[18] المحاسبة 1-2
خالد أبو شادي
المحاسبة قضية مهمة للغاية، تدور عليها السعادة ولا يحصل الصلاح إلا بها. محاسبة النفس أمر عظيم جدًا، المحاسبة لا تصلح النفس إلا بها، المحاسبة من قام بها اليوم أمِن غدًا، المحاسبة أن تنظر في نفسك وتتأمل فيها وتعرف عيوبها، المحاسبة لا نجاة إلا بها {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
- التصنيفات: أعمال القلوب -
المحاسبة قضية مهمة للغاية، تدور عليها السعادة ولا يحصل الصلاح إلا بها. محاسبة النفس أمر عظيم جدًا، المحاسبة لا تصلح النفس إلا بها، المحاسبة من قام بها اليوم أمِن غدًا، المحاسبة أن تنظر في نفسك وتتأمل فيها وتعرف عيوبها، المحاسبة لا نجاة إلا بها {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]
المحاسبة تصدر من التأمل في هذه النصوص:
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ . فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:6:8]، المحاسبة انطلاقًا من آثار قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]. المحاسبة تنطلق من الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب فيه الخلائق وقد حذرنا الله ذلك اليوم فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
المحاسبة تنطلق من الإيمان بأسماء الله وصفاته وأنه تعالى الرقيب المهيمن المطّلع على ما تعمل كل نفس، وأنه شهيد على أعمالنا فهو الشهيد على أعمال عباده، جعل علينا كرامًا كاتبين يحصون أعمالنا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. المحاسبة تنطلق من إيمان الإنسان بالهدف، بالغرض، أن يعلم أنه لأي شيء خُلِق: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36].
محاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى، داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك، توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان، من أطاعها قادته إلى القبائح، ودعته إلى الرذائل، وخاضت به المكاره، تطلعاتها غريبة، وغوائلها عجيبة، ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات:37:39]، وعلى النقيض {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ} [النازعات:40].
الدليل على المحاسبة من القرآن الكريم:
الآية التي أمرنا الله فيها بالمحاسبة هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، تنظر أي تفكر وتتفكر.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه سرًا وعلانية في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وحدوده، وينظروا مالهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقف عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أن الله خبير بما يعملون لا تخفى عليه أعمالهم ولا تضيع لديه ولا يهملها أوجب لهم الجد والاجتهاد".
وقال الشيخ عن هذه الآية: "وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة، والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ويشابه قومًا نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطًا فرجعوا بخسارة الدارين وغبنوا غبنًا لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون".
وقد قال تعالى في كتابه العزيز: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فإذًا ينبغي على العبد أن ينظر في حاله ويحاسبها ويتوب من التقصير، فالمحاسبة تقود إلى التوبة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201].ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه -والشريكان يتحاسبان عند نهاية العمل-، ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لها عند الموت: "ماأحد من الناس أحب إليّ من عمر"، ثم قال: كيف قلت؟ فأعادت عليه كلامه، فقال: "لا أحد أعزّ عليّ من عمر". فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة أخرى لأنه رآها أنسب وأحسن وأدق وأصدق.
قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة" ثم قال: "المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول والله إنك تعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات! حيلي بيني وبينك!"، هذا نموذج من الحساب لشيء يعرض للإنسان مزيّن ويعجبه وتميل إليه نفسه ولكنه يتركه لأنه ليس من مصلحته في الآخرة، -ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردتِ بهذا؟!-، يفرط أي يسبق ويحصل ويقع.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطًا فسمعته يقول بيني وبينه جدار "يا أمير المؤمنين! بخٍ! بخٍ! والله لتتقين الله أو ليعذبنّك!"، فهو يذكر نفسه بأن هذا اللقب أمير المؤمنين لا يغني عنه من الله شيئًا.
قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2]، "لا يلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه".
وقال مالك بن دينار رحمه الله: "رحم الله عبدًا قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائدًا". وهذا من حساب النفس.
وقال ميمون بن مهران: "التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح".
وقال إبراهيم التميمي: "مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فأنتِ في الأمنية فاعملي إذًا لتكوني في الجنة في ذلك النعيم".
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: "إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبّ ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب".
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: «
» [سنن الترمذي: 1105]. وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من شرها عمومًا ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع الاستعاذة من سيئات النفس وسيئات الأعمال فهذا معناه أن هناك أمرين:1- أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال.
2- المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها.
فاستعاذ من صفة النفس وعملها، أو استعاذ من العقوبات وأسبابها، ويدخل العمل السيء في شر النفس لأن النفس الشريرة تولد سيء العمل فاستعاذ منهما جميعًا. وهذا العمل الذي يسوء صاحبه يوم القيامة وهذه النفس الشريرة التي تأمر بسيء العمل؛ لابد من محاسبتها وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأن لا يُدخل على الله سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد الظفر بالنفس وكفها عن الشر فإن الناس قسمين:
1- قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعًا لنفسه الشريرة الأمّارة بالسوء تحت أوامرها ويعمل على هواها.
2- قسم ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعًا لهم منقادة لأمرهم.
قال بعض أهل الإيمان والحكمة: "انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه؛ أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسِر وهلك". {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ} [النازعات:37:40]. ومن لم يحاسب نفسه فاته من الخير بقدر ما فاته من المحاسبة، ولذلك على المسلم أن يصون نفسه عن المحرمات ويبتعد عن الشبهات ولا سيما أهل العلم، فمن لم يصن نفسه بهذا لم ينفعه علمه، لأن العلم للعمل كالسلاح للمجاهد فإذا لم يستعمله ماذا يفيده؟!، وكالأطعمة المدخرة للجائع إذا لم يأكل منها فبماذا تنفعه؟!
يحاول نيل المجد والسيف مغمدٌ *** ويأمل إدراك العُلا وهو نائم!
إذًا بدون محاسبة لا يمكن الوصول، والذي لا يصون نفسه عن ما يخرم المروءة وعن ما يُكره بعد ما يصونها عن الحرام فهذا إنسان هالك، فصيانة النفس أصل الفضائل لأن من أهمل نفسه إتكالًا على العلم الذي عنده -وهذه آفة ينزلق إليها بعض طلبة العلم- ربما لا يحاسبون أنفسهم إتكالًا إلى العلم الذي عندهم، فربما يكون هنا الجاهل أو العامي أفضل من هذه الجهة، لأنهم يحسون أن أنفسهم قاصرة فيحاسبون ويفتشون، أما بعض الناس الذي يطغيهم العلم فلا يحاسبون أنفسهم ويتكلون على العلم الذي معهم لأنه يرون به رفعة درجة، فلماذا يحاسبون فيتركون الحساب والمحاسبة فتظهر القبائح والعورات فيكون الحسد منهم واتباع الهوى والتنازلات في الفتاوى والأخطاء.
فلذلك محاسبة العلماء لأنفسهم وطلبة العلم ينبغي أن تكون أشد ما تكون، لأنه إن حاسب نفسه انتفع ونفع الناس وإذا ترك محاسبة نفسه ضلّ وأضلّ، الجاهل لا يقتدي به أحد، لكن هذا الذي ينصب نفسه قدوة في الدعوة والعلم ثم لا يحاسب نفسه يُهلك.
أيها العالم إياك الـزلل *** واحذر الهفوة والخطب الجلل!
هفوة العالم مستعظمة *** إذ بها أصبح في الخلق مثل!
وعلى زلّته عمدتهـم *** فبها يحتج بها من أخطأ وزلّ
لا تقل يستر عليّ العلم زلّتي *** بل بها يحصل في العلم خلل
إن تكن عندك مستحقـرة *** فهي عند الله والناس جبل
ليس من يتبعه العلم في *** كل ما دقّ من الأمر وجلّ
مثل من يدفع عنه جهله *** إن أتى فاحشة قيل قد جهل
انظر الأنجم مهما سقطت *** من رآها وهي تهوي لم يُبل
فإذا الشمس بدت كاسـفة *** وَجِل الخلق لها كل الوجل
وتراءت نحوها أبصارهم *** في انزعاجٍ واضطرابٍ ووجل
وسرى النقص لهم من نقصها *** فغدت مظلمة منها السُبُل
وكذا العالِم في زلّته *** يفتن العالم طُرّاً و يُضِلّ!
فنحن نرى الآن نماذج كثيرة من إضلال بعض هؤلاء في الفتاوى المتساهلة، لأنهم لا يحاسبون أنفسهم وبالتالي يقعون في المزالق وما استقطبهم أهل الشر إليه من الأفخاخ التي نصبوها لهم فقعوا فيها وجاملوا على حساب الدين. فينبغي على كل الناس أن يحاسبوا أنفسهم الذين عندهم علم والذين ليس لديهم علم، فالذي لديه علم يحاسب نفسه هل عمل به؟ وهل هو يقوم به لله؟ وهل يبلغه؟ أم يكتمه؟ وهل هو مقصّر فيه؟ وهل عبد ربه به؟ وهل بذله للناس صحيحًا أم راعة أهواء بعض القوم فسهّل لهم أشياء بزعمه؟، أما صاحب الجهل فيحاسب نفسه، كيف يعبد الله على جهل؟ متى يزيل الجهل؟ كيف يزيله؟ إلى متى يبقى؟ كيف يتعلم؟ وبماذا يبدأ.... وهكذا، والنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع الابتلاء والمحنة.
وقد وصف الله النفس في القرآن الكريم بثلاثة أوصاف: المطمئنة واللوامة والأمّارة بالسوء؛ فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه فهي نفس مطمئنة، وهي التي يقال له عند الوفاة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27:30]، المؤمن اطمأنت نفسه إلى وعد الله، النفس المطمئنة بما قال الله والمصدقة بما قال، النفس المطمئنة هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشًا لأمره وطاعته وأيقنت بلقائه. -هذه أقوال ابن عباس وقتادة والحسن ومجاهد-.
وحقيقة الطمأنينة السكون والاستقرار فسكنت إلى ربها نتيجة طاعته وذكره واتباع أمره ولم تسكن إلى سواه، فاطمأنت إلى محبته وعبوديته والإيمان بخبره ولقائه، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، وللرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا، واطمأنت إلى قضائه وقدر وإلى كفايته وحسبه وأن الله يدافع عنها ويكفيها الشرور وكيد الكائدين والحاسدين والأعداء، فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله وأن مرجعها إليه ولا غنى لها عنه طرفة عين.
وعلى الضد النفس الأمارة بالسوء، تأمر صاحبها باتباع الشهوات من الغي والباطل فهي مأوى كل سوء، تقوده إلى القبيح والمكروه، وقال أمّارة ولم يقل آمرة!!، أمّارة صيغة مبالغة، وهو أبلغ، فهي كثيرة الأمر بالسوء إلا إذا رحمها الله فجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فعند ذلك تكون شيئاً آخر، والنفس أصلًا خُلِقت ظالمة جاهلة إلا من رحمها الله، والإنسان ظلوم كفار {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، نعم أوجد عندهم الاستعداد الفطري لقبول الحق إذا عُرِض عليهم بغير مؤثرات خارجية مفسدة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، لكن بدون تعلم؛ النفس تبقى جاهلة فيها هوى ولو تركت بدون تربية وتروض تدعو إلى الطغيان وتميل إلى الشر، والعدل والعلم طارئ عليها وليس أصل فيها.
الأصل في النفس ليس أنها صاحبة علم وعدل، الأصل في النفس الجهل والظلم، الإنسان ظلوم جهول، كما أخبر الله سبحانه وتعالى إلا من رفع الجهل بالعلم ورفع الظلم بالعدل، وألزم نفسه العلم والعدل فقام عليها بهما فعند ذلك تلهم رشدها وتتوقّى الظلم والجهل، ولولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكى منهم نفس واحدة، فإذا أراد بها خيرًا جعل لها اتجاهًا إلى العلم ومجاهدة في العدل.
وسبب الظلم في النفس الأمارة بالسوء إما الجهل وإما الحاجة، ولذلك كان أمرها بالسوء لصاحبها لازمًا لها إلا إذا أدركته رحمة الله، وبذلك يعلم أن العبد مضطر إلى الله دائمًا محتاج إلى ربّه باستمرار، فإذًا الإنسان محتاج إلى الرب حتى يكفى شر نفسه، سائلًا إياه أن يعينه على شر نفسه، وضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة، وأكثر من ضرورته للطعام والشراب والنَّفَس.
أما النّفس اللوامة فقال بعضهم: من التلّوُّم وهو التلوّن والتردد، وقال بعضهم: من اللوم وهذا أرجح، لأنه لو كان من التلون والتردد لقال (ولا أقسم بالنفس المتلومة) المتلونة والمترددة، لكن الأرجح أن اللوامة من اللوم، تلوم صاحبها على الخير وعلى الشر، حتى يوم القيامة يمكن أن تلومه نفسه، إن كان محسنًا لماذا لم يزدد إحسانًا وهذه مراتب الجنة أمامه، وإن كان مسيئًا لماذا عمل السوء، وهذه النار أمامه؟! فهي تلومه في الدنيا وتلومه في الآخرة!!، تلوم المسيء أن لا يكون رجع في إساءته وتلوم المحسن أن لم يزدد إحسانًا، فإذًا النفس اللوامة في الخير والشر؛ نفسٌ مخلّطة فيها خير وشر، فتلوم صاحبها على الخير، لماذا لم تزدد منها وتلومه على الشر لماذا وقع فيه.
إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاتها، يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قدمًا لا يعاتب نفسه كما قال الحسن البصري رحمه الله. فإذًا اللوم صفة لهذه النفس، فالنفس تارة تكون أمارة بالسوء وتارة لوامة وتارة مطمئنة!، إذًا ليس بشرط أن تكون النفس عند فلان من الناس دائمًا مطمئنة أو دائمًا أمارة بالسوء، قد تكون ساعات هكذا وهكذا!، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها هذا وهذا والحكم للغالب عليها من أحوالها. فكونها مطمئنة وصف مدح لها، وكونها أمارة بالسوء وصف ذمٍّ لها، وكونها لوّامة ينقسم إلى مدح وذم بحسب ما تلوم عليه وهذه حال النفس.
كثيرًا ما يكون الإنسان المسلم العادي يمر في حالات نفس مطمئنة كأن يكون في عبادة (صلاة التراويح - في الحرم - في عمرة - في عرفة)، وتارة أمارة بالسوء (إجازات - سياحة - سفريات – معاصي) ، وتارة لوامة تلوم صاحبها في الخير والشر.
ومحاسبة النفس من علاج مرض القلب، لأن مرض القلب لا يمكن إزالته وعلاجه إلا بمحاسبة النفس ومخالفتها فعندنا مبدآن في التعامل مع النفس، المحاسبة يتبعها المخالفة، وهلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها، لذلك العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كلامًا مشهورًا محذرًا من الإهمال في محاسبة النفس وأنه يقود إلى الهلاك يوم القيامة: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم (أعمالكم) قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم"، وقال صلى الله عليه وسلم: «
» [سنن أبي داواد:3093]، فكيف يتلافى المرء مناقشة الحساب غدًا؟!!، بمحاسبة النفس اليوم.والحساب اليسير صاحبه ناجٍ وسينقلب إلى أهلها مسرورًا، أما حاسبناها حسابًا شديدًا وعذبناها عذابًا نكرًا فهذا الحساب الشديد نتيجة عدم المحاسبة الآن. وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، فقال الحسن رحمه الله: "لا تلقى المؤمن إلا ويحاسب نفسه، ماذا أردتِ تعملين؟ ماذا أردتِ تشربين؟ماذا أردتِ تأكلين؟، وقال قتادة في قوله {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]: "أضاع نفسه وغُبِن"، يحفظ ماله ويضيع دينه!. قال الحسن: "إن العبد لايزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته".
ويوجد واعظ في قلب كل مسلم إذا أراد أن يدخل في باب حرام قال: ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!، لا تزح الستار عن باب الحرام، إنك لو نظرت انجذبت، ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!. قال ميمون بن مهران: "النفس كالشّريك الخوّان إن لم تحاسبه؛ ذهب بمالك!".
المحاسبة وقت الرخاء سهلة بالنسبة للمحاسبة في وقت الشدة، فرحم الله عبدًا قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا وكذا؟! هذا نوع من الحساب على المعاصي، وحساب على النوايا كقولك ماذا أردتِ بالعمل والأكلة والشربة.