صيود الأوراد (12): مدارسة آية: مِـمَّ نستعيذ؟!
أبو محمد بن عبد الله
أول معصية عُصيَ الله تعالى بها هي الكِبر، وأنتج الكِبرُ الباطنُ فعلا ظاهرًا هو رفض أمر الله عدم السجود لآدم عليه السلام.. وبرَّرَها بالانتفاخ الذي أكْبَرَه في عين نفسه على آدم!!
- التصنيفات: القرآن وعلومه - الدعوة إلى الله -
قلتُ: تأمَّلوا؛ لقد تعوَّد الناسُ-العوام- أن التعَوُّذ يكون من الشيطان، فَمِمَّ التعوذ في هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر: 56]؟!
وقامت سوق المدارسة ..
- قالوا: من الكبر ... فلا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ... نعوذ بالله من الكبر .
- قلت: صدقتم في هذه التي قلتم، هي صحيحة في ذاتها، والكِبر مقصوده، ولكنها ليست كل المقصودة من الطرح... فمزيدا من التأمل، أو مزيدا من التوضيح !
- قالوا: وكذا الاستعاذة من مشابهة حال هؤلاء المجادلين بغير الحق وكذا الاستعاذة من شرورهم قال بعض أهل العلم :( وحذف متعلق {استعذ} لقصد تعميم الاستعاذة من كل ما يخاف منه.) والله أعلم .
- قلت: رائع.. بوركتم، وهل مِن مزيدِ توضيح.. يا أهل القرآن؟
- قالوا: الشيطان بوجه عام في الاصطلاح : هو أسوأ نوعه لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم - عن الكلب الأسود الذي يقطع الصلاة شيطان فربما كانت الإشارة في الآية إلى الاستعاذة من هؤلاء المجادلين بغير الحق فهم شياطين الأنس لذا أُمر المؤمنون بالاستعاذة منهم ومن شرورهم .
- قلت: نعم ؛ أصبتم ..
- ثم قلت: قرأتُ في تدبُّر هذه الآية في أكثر مِن ستين تفسيرًا، فلم يروِ غليلي أو يشفِ علتي غيرُ أربعة: ابن القيم في تفسيره القيم، وسيد قطب في ظلاله، وعبد الكريم الخطيب في تفسيره، وأبي السعود في إرشاده، ولعلي أنقل بعض كلامهم تِباعا.
- قالوا: وكذا هؤلاء هم مهبط وحي الشياطين يوحون إليهم ليجادلوا في آيات الله بغير الحق لمشاكلتهم بعضهم بعضا {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام 121].
- قلت: هذه أيضًا في الصميم، ومن المهــــــــــم جدًّا ألا يأخذ الشيطان هنا حكم البراءة مِن هذا التعوُّذ!
- وقالوا: السلطان هو العلم والسلطان هو معرفة الحدود وما يستعاذ منه هو أن تجادل في آيات الله ونجادل بغير علم بل كبرا ورياء ونجادل والجهل يركبنا من حيث لا ندري أو ندري ولكننا نكاااابر.
- قلت: كل ما تفضلتم به وارد، فالتعوذ فعلا أُطلِق من القيد ليعم كل ما يؤذي أو يُخاف مِن أذاه: شيطان الإنس والجن وأعمالهما ووسوستهما وخطواتهما ونزغاتهما ونفخهما الكِبْر في صدور الناس فيتشيطنون فيجحدون الحق ويرفضونه ويعادون أهله...
** قال ابن القيم في تفسيره القيم:
قال ابن القيم في تفسيره القيم: (وتأمل حكمة القرآن، كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ {السميع العليم} في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنَسُون ويُرَوْن بالأبصار بلفظ {السميع البصير} في سورة حم المؤمن[غافر]. فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:56]؛ لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر. وأما نزغ الشيطان فوساوس، وخطرات يلقيها في القلب، يتعلق بها العلم. فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر، ويدرك بالرؤية. والله أعلم.) انتهى .
- قالوا: حقا فائدة نفيسة اللهم بارك ... جزاكم الله خيرا على الفائدة .
- قلت: فـــ(كأن) ابن القيم في كلامه القيم هذا ينحو إلى أن التعوُّذ في هذه الآية من شياطين الإنس، لأنهم يُرَون بالأبصار، بقرينه قوله تعالى: {البصير} بدل {العليم}...
لكــــــــــــــــــــن: مدخل التعوذ من شيطان الجن هنا كامن تحت (الكِبر)، لأن الشيطان أبو الكبر، وأول معصية عُصيَ الله تعالى بها هي الكِبر، وأنتج الكِبرُ الباطنُ فعلا ظاهرًا هو رفض أمر الله عدم السجود لآدم عليه السلام.. وبرَّرَها بالانتفاخ الذي أكْبَرَه في عين نفسه على آدم!!
وهنا الكِبر تمثل فيما يفعله المشركون، تحت تأثير "نـــفـــخ" الشيطان الذي نفخ فيهم الكِبر، ولو كانوا استعاذوا منه لم يكن لينفخهم أو ينفخ فيهم، كما جاء التعوذ من كِبْر الشيطان في دعاء الاستفتاح في الصلاة: « »(الترمذي ، السنن، رقم:[242]، وغيره، وهو صحيح]، وقال عمرو بن مرة: نفخه: الكبر، ونفثه: الشعر، وهمزه: الموتة: يعني الجنون، أي الخنق.
قال القاسم بن سلام في غريب الحديث: وأما الكبر فإنما سمي نفخا لما يوسوس إليه الشيطان في نفسه فيعظمها عنده ويحقر الناس في عينه حتى يدخله لذلك الكبر والتجبر والزهو. أ.هـ
وقال العيني في شرح سنن أبي داوود: قوله: "ونفخه" بالخاء المعجمة: الكبر، ونفخه كناية عما يسوله للإنسان من الاستكبار والخيلاء فيتعاظم في نفسه كالذي نفخ فيه"أ.هـ.
- أقول: فالتعوذ من الكِبر يتضمن التعوذ من الشيطان الذي هو مُسببه ونافخه... ومِن ثمَّ راق لي جِدًّا قول أبي السعود: {فاستعذ بالله}، أي فالتجىءْ إليهِ من كيدِ مَنْ يحسدُكَ ويبغِي عليكَ وفيهِ رَمزٌ إلى أنَّه من هَمَزاتِ الشياطينِ.
{إن في صدورهم إلا كِبْر}، أي ما مجادلتهم لك في الحق، وردِّه بالباطل عن علم أو دليل، ولا عن قناعة بصحة ما يقولون، وإنما دفعهم إلى ذلك ما في قلوبهم من كَبْر، وهو التكابر والتعاظم والتعالي، الذي نفخهم به الشيطان.. فتعوَّذ بالله من الشيطان ومِن الكبْر ومن المتكبرين، ومما ينجر عن وسوستهم ووحيهم من زخرف القول وباطل العلم.. وقال موسى-عليه السلام-: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [سورة غافر: 27].
يقول عبد الكريم الخطيب: " والكبر الذي في صدور المشركين: هو هذا الغرور الذي زينه الشيطان لهم، وأنهم على الحق، وأن الغلبة آخر الأمر لهم وفى هذا يقول سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ}[الأنفال:48].. فهذا الكبر الذي يملأ صدورهم، ما هو إلا دخان من الباطل، وإنهم لن يبلغوا به ما يطمعهم فيه من آمال.. فالضمير في {بالغيه} يعود إلى الكبر، بمعنى أنهم لن يبلغوا ما ينطوى عليه هذا الكبر من أمانيّ وآمال..!"[ أ.هـ . التفسير القرآني للقرآن، لعبد الكريم الخطيب: 12/ 1251- 1252].
يقول سيد قطب : {إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ} .. ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود. ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه. ولو اطمَأَنَّ إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود.. لو أدرك هذا كله لاطْمَأَنَّ واستراح، ولَتَطَامن كذلك وتواضع، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله. وفي استسلام لله وإسلام. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .. والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه. فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح، الذي يتوقع منه الشر والأذى.. وفي الكبر هذا كله. وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين. فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه.. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.. الذي يسمع ويرى، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع. فهو يَكِل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه" أ.هـ [في ظلال القرآن: 5/ 3089].
1/ 1/ 2016