فقهاء الشريعة في مواجهة الاستبداد - ولاية المتغلب شريعة الفرس والروم

منذ 2016-01-01

يدندن بعض دعاة ولاية المتغلب مستنكرا الديمقراطية لكونها منهج علماني (وهذا حق). ويبرر رفضه لها من تلك الجهة وأن سلوك طريقها تشبه بأمم الكفر، وانحراف عن الشرع (وهذا أيضا حق).

ويغفلون أن انتصارهم للتغلب دعم للاستبداد، ومناهضة للشريعة التي أتت لتحرر البشر، واتباع لسنة فارس والروم التي حذر منها صلى الله عليه وسلم.

ففي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»؛ قيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ قال: «فَمَنْ؟».
الأخذ بفتح الألف وسكون الخاء هو السيرة. يقال: أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته؛ وما أخذ أخذه أي ما فعل فعله.

قال الحافظ في الفتح: حيث قال فارس والروم كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية.

ويأتي على رأس ذلك الوثوب على السلطة بالقوة ثم توارثها فترة من الزمن، حتى يخرج عسكري آخر فيثب على السلطة، وهكذا تخضع الشعوب لهم دون مشورة منها أو رأي.

وهو ما حذر منه عمر أيضا في خطبته قائلا: "إنه لا خلافة إلا عن مشورة، و من دعي إلى إمارة من غير مشورة فلا يحل له أن يقبل".

قال الحافظ في الفتح : ما حذر منه عمر أنهم يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة.

وصورة التغلب هذه استنكرها الصحابة لما بدأت تتسرب إليهم؛ فحين خطب مروان، قائلا: "إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر". فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده. (رواه ابن أبي حاتم في التفسير، ورواه النسائي في الكبرى من طريق آخر وفيه انقطاع.وأصله في الصحيح).

واستنكرها أيضا ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم جميعا. وتابعهم أهل المدينة فلم يرضوا ببيعة يزيد بن معاوية، فكانت فعلته المنكرة تجاهها حين تولى الأمر عنوة.

روى ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "اختاروا منها بين ثلاثة، بين سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر، أو سنة عمر.... وقال: إنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر كان قيصر" تاريخ الإسلام للذهبي (4/ 148).

وهو ما طالب به ابن الزبير معاوية بمحضر ورضا كل من الحسين بن علي، وابن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم جميعا. قال: "يا أمير المؤمنين نخيرك من ثلاث خصال أيها ما أخذت فهو لك رغبة... إن شئت صنعت ما صنع رسول الله ﷺ ، وإن شئت صنعت ما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد رسول الله ﷺ ، وإن شئت صنعت ما صنع عمر فهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر...". ذكره خليفة بن خياط (ص 216). وإسناده ليس بالقوي.

وعن ابن عباس قال: "لتملكنكم قريش ولتركبن بكم سنة فارس والروم، فمن أخذ بما يعرف نجا ومن ترك - وأنتم تاركون - كان كقرن من القرون هلك". والمراد أخذ بما يعرف من السنة، ومن تركها هلك.
ورواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة (4/1255) بإسناد صحيح بلفظ: "وأيم الله لتحملنكم قريش على فارس والروم، فإن تكونوا قوما تكفرون وإلا تهلكوا وتكونوا كقرن من القرون هلك". أي إن لم تنكروا طريقة فارس والروم في الحكم، يهلك نظامكم المؤسس على الشورى.

فدعاة التغلب جعلوا الأمة اليوم مخيرة ما بين القبول بالاستبداد، سنة الفرس والروم، على أنها الطريقة الشرعية، أو النفور من شريعة تدعم الطغيان  لاستبداد آخر في صورة الديمقراطية العلمانية، ولا يعرضون على الأمة طريقتها في تحرير البشرية. وهذا شأن البدع تهدم السنن، وتطمس معالم الشريعة.

كما أن سنة التغلب تقتضى الخروج على السلطان من أجل إزاحته وقتله وقتل أنصاره، ثم انقضاض المتغلب على السلطنة وبقائه فيها هو وشيعته حتى يخرج متغلب آخر يقتله ويقتل أنصاره وهكذا، ولا سبيل للقضاء على تلك الدائرة إلا بالرجوع للشورى.

وتلك الصورة توقعها وأنكرها ابن عمر رضي الله؛ ففي تاريخ المدينة (4/1175) لابن شبة بإسناد صحيح؛ أن ابن عمر واقف المسور بن مخرمة رضي الله عنه بالسوق فقال المسور: والله لنقتلنه. فقال عبد الله: "إنما تريدون أن تجعلوها هرقلية، كلما غضبتم على ملك قتلتموه يريد عثمان رضي الله عنه".

وعن الحسن البصري قال: لما أرادوا قتله (يعني عثمان) قال: "لئن قتلتموني لا تصلون جميعا أبدا، وليكونن بأسكم بينكم ولتحدثن فيكم سنة فارس والروم". وقال الحسن: "فهم والله الآن يصلون جميعا وقلوبهم مختلفة، ويقاتلون عدوهم وقلوبهم مختلفة، ولقد صار بأسهم بينهم، فهم يقتل بعضهم بعضا، ولقد أحدثوا بينهم سنة فارس والروم". تاريخ المدينة (4/1190) لعمر بن شبة.

وهذا هو ما حذر منه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ : «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»؛ قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ: «لَا مَا صَلَّوْا» (رواه مسلم).

فنهى عن قتال الأمراء الشرعيين، لأن قتالهم سيؤدي لإقامة شريعة التغلب، سنة فارس والروم التي حذر منها. ولهذا قال عثمان، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم ما قالوه. وفي ذات الوقت أمر أمته بالإنكار، والكراهية، وعدم متابعة أمراء التغلب أو الدخول في طاعتهم، حتى لا يثبت ملكهم، فتتحقق للأمة النجاة، وهو ما جاء في قول ابن عباس: "فمن أخذ بما يعرف نجا". ولكن من رضي وتابع شارك في الإثم، وحمل ومن الوزر نصيب، وكان كمن قبله من القرون الهالكة. قال تعالي: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63].

  • 0
  • 0
  • 4,075
المقال السابق
المتغلب بلا مستند شرعي
المقال التالي
المتغلب خارجي فاسق

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً