دجال الثورة

منذ 2016-01-17

يظل دجال الثورة تجليًا لحقيقة تعصف بالبعد الرومانسي والمثالي الذي لا يزال جم غفير من الناس يصدقه. حقيقة أن الثورة ليست بالضرورة تكتلًا من الطيبين والعقلاء يتصدى للطغمة الفاسدة!

كائن خفيف الوزن، لا تحتمل حماقته وخفته. قد يكون نكرة في الأحوال العادية، ولا اعتبار له في أوساط المثقفين والساسة وأهل الرأي، لكنه يبادر فور اندلاع ثورة أو احتجاج لقيادة الجمع الثائر وتصويب خطاه!

لا يلزمه إطار ثقافي يتحرك داخله للتعبير عن نفسه، ولا تعنيه رصانة الفكرة أو عمق الخطاب، لأن المنسوب الفكري للجماهير لحظة الغضب والعنف ينخفض ويتراجع، فلا تحتمل المحاججة العقلية بقدر ما تستجيب للتهييج وإطلاق الغرائز. إنه دجال الثورة الذي لا يعنيه سوى جني المكاسب قبل أن تفيق الجماهير من سكرة الحدة والانفعال، ولا يريد منك سوى أن تطفئ سراج عقلك وتتبعه!

بداية لا بد من الإشارة إلى الفروق الواضحة بين دجال الثورة والقيادة الكاريزمية التي تعمد إلى تغذية أسباب النزاع الداخلي بناء على اختلاف الآراء والمواقف مع من هم في سدة الحكم وصنع القرار. ذلك أن هذه القيادات تملك شرعية الحضور في المشهد السياسي بناء على مواقفها تجاه صناع القرار، وتعرضها لأشكال الإيذاء والتضييق خاصة في النظم القمعية، ما يحقق لها شعبية واصطفافًا جماهيريًا يزكي حضورها عند حدوث توترات سياسية. أما دجال الثورة فلا يملك من هذه المواصفات ما يتيح له الحضور في المشهد العام قبل تفجر البركان.

يحيلنا المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (الآراء والمعتقدات) على بعض العوامل التي تُكسب النفسية الفردية صفة الجماعة، وتهيئ الأرضية المناسبة لبروز دجال الثورة على نحو غير مستساغ. فالعدوى النفسية وسط الجموع الثائرة تتيح انتشار أقواله وخطبه دون الالتفات لقيمتها العقلية، لأنه خطاب موجه للاشعور ولا دخل للعقل فيه. بل إن العدوى قد تكون مؤثرة حتى على بعض أرباب العلم والقلم الذين ينحازون،كما يقول لوبون إلى أكثر المعتقدات والآراء و المواقف شؤمًا ومخالفة للصواب! أما الإعلام،كعامل ثان، فلا يقل ضراوة في التأثير وتزكية حتى المخبول، ما دام الإيقاع الثوري لا يسمح بغير التأليب والتجييش، والتشكيل الفوري للقناعات اللازمة. لذا سرعان ما يتحول دجال الثورة إلى قبلة للمنابر الإعلامية، وصانع للحدث الذي يجري تضخيمه وتلميعه. ولعل المواكبة الإعلامية لما بات يُعرف بالربيع العربي قد سلطت الضوء على دور بعض وسائل الإعلام في تنصيب دجالين للثورة بغية خفض سقف المطالب الاجتماعية، والتلاعب بمطامح وآمال الجمع الثائر.

تثور الشعوب لتصحيح المسار ورفع الظلم، لكن غياب مشروع حضاري يمكن الالتفاف حوله يلقي بمرحلة ما بعد الثورة في كنف المجهول. نعم، يكون المد الثوري هادرًا وكاسحًا إلى حين فرار الطاغية أو حل الحكومة الضعيفة وبرلمانها المهزوز، بعدها يشرع الثائرون في البحث عمن يواصل كنس المشهد وتأثيثه بخطاب جديد ورؤية تحقق أهداف الثورة. وغالبًا ما يكون البديل إما قيادة حظيت بالثقة قبل الحراك، وإما ذوات هي أقرب إلى النبت الشيطاني، تماهت مع السخط العارم وادعت أنها بنت شرعية للثورة وبإمكانها الاستجابة لكل التطلعات ودفن العاهد البائد إلى غير رجعة. وفي كلتا الحالتين يُطرح السؤال الممض حول عجز الشعوب عن استكمال ثورتها، ووقوعها في فخ دجال الثورة الذي لن يتورع عن إجهاض مسلسل التحرر والانعتاق من الظلم والاستبداد والجوع.

يقدم هاشم صالح(1) تفسيرًا لهذا النكوص مفاده أن الإنسان المستعبد لردح طويل من الزمن يختل توازنه إذا ما أعطيته الحرية فجأة، ويلزمه وقت طويل ليستعيد هذا التوازن ويستسيغ طعم الحرية. يُضاف إلى ذلك أن كون الحرية مسؤولية والعبودية راحة يحمله على أن يلقي بالمسؤولية على كاهل الأب أو الشيخ أو الزعيم -أو حتى الدجال كما أسميته- الذي يفكر نيابة عنه.

أما الدكتور نبيل راغب(2) فيرد الأمر إلى الالتباس الحاصل في العقل العربي بين مصطلحي الثورة و التنمية، وتوهم الشعوب -العربية تحديدًا- أن الثورة خطوة أولى في مسلسل تنمية تستكمله النخب البديلة. بيد أن ما لم يدركه هذا العقل الذي عانى من غيبوبة مزمنة هو أن التنمية مصطلح علمي اقتصادي ومنهجي يعتمد على دراسات الجدوى والحساب الدقيق لا على العوامل الثورية. وأن الثورة التي تحدث تغييرًا مفاجئًا في الأوضاع السياسية والاجتماعية لا يمكنها أن تحقق التنمية، نظرًا لارتباطها بمقدمات التحول التاريخي من مجتمع تقليدي بتكويناته ونظمه وعصبياته إلى مجتمع حديث يُدار وفق آليات المجتمع المدني القابل للتطور إلى نظام ديموقراطي.

من أين يأتي دجال الثورة، أو بالأحرى ما هي البيئة التي تشكلت لديه فيها محفزات الانضمام للجماعة الساخطة المتذمرة، وادعاء تمثيل المقهورين؟

سؤال حاول كرين برنتون(3) الإجابة عنه عبر استخلاص الأنماط الثورية من التراجم المتاحة لعدد من الثوريين، سواء كانوا زعماء أو أفرادًا أقل شأنًا. وباستعراض النماذج والأمثلة التي ساقها الباحث يمكن الوقوف على عدد من المنافذ قد يمرق منها دجال الثورة ليسرق الشعلة ويحقق أهدافه الخاصة.

فقد يكون دجال الثورة من طبقة بارزة في المجتمع لكنه يشترك في الثورة لسبب خسيس هو الحفاظ على ثروته ومكانته، والحصول على نفوذ سياسي يستعصي عليه نيله في الأوقات العادية. وهذا النمط لا يؤمن في العادة بالأفكار المجردة التي تدغدغ مشاعر الثوريين كالعدالة والمساواة وغيرها.

وقد يكون من الفاشلين في تحقيق طموحه، ولا يملك من المواهب والألقاب الأكاديمية ما يتيح له التموقع في دائرة الضوء، فيتولد لديه حقد على النماذج الأكثر شعبيةً وحضورًا في المشهد العام.

وقد يكون من المنحرفين ذوي الميول الإجرامية فيجد في الثورة مجالًا رحبًا لارتكاب أبشع الجرائم باسمها. وكم من مذابح ومآسي ارتُكبت باسم الثورة، واتُخذت فيها القسوة مبدأ وشعار دون اكتراث بالتداعيات اللاحقة. ولو أنها ارتكبت في مجتمع مستقر لما كان الثوري سوى مظهر زائف للمجرم والسفاح.

وقد يكون من هواة الجدال الفظ والمنازعات والشذوذ عن القاعدة في كل شيء. غير أن جداله المستمر لا ينم عن فكر مخالف للسائد بقدر ما يعكس حقدًا ومرارةً ورغبةً مجنونةً في التحطيم تجد ملاذها عند اندلاع ثورة.

 سواء كان من الفاشلين في الأوقات العادية، أو من المخبولين والمنحرفين الذين يستعصي فهمهم دون مساعدة من علم الإجرام وعلم نفس الشواذ، أو حتى من رجال العصابات وممثلي القسوة الإنسانية، يظل دجال الثورة تجليًا لحقيقة تعصف بالبعد الرومانسي والمثالي الذي لا يزال جم غفير من الناس يصدقه. حقيقة أن الثورة ليست بالضرورة تكتلًا من الطيبين والعقلاء يتصدى للطغمة الفاسدة!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هاشم صالح: الانتفاضات العربية في ضوء فلسفة التاريخ. دار الساقي 2013- ص137.

(2) د.نبيل راغب: الغيبوبة العربية. دار غريب 2006- ص 283.

(3) كرين برنتون: دراسات تحليلية للثورات- الهيئة العامة لقصور الثقافة- مصر 2010- ص113 وما بعدها.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 2
  • 0
  • 4,556

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً