حلاوة الرضا
محمد علي يوسف
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
لعلك ترضى.. جملة عجيبة هي!
العجيب في هذه الجملة أن الله سبحانه وتعالى قالها لنبيه صلى الله عليه وسلم كنتيجة لأعمال وأقوال يفترض أن المرء يفعلها ليستجلب رضا الله وليس ليرضي نفسه؛ لكنه كريم سبحانه.
لعلك ترضى؛ أنت الذي سترضى؛ سيرضيك الله إن بذلت ما في وسعك لترضيه؛ إن صبرت وَسَبِّحْت بحمده في كل وقت وعلى كل حال؛ إن داومت على ذكره وشكره آناء الليل وأطراف النهار.
{فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ}[طه:130].
موطن العجب في هذه الجملة التي عنونت بها للمقال يكمن ببساطة في محل الاسترضاء؛ فليس العجيب أن يسعى الأدنى لإرضاء الأعلى أو أن يتبين دوما هل حقق هذا الرضا أم لا؟
الابن يطلب رضا والديه والمرؤوس يطلب رضا رئيسه وليس العكس..
أما أن يسأل الأعلى من هو أدنى منه عن رضاه ويريد له أن يكون راضيا فهذا ما يعجب له العقل و يذوب القلب تأثرا به؛ حين يسأل المولى أهل جنته فيقول لهم: « »(متفق عليه). بل ويسأل أدناهم وآخرهم دخولا فيقول: « » (رواه مسلم).
أن يقول الملك الجليل "لعلك ترضى" و "أترضى" و "هل رضيتم" و "لسوف يرضى" و "رضوا عنه" و "راضية مرضية" إلى آخر تلك الكلمات التي تدور كلها حول ذات المعنى: أن يرضى العبد!؛ فإن هذا مالا يجد له العقل تفسيرا إلا إذا تذكر أنه الرحمن الرحيم الأرحم بعبده من أم بولدها؛ وعندئذ يدرك العبد أن مدار الأمر وأوله ومنتهاه يكمن في تلك الكلمة ذات الأحرف القليلة: الرضا...
أن يلج العبد باب الرضا ليدخل إلى تلك الجنة الدنيوية التي يتذوق فيها طعم الإيمان حين يجد حلاوة الرضا بربه وبدينه وبنبيه ابتداء ثم بعد حين ترجع نفسه المطمئنة لربها راضية مرضية ثم ينعم انتهاء بسماع السؤال الرباني:
- عبدي أترضى؟
- يا أهل الجنة هل رضيتم؟
ثم يحل عليه الرضوان جزاء من جنس عمله كما ورد كل حرف مما سبق في الآيات والأحاديث الصحيحة عندئذ لا يملك العبد إلا أن يردد بكل ذرة منه كلمة أهل الجنة "قد رَضِينَا عَنْكَ فَارْضَ عَنَّا"
لكن هذه الخيرات في الدنيا والآخرة لا تنال بمجرد الكلام والشعارات ولا يجد حلاوتها من يكتفون عند سماعه أو قراءته بمصمصة الشفاه وهز الرؤوس اقتناعا أو أداء لواجب؛ كل ذلك لا ينال إلا بفهمه ثم تطبيقه على واقع المرء
أن ترضى بالله ربا..
أن ترضى بأفعاله وتدبيره؛ أن تقبل بحكمه وملكه وتصريفه؛ أن تعترف عمليا أنك العبد وهو الرب ومن ثم تقبل بأمره الكوني القدري وأن تستسلم وتمتثل لأمره الشرعي؛ وأن ترضى بالإسلام دينا؛ أن تقبل به شرعة ومنهاجا؛ أن تسير على صراطه وأن تحفظ حدوده؛ ألا تجد في قلبك حرجا من شرعه وألا يضيق صدرك بأمره أو نهيه وألا تبتغي غيره ولا تستبدل به أو ترضى بما دونه.
وأن ترضى بمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيا؛ أن تقبل به قدوة وإماما؛ أن تجعله نبراسا تهتدي بهديه وتقتفي أثره وتستن بسنته؛ ألا ترغب عن ملته ولا تزهد في سيرته ولا تخالف عن أمره.
حين يظهر كل ذلك عمليا على واقعك وينضح على سلوكك وأقوالك وأفعالك فقد ولجت تلك الجنة حقا واستشعرت تلك القيمة المنسية في زماننا هذا؛ القيمة التي استبدلها الكثيرون برضا من نوع آخر أبعدهم تماما عن دخول جنة الرضا الحقيقي؛ إنه الرضا بالدنيا: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ؛ أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس:8]
ليس مجرد حب للدنيا ولا رغبة عارمة في التقلب بين متاعها؛ إنه الرضا بها؛ الركون لشهواتها وملذاتها؛ تلك الشهوات والملذات هي منتهى الأمل لدى هؤلاء وهي غاية الأماني والطموحات {رَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ هذا الرضا مذموم في ذلك السياق مرفوض في هذا المقام؛ لأنه ليس رضا بالمقسوم ولكنه اكتفاء وانتهاء بالفانية عن الباقية
إنه رضا لا يرضاه الله؛ لأنه معطل عن سلوك سبيل رضاه وقاطع للطمع فيما رغب فيه عباده وارتضاه وبسببه صاروا لا يرجون لقاء الله.
{وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا}؛ وبعد أن رضوا بشهواتها يأتي الاطمئنان بأسبابها؛ هنا تتصدر في نفسه مبادىء المادية القاسية ويصير من معه قرش يساوي قرشًا ومن كان له ظهر لا يضرب على بطن إلى آخر تلك القواعد الدنيوية الجافة
لكن شهوات الدنيا دائمًا معكرة مدخولة وعند مرحلة ما تكون أسبابها عاجزة معلولة.
لذلك تجد حقيقة رضاهم بها منقوصًا واطمئنانهم بأسبابها مؤقتًا مدخولا فلا يتم الرضا ولا يتذوق هؤلاء تلك الحلاوة التي حدثنا عنها النبي صلى الله عليه وسلّم؛ حلاوة الرضا وجنته.