توقير النبي صلى الله عليه وسلم
إن توقيره صلى الله عليه وسلم سبيل الفلاح {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، وقال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:8:9]
إن توقيره صلى الله عليه وسلم سبيل الفلاح: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، وقال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:8:9]، قال الإمام السّمعاني: وَقَوله: (وَتُعَزِّرُوهُ)، أَي: تُعَظِّمُوه. وَقَوله: (وَتُوَقِّرُوهُ)، أَي: تُفَخِّمُوه وتُبَجِّلُوه. اهـ .
ومِن توقيره صلى الله عليه وسلم أن لا يُرْفَع الصوت عنده حيًّا ولا ميّتًا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَوْقِيرَهُ وَاحْتِرَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ لا يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، أَيْ أَخْلَصَهَا لَهَا وَأَنَّ لَهُمْ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3]، كما قال الشنقيطي في تفسيره.
وقد أنْكَر عمر رضي الله عنه رَفْع الصوت في مسجده صلى الله عليه وسلم، فَرَوى البخاري مِن طريق السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشنقيطي: وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَحُرْمَتِهِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْيَوْمَ مِنِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ قُرْبَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ فِي صَخَبٍ وَلَغَطٍ، وَأَصْوَاتُهُمْ مُرْتَفِعَةٌ ارْتِفَاعًا مُزْعِجًا كُلُّهُ لا يَجُوزُ، وَلا يَلِيقُ، وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ شَدَّدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّكِيرَ عَلَى رَجُلَيْنِ رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لأَوْجَعَتْكُمَا ضَرْبًا. اهـ .
ذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم هُدى للعالَمين، وطاعته رَحْمة: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وهِدَاية: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، ومحبته قُرْبَة: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، واتِّبَاعه هِداية ونور: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:174]، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم. هذا قول أكثر المفسرين. قاله البغوي. وجاء بالنور الْمُبِين: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174]. لذا كان أحقّ بالتقدير والتوقير.
مِن توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله أن لا يُعارَض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقول أحد كائنًا مَن كان مِن الناس. كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أُرَاهم سَيِهْلِكُون أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: نَهَى أبو بكر وعمر. رواه الإمام أحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كان عبد الله بن عمر إذا بَيَّن لهم معنى كلام عُمر، يُنَازِعونه في ذلك، فيقول لهم: فَقَدِّرُوا أن عُمر نَهَى عن ذلك. أمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحَقّ أن تَتَّبِعُوه أم عُمر؟
قال الْحَلِيمي: فَمَعْلوم أن حُقوق رَسول الله صلى الله عليه أجَلّ وأعظم وأكْرَم وألْزَم لَنا وأوْجَب علينا مِن حُقوق السَّادات على مَمَالِيكهم، والآباء على أولادهم؛ لأن الله تعالى أنْقَذَنا به مِن النار في الآخرة، وعَصَم به لَنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجِلة، وهَدَانا به، كما إذا أطَعناه أدّانا إلى جنات النعيم، فأيَّةُ نِعمة تُوازِي هذه النِّعم؟ وأيَّة مِنّة تُدانِي هذه الْمِنَن؟ ثم إنه جَلّ ثناؤه ألْزَمَنا طاعته، وتَوَعّدنا على مَعصيته بالنار، ووَعَدنا باتِّبَاعِه الجنة، فأيّ رُتبة تُضاهي هذه الرّتبة، وأي درجة تُساوي في العمل هذه الدرجة؟
فَحَقّ علينا إذًا أن نُحِبّه ونُجِلّه ونُعَظِّمه ونَهِيبه أكثر مِن إجلال كُلّ عبدٍ سَيّده، وكُلّ وَلَدٍ وَالِده، وبِمِثل هذا نَطَق الكتاب، ووَرَدَت أوَامِر الله جل ثناؤه، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، فأخْبَر أن الفَلاح إنما يَكون لِمَن جَمَع إلى الإيمان به تَعْزِيره، ولا خلاف في أن التَّعْزير هاهنا: التعظيم، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:8:9] ، فأبَانَ أن حَقّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم في أُمّته أن يَكون مُعَزَّزًا مُوَقّرا مَهِيبا، ولا يُعامَل بالاسْتِرْسَال والْمُبَاسَطة، كما يُعامِل الأكفاء بعضهم بعضا. اهـ .
وقَالَ ابنُ القيِّمِ: "كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِحْسَانٍ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَضْرِبُ لَهُ الأَمْثَالَ، وَلا يُسَوِّغُونَ غَيْرَ الانْقِيَادِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ التَّوَقُّفُ فِي قَبُولِهِ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ عَمَلٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ يُوَافِقَ قَوْلَ فُلانٍ وَفُلانٍ، بَلْ كَانُوا عَامِلِينَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]". اهـ .
ومِن علامات صِدْق مَحَبة النبي صلى الله عليه وسلم تَوقِيره وتَصديقه ونُصرَة سُنّته والذَّبّ والدفاع عن شريعتِه.
قال القسطلاني: "ومِن علامات هذه الْمَحَبّة: نَصْر دِين الإسلام بالقول والفعل، والذَّبّ عن الشريعة المقدّسَة، والـتَّخَلُّق بأخْلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، في الْجُود والإيثار، والْحِلْم والصبر والتواضع". اهـ .
ولِكُلّ دعوى حقيقة:
فَصِدق مَحَبَّة النبي صلى الله عليه وسلم له بُرهان. قال القاضي عياض رحمه الله: "علامة مَحبته صلى الله عليه وسلم: اعلم أن مَن أحب شيئا آثَره وآثر مُوَافقته وإلاّ لم يكن صادقا في حُبّه، وكان مُدّعِيًا . فالصادق في حُبّ النبي صلى الله عليه وسلم مَن تَظهر علامة ذلك عليه:
1- الاقتداء به، واستعمال سُنّته واتّباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدّب بآدابه في عُسره ويُسره، ومَنْشَطه ومَكْرَهه.
2- وإيثار ما شَرعه وحض عليه على هَوى نفسه ومُوافقة شهوته.
3- ومِن علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم: كَثْرة ذِكْره له، فمن أحب شيئا أكثر مِن ذِكْره.
4 - ومنها: كثرة شوقه إلى لِقائه. فكُل حَبيب يُحب لِقاء حَبيبه.
5 - ومِن علاماته مع كثرة ذِكره: تعظيمه له وتوقيره عند ذِكره، وإظهار الخشوع والانكسار مع سماع اسمه.
6 - ومنها: مَحبته لِمَن أحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن هو بِسببه مِن آل بيته وصحابته مِن المهاجرين والأنصار. وعداوة مَن عاداهم، وبُغْض مَن أبغضهم وسَبّهم. فمن أحبّ شيئا أحبّ مَن يُحِبّ.
7 - ومنها: بُغض مَن أبغض الله ورسوله، ومعاداة مَن عاداه، ومُجانبة مَن خالف سنته، وابتدع في دينه، واستثقاله كل أمر يُخالف شريعته. ( بِاختصار مِن كتاب " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " )
وإن الرَّجُل مِن آحاد البشر ليطلب لنفسه التوقير في قلوب مُحِبِّيه فإن لم يَجِده رَحَل بعد أن تَرَحَّلَتْ مَحَبته مِن قلوبهم ! فلا يَطْلُبَنّ الله توقيره وتوقير نَبِيِّـه في قلبك فلا يُوجد، فيوشك أن تَتَرَحَّل مَحَبّته ومحبة نَبِيّه صلى الله عليه وسلم. وَقِّرُوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعظموه بتعظيم أمْرِه. والوقوف عند نَهْيه. والكفّ عن مَحارمه. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. قال أبو عبد الله الإمام أحمد بن حنبل: "أتدري ما الفتنة؟ الفِتنة الشِّرْك، لعله إذا رَدّ بعض قَوله أن يَقَع في قلبه شيء مِن الزَّيغ فَيَهْلِك. ( يعني: إذا ردّ بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم).
وما أكثر ما نُجِلّ الناس، ونُعَظِّم أقوال الناس، وذو الجلال وصاحِب المقام أحق بالإجلال، وإن مِن توقير الله إجلال مَن يستحق الإجلال، وتقديم مَن يستحق التقديم. ومِن توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله: أن لا يُقدَّم قول غيره على قوله، وأن تُتْرَك الأقوال لأجل قوله، وأن يُؤخَذ قوله مأخذ التسليم والانقياد. وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لا يَرضَون بتقديم قول غيره صلى الله عليه وسلم على قوله، مهما كانت مَنْزِلة القائل وقَدْره ومكانته.
- التصنيف:
- المصدر: