إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا

منذ 2016-01-04

- {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]...
بهذه الكلمات صاحت بينما تنزوى بعيدا، متسترة بعفافها متسربلة بحيائها. صاحت بها وهى التى كانت قد اعتزلت المخلوقين، وانتبذت حتى من أهلها مكانا شرقيا، محتجبة منعزلة، تخلو فيه بربها، وتأنس عنده بمليكها، فإذا بها تفاجأ بهذا الغريب يدخل عليها!

من أين جاء؟ وكيف وصل إليها؟ ماذا يفعل هاهنا؟ وماذا يريد منها؟ وهل يُطمع فى مثلها؟!! وهل يظن مخلوق أنها يمكن أن تُمس؛ وهى البتول الحصان الرزان التى لا تنفذ إليها ريبة، إنها الكاملة المصونة، نذر أمها الصالحة المتقبل بقبول حسن، إنها العذراء العفيفة، ما دنا منها إنسان وما مسها بشر، العابدة الزاهدة الراكعة الساجدة القانتة، التى كملت من بين النساء.

كريمة النسب، سليلة الأنبياء عليهم السلام، المنسوبة لهارون تيمنا بعبادته وتنسكه، هى تلك الناسكة التى أجرى الله لها الكرامات والخوارق منذ نعومة أظفارها، التى كلما دخل عليها كفيلها زكريا عليه السلام فى محراب صلاتها؛ وجد عندها فاكهة الشتاء صيفا، وفاكهة الصيف شتاء، رزقا من عند الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب، إنها مريم البتول؛ تلك الطاهرة المطهرة الطهور، كيف تحتمل وجود مخلوق لا تعرفه معها فى مكان واحد، وهى على ما نعرفه من العفة و الحياء؟!

صاحت به مذكرة إياه مخاطبة فيه مروءته: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]؛ لعله إن كان يريد شرا أن يقصر، إذا هو سمع كلمة التقوى، كما فعل صاحب الصخرة فقام عن المرأة التى راودها حين خاطبت تقوي نفسه بقولها: اتق الله ..
{إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم:19]
رسول ربها؟
غلاما زكيا؟
ماذا يقول؟
وعن أى غلام يتحدث؟!

غلام وهى العذراء الشريفة العفيفة، التى لم يمسها بشر قط؟! لزوال الدنيا أهون من تصور بعض ما يقول، الأمر صار يفوق الاحتمال.
{أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20].

هكذا صاحت مستنكرة، هى لم تك يوما على ريبة، لم تنطق حرف النون فى كلمة " أكن " للدلالة على الامتناع التام، والبعد الخالص، عن مطلق فعل البغايا، وما أكثرهن فى بنى إسرائيل، أما هى وأمها الناذرة وأهلوها وأجدادها فما أبعدهم عن السوء، فعن أى غلام يتحدث الناموس؟! وبأى عرف في الكون أو قانون، أومثل هذا يمكن أن يكون؟

{كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم:21].
الموضوع منتهٍ، والأمر مقضي، والمعجزة تمت، والله حكم وأمر، وهو الذى يقول للشئ كن فيكون، قد نفخت روح الغلام فيك يا مريم، وانتهى الأمر، وقضى الملك أن تكونى من يحمل آيته ومعجزته، سيولد ولدك بغير أب، ومثله عند الله كمثل آدم ولد بغير أب ولا أم؛ خلقه من تراب ثم قال له كن فكان، حقا إنه ابتلاء وأي ابتلاء، وحقا إنها محنة وأية محنة، لكنك أهل لها يا مريم.
ومن يكون إن لم تكونى؟
ومن يتحمل إن لم تتحملى أنت؟
ومن يصبر إن لم تصبرى أنت؟

أنت يا مريم من النماذج التى تجعل كل عنصرى مغرض - يدعي أن شقائق الرجال لا قيمة لهن ولا مقام، يبتلع لسانه وينزوى ببهتانه.
أنت من القلائل اللائي أثبتن أن المرأة إذا صلحت وصدقت فإنها قد تعلو على آلاف الرجال.
أنت من اللائى أكدن معنى أن الله يتقبل أمته كما يتقبل عبده.

ألم يصطفك الله؟ ألم يطهرك؛ ألم يفضلك على نساء العالمين ؟!
بلى قد كان، و قد فعل الرازق الحكيم الكريم المنان.

الآن حان الوقت لتتعبدى بالصبر، كما تعبدت فى محرابك من قبل بالقنوت والسجود والذكر والشكر، ستمر الأيام بسرعة، وستأتى اللحظات الحاسمة التى يظهر فيها معدنك النفيس، هاهو المخاض قد ألجأك إلى جذع النخلة، ها قد اقتربت اللحظة الحاسمة، وحدك فى ظلها، لا رفيق ولا عضد، ولا أم تسعى، ولا قابلة تعين على آلام المخاض،
لم يكن لدعوة أحد من سبيل، و كيف كنت ستخبريهم؟

إن الأمر معقد، وإن القوم بسطاء؛ لن يفهموا الآية، وحولهم من رعاع بنى إسرائيل من سيظل مجترئا على القدح في عرضك، رغم ما جاءهم من الحق وعرفوه، لقد كنت مضطرة إلي هذا المكان القصيّ، لا أحد يدرك حقيقة حالك إلا مولاك.

{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم:23]
ياله من حزن ذلك الذى يقطر من حروفك أيتها الصديقة؛ هم وغم لا تقدره إلا العفيفات، حزن وكرب لا تعرفه البغايا، ومن هُنَّ على أنفسهن، حتى رضين أن يكن سلعا تباع و تشترى، وتلتهم بالأبصار، أما أنت أيتها الحيية؛ فالموت والنسيان أحب إليك من أن يصمك عربيد لا يقدرك حق قدرك بريبة.

ما أشبه جملتك بجملة أحد آبائك الأقدمين، ما أشبه حياءك بحيائه وحرصك وبحرصه، لقد فضل يوسف السجن علي الغواية، وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] ، لعل من دمائه العفيفة ما يجرى فى عروقك أيتها الصديقة.

ما هذا الصوت؟!
واقع هو أم خيال؟
كيف، وقد انتبذت من أهلها مكانا قصيا!
لا يوجد مخلوق فى هذه المكان البعيد، معقول ؟!!
الصوت من تحتها!
{أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:24]

إنها المعجزة، إنها الآية؛ إنه الغلام الذي لم يكد يخرج بعد.. يتكلم؟!
سبحان الفاطر الخالق القادر الحكيم!

ها هو النبع يتفجر من أجلها، لتجد الماء الذى ترطب به حر الألم، وشدة الجهد الذى ألم بها.

{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي} [مريم:25]
وهل مجرد هزة واهنة بيد نفساء ضعيفة، لجذع نخلة راسخة؛ تسقط ثمارا يصعد الرجال الأشداء ليأتوا بها؟!
نعم، وما ذلك علي الله بعزيز، ولله في طلاقة قدرته آيات، إنها لعطية، وإنها لهبة من عند من يقول للشىء كن فيكون، وأنت جديرة بالكرامة أيتها الصديقة البتول.

{وَقَرِّي عَيْنًا}[مريم:26]
ما أرحمك يا الله،
ما أعظم ودك،
تريد أن تقر عين أمتك،
تريد أن تفرحها و تقر عينها، كما أقررت عين أم موسى، برد وليدها إليها فقلت، و أصدق القول قولك: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص:13].
ألهذه الدرجة تتودد لأحبابك وأوليائك؟
سبحانك؛ سبحانك ما أعظم شأنك!

{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]
وماذا تملكين أن تقولى؟
وهل سيصدقونك مهما كان ما تقولين؟
ليس أفضل من الصمت الآن والصيام عن الكلام، ودعى هذه المعجزة المتكاملة، والآية الباهرة التى ترينها أمام ناظريك، دعيها تفصح عن ذاتها بنفسها، وبعين إبهارها، وببليغ حديثها عن بديع صنع ربها.

{أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:27]
كما هو متوقع بدأ الصراخ من أسرة مكلومة، تخشى الفضيحة، وتدرك فداحة ما ترى،
أنت يا مريم؟؟!
أنت تفعلين هذا؟؟!
بدأت الاتهامات اللاذعة تنهمر على أسماعها؛ وبدأت النظرات القاصفة تخترق كيانها،
{يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27]

{يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28]
نادوها مذكرين إياها بهارون، أنت يا من كنت تشبهين هارون فى عبادته وزهده، أنت يا من كنت آخر من نتوقع أن يصدر هذا منها.

{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28].
غريب شأنكم؛ ما هذا؟!
أصدرتم عليها حكمكم، وأبرمتم فيها أمر قراركم، رغم ما تعلمونه من عفتها!
عموما لن ترد هي عليكم، لسوف تشير؛ فقط ستشير إليه، تاركة معجزتها تنجلي، مطفئة نار شككم، مجهزة علي شرر اتهامكم.

{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29].
هل حدث لك شىء يا مريم؟!
وهل الرضع يتكلمون؟
ماذا ألم بك وقد كنت العاقلة الأريبة؟
مالك؛ علينا لا تردين؟

  {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]
من؟؟ ماذا يحدث؟؟ رضيع يتكلم!!!
إن هذا لشىء عجاب! إنه يخطب فيهم خطبة ما أفصحها وما أجمعها؛ فأول تصديرها تقرير العبودية لله؛
إنى عبد الله. فما هو إلا عبد أنعم الله عليه، إنه يستفتح حياته بإقامة الحجة، على كل من سيزعم ألوهيته، أو يدعى بنوته لله، أويفتري فرية امتزاج لاهوته بناسوته، سبحان الله، جل في عل.
ما هو إلا عبد؛ بهذا بدأ كلامه فى الناس، وهكذا استفتح حجته، وبرأ أمه الطاهرة النقية،
{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا؛ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا؛ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا؛ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:30-33].
ذلك ببساطة هو عيسى بن مريم .. فلم الجدال ولم المراء؟

هو عبد عابد نبى، مبارك حيثما حل، مأمور بصلاة وزكاة كسائر العباد، بشر يولد ويموت، وابن بار، وحامل رسالة ومبلغ كتاب، هذا هو المسيح ببساطة ووضوح، ليس إلها، ولا ابنا لله، وما قال للناس يوما: اتخذونى وأمى إلاهين، ظهر الحق للناس، وظهرت براءة مريم، وأنجاها الله بهذه المعجزة، وهبها أعظم الهبة، وأكرمها بولد نبي رسول بار، وقد أذعن الناس جميعا وقتئذ لجلال الآية وعظمتها، لكن ستمر الأيام ويكذبونه، ويتآمرون عليه؛ ويسبونه وأمه بأبشع الألفاظ، وأشنع التهم، وسيحاولون قتله وصلبه، بل سيظنون إلى يومنا هذا أنهم فعلوا، وما قتلوه يقينا.

ولسوف يغلو فيه آخرون، ويألهونه وأمه وينسبونه ولدا، للذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا، وستبقى العقيدة الإسلامية النقية البسيطة، التى تقبلها القلوب وتتشربها العقول، إنها عقيدة التوحيد المصونة بحفظ ورعاية الواحد الجليل؛ عقيدة: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [مريم:34-36].

إن هذا لهو القصص الحق، وإن تلك لهى الحقيقة الناصعة، وإن ذلك لهو عطاء الله لأوليائه؛ عطاء الله الذى رأيناه جليا فى سورة مريم، التى استرسلت حول بعض من معانيها فى تلك الكلمات اليسيرة.

سورة مريم التى سميت باسم تلك الصديقة، تكريما لها، وإعلاء لقيمتها، ورفعا لشأن قصتها العظيمة، و التى توجت بعطاءات الله لها ولولدها؛ من معجزة باهرة، وبركة ونجاة، لم يكن يظن بالله جل وعلا أن يعاملها بغيرها،
وكذلك عطاءات الله لأوليائه وأنبيائه، والتى ازدحمت بذكرها بها السورة العظيمة، عطاءاته تعالي لزكريا ويحيى وإبراهيم وموسى وإدريس وباقى من انتظمتهم السورة، ممن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، عطاءات تملأ القلب بالرغبة والأمل في أن يصيب من تلك العطاءات والكرامات، {أوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم:58]
لماذا؟؟
ما الذى ميزهم وما سبب إكرامهم؟؟

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]
هذه درجتهم، وتيك ميزتهم، وتلك خصوصيتهم، فهل عرفت الدار أم أنكرتها؟ هيا قم فوف حقها، واطرق بيدي عزمك بابها، واشهد الجمع الغفير عامرا بروضة رغبها ورهبها، وابتغ القرب والزلفي حينها، قم فتقنت ، واسجد واركع وابتهج؛ أنت في باحة الراكعين الساجدين.

_____________________

من كتاب  العودة إلى الروح‬
محمد  علي يوسف

  • 2
  • 0
  • 16,879

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً