر هذه الحماية بدون مقابل أكثر خسارة من الواقع المراد تغييره، فلا استقلال للكرد إلا باستقلال الأمة كلها، وهذا لن يتم بدون تعاون إسلامي واسع يتناسب في القوة مع حجم التحدي.
ليس أمام الكرد إلا الارتباط بأمتهم، والتمسك بعقيدتهم؛ ليفلتوا من موجات "تسونامي" التي تعصف بقوى الاستعمار الغربي والدوائر المتحالفة معه، وعليهم أن يستوعبوا دروس التاريخ وتلاعب الغرب بطموحاتهم، وأن يعوا التغيرات التي تجري على الأرض حاليًا، وعليهم أن يعوا أن مصلحتهم ومصلحة الأمة أن يشاركوا أبناء الأمة في التحرر من القبضة الغربية؛ لتستقل الأمة كلها من الهيمنة الغربية، ويستعيد المسلمون كافة كرامتهم، بما فيهم من قوميات وأعراق وأقليات.
--------------------------------
(1) عثمان علي، الحركة الكردية المعاصرة، مكتب التفسير للنشر، الطبعة الثالثة 2011م، ص26
(2) مسعود البارزاني، البارزاني والحركة التحررية الكردية، كاوا للثقافة الكردية، الطبعة الثانية، الجزء الأول، ص 18
(3) مسعود البارزاني، ص20
(4) م.س.لازاريف، الإمبريالية والمسألة الكردية، دار موكربي، عام 2012م، ص 242
(5) م.س.لازاريف، ص357
(6) عثمان علي، ص200
(7) عثمان علي، ص 388.
(8) حميد رضا جلائي، المشكلة الكردية، مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، ص 175
----------
بقلم: عامر عبد المنعم